قضايا

المسلمون على شفا حُفرة: ما بين "إما" و "أو"

altayb baytalalwiقال جلال الدين الرومي: ويحك يا عديم الجدوى !إن الروح التي ليس شعارها الحب الحقيقي، من الخير ألا توجد، فليس وجودها سوى العار

 

مقدمة:

الإسلام ليس إسلام البدوي الأعرابي، أوإسلام العربي اوالمستعرب، أوالحضري المديني، ولا إسلام تشايخ الشيوخ والإئمة، او تعالم العلامات اوالفقهاء أوإسلام مذهب بعينه أوطائفة بعينها، أوعرق بذاته أوسلالة معينة أوسلطة بعينها، ولاهوإسلام ملوك وسلاطين، أوإسلام رؤساء قبائل ومشايخ عشائر .

كما أن الإسلام ليس هوذلك الدين الذي يقسم الناس إلى كفرة فجرة بمطلق اليقين، أوإلى كرام بررة بالقطع المكين،

بل إسلام القرآن - لا إسلام الطوائف والمذاهب-هوعكس ذلك كله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) و لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي

وبالتالي:

فإن حياة الأمم في أي عصر هي حاصل حياة أفراده، ... وحياة الأفراد حاصل ما يفكرونه ويحققونه في واقعهم اليومي...، ومن ذلك يتكون روح الأمم- خيرا أو شرا-...، وما أخطاء الأمم والدول والشعوب إلاأخطاء الروح التي يحيا بها بنو العصر...،

ومن هذا المعنى: فهل كان لزاما أن يدمر العرب أنفسهم مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وهم لا يشعرون...؟. هكذا يتساءل العقلاء و العارفون وهكذا علمنا التاريخ من زاوية النظر والعبر

ومن هذا المنظور: فلا يمكن للعرب والمسلمين-وهم يعيشون في الثلث الأول من القرن الواحد والعشرين-أن يختزلوا قرآن كل المسلمين إلى إجتهادات حجة إسلام أو شيخ إسلام ، ثم يتناحرون فيما بينهم ويتنابزون بالألقاب، لكي يفصلوا في شأن الفرقة الناجية التي ستنعم بنعيم الجنة و الفرق المارقة التي ستُخَلَد في النار

وليس كل متمسح بالدين والتراث على قدرما تصوره له ظنونه وتملي عليه أهواؤه، أوعلى قدرما يطلب منه من الحكام والسياسيين والمتحزبين يخدم الأمة والإسلام...، فمعظم من يكتبون اليوم في الدين وفي أزمة العقل العربي والمسلم وفي تراثه–من منتمين للدين ولادينيين-، هم مرآة لعصرنا العربي الحالي المتدهورالذي نعيش فيه، ومعظم هؤلاء الكاتبين العرب في الإسلام والعروبة والقومية العربية واللادين، هم مرآة لهزيمة العرب والمسلمين، أمام الغزوات الخارجية المدججة بأعتى الإسلحة المادية المرعبة المدمرة للعباد والأنعام والبلاد، والمسلحة بالعتاد المعنوي الفتاك بالأرواح والقلوب والعقول...،

فقد أصبح الإسلام المطروح اليوم على الساحة العربية الإسلامية، وعلى أبسطة التنظيرات الحداثية المناوئة للإسلام، مجرد أطروحات مبرقعة لا لون مميِزلها، وهذاءات مؤدلجة أسيرة ومشتتة لا جامع لها، إنتشرت في الأسواق الفكرية العربية–الدينية واللادينية(يسارية أو يمينية)- بحكم الإنكسار الحضاري، وبسبب الفراغين الروحي والثقافي–والطبيعة تكره الفراغ–فجاءت في مجملها بمثابة الحقنات الهرمونية المشظية للعقل، والمضخمة لنرجسة الأنا ، والمعملقة للبغي والشنار، والصادمة للأحاسيس والوجدان، بالرغم من إنحطاط مستوياتها البحثية- الأكاديمية وتسربلها بعباءات الحفاظ على التراث والأصالة او مسايرة العصروالحداثة ، ليتجوى الإسلام الجديد داخل عقول المتلقين العرب والمسلمين الجدد، والناس أجمعين، كمولود لقيط مشوه سقيم، يتلون تاركا العنان لكتاب السيناريوهات المرعبة، والمقالات السياسية والثقافية السريعة: Take Away ,التي يتمثلها الذهن الإنساني، كما يتمثل جسده وجبة الهمبورغر السريعة في نسج تصورات وخيالات عناوينها:المزيد من العنف,والمزيد من إختراق الإسلام وتخريب عقول المسلمين، والمزيد لإجتياح الجغرافية العربية بغية إستعباد أهلها ونهب خيراتها، ومزيدا من اختراق العالم الأصغر microcosme عبرإنسان نواكشوط والرباط وتلمسان والقاهرة ودمشق وعمان وبيروت وطهران ونيودلهي وكراتشي مرورا بروما وموسكووباريس ولندن وصولا الى نيويورك وهلسنكي وسيدني، ذلكم الإسلام الخاضع لأولياء الأمور من الساسة ولمتطلبات جماعات الضغط، والمسترشد بحاملي راية الدين من المفتين والعلامات الجدد ...، حيث تناسل في الأمة من العلامات والفقهاء اليوم من يصنعون من الإسلام حصانا خشبيا أجوفا يحتشدون حوله ويصطفون سائرين خلفه، ثم يلزمون عموم الخلق بالإقتناع به وإتباعه، والدعوة له بمقولات النخبوية السلفية المتغطرسة المعاصرة، والدفاع عنه بالغلظة والجلافة، او ببقر البطون وجزالرؤوس .

ومن هذه الزاوية :، وبالنظرإلى أن المصاب قد عم وطم...، فسينتهي بنا الأمرإلى ضياع الحقيقة، مادمنا مستمرين منذ النهضة العربية المزعومة، في التحليق على سطوح الأفكار، بالإصرارعلى الدوران حول مصطلحات فكروية فارغة دوارة –صفراء أو وردية-، واللهث وراء مفاهيم وهمية تقعرت بالإجترار والتكرار في أذهان مثقفينا: الحداثيون و القبوريون معا–، والترطين بها كمصطلحات ومفردات ومفاهيم لم يعد لها ذكر في الغرب منذ الستينات مثل الحداثة الإسلامية و التقدمية و الرجعية و الأصالة والمعاصرة و الفرق الإسلامية الناجية والضالة وسيكون نتيجة هذا العبث والخلط والخبط، والمصيرالمفجع الحتمي، هو تشطيب الأمة بالكامل من خارطة الإعتراك الحضاري العالمي -وهذه المرة إلى غير رجعة-

 

ومن هذا الباب أيضا :فإن الإسلام الربيعي-الذي كل يوم هوفي شأن-أصبح مثل جسم بيولوجي حي مطروح أمام المفكرين والمتفلسفين والساسة والفقهاء والمثقفين، يتميزبهيكله الجديد المتعملق الفرانكيشطاني المرعب، بتورماته السرطانية التي تطفوعلى جلد الامة، على شكل بثورمتعفنة، بعد أن تنامت العلة العربية فإصبحت مثل الأخطبوط المتعدد الأطراف، تئن وتتلوى وتخنق الأنفاس وتغتال الأروح بمفردات ومفاهيم ومصطلحات وهاجة، منها ما يدعي الغرف الصافي من المتون القديمة، ومنهاما يتحايل على القرآن والنصوص التراتية، وتغليفها بشعارات مناهج العلوم الإجتماعية الغربية الأركية والأبحاث الإبيستيمولوجية التي طفرت طفرات كبرى منذ الستينات مع عجز النخب العربية المفكرة عن إستيعابها أومسايرتها،

فلم يبق، -من هذا المنظار-مجال للإختفاء وراء الشعارات اوالمداراة بالأغلوطات والمغالطات، أوالجدل العقيم والإلتواء حول الحقائق:وذلك لأن الإسلام الجديد يطرح تساؤلا خطيرا على العرب والمسلمين–ونحن في الثلث الأول من القرن الواحد والعشرين– يشبه إلى حد بعيد ذلكم التساؤل الأنثروبولوجي الأخطر في تاريخ الحضارة الغربية الذي طرحه عمانويل كانط في عام 1797 بعد مرورحوالي أربعة قرون على ما يسمى ب النهضة الأوروبية حيث كان التساؤل: ما هوالإنسان؟وماهو التنوير؟-ولم يستطع أحد في الغرب أن يجيب عن هذا السؤال حتى كتابةهذه السطور-ونحن في القرن الواحد والعشرين- وحيث سجل ذلك التساؤل الأخطر في كل تاريخ الفكر الغربي منذ أريسطو أهم إنعراج فاصل ونهائي في المسارالمستقبلي الغربي برمته والذي فصل نهائيا خلق القطيعة الدامية ما الإنسان الغربي و مصادر روحانيته، وقطع الحبل السرى و القناة الموصلة الوحيدة ما بين الإنسان الغربي ومصدره الخلقي- الروحي أو الإيجادي ، لتسقط بقايا الإنسان المبتور عن أصله، فلم يتبق من الإنسان سوى ركامات حطام الإنسان وظلاله

حيث أصبح العرب والمسلمون مهددون ب الإنقراض المعنوي مع الإبقاء على الأخشاب العربية الفارغة المتراصة ببشاعة والمتراكمة بقباحة، التي نخرتها دودة الغفلة وفيروسات التطاحانات الطائفية والإثنية والإيديولوجية، فأضحوا اليوم في عداد :إما أن يكونوا أولا يكونوا ...، وذاك هو السؤال المرعب

وبالمقابل فإن التساؤل الأخطرالذي يواجه اليوم العرب والمسلمين هو:

هل سيتستمر إسلام القرآن واقفا على قدميه في المرحلة الغربية الجديدة الإنتقالية التي عبرت عن نفسها منذ نهاية الحرب الباردة بأطروحات النهايات في التسعينات، والتي ترجمت على الأرض في الثلث الأول من القرن الواحد والعشرين بالهجومات المتتابعة على ديارالعرب والمسلمين بالحروب البوشية العنيفة، أعقبتها حروب ناعمة وثورات مشبوهة وملغومة، أفرزت الحدث الربيعي العربي الأكبر الذي لم يفرز بدوره–عمليا- للامة العربية سوي إستحداث حوالي خمسين فرقة تكفيرية ناجية ...، في ظرف وجيزقياسي لا يتعدى العامين، تَم جمعها و قولبتها في أكثر المصطلحات هجومية ومصادمة لم يعرفها تاريخ العرب والمسلمين منذ عصورإنحطاطهم في القرن الثامن الهجري، وهو مصطلح : الدولة الإسلامية القارية التي يراد لها ان تنتشرفي الآفاق وعلى سطوح الدعقاء بالبقر والنحر، وبالهمجية والإجرام، إنتظارا لإنجاز الخلافة الراشدة التي يختلف على ترتيبها وعددها المنظرون لما يسمى بالاسلام السياسي أو السلفوي ، أوعبر التخريجات الجديدة للإسلام المتـأمرك الجديد المؤصل له بفتاوي شرعية ، ويختلف على جغرافيتها -هل من جاكارطا إلى طنجة- كما سماها المرحوم مالك بم نبي ام من حوض سيكيانغ بداخل الصين الى أرباض نيجيريا بأقاصي أفريقيا كما ينظرلها الإسلام السلفوي او الإسلام السياسي العابر للقارات؟ وما هي مواصفات خليفتها المنتظر وماهي عاصمتها.؟ ثم يُفرض على الأمة أن تقبل هذا الإسلام الجديد، ووجها معفرفي التراب، على انه الإسلام الصحيح، وعلى أن إبن تيمية هووحده إمام الأئمة الخالد، و شيخ الإسلام الأوحد، الممثل للتراث الإسلامي المنقح الصافي

 

تساؤلات محرجة ولكنها مشروعة:

غيرأن هذا التساؤل الخطير، يثيرنقاطا هامة أخرى تحتاج إلى توضيح:

 

أولا: إلى متى سيظل العرب المؤمنون والمسلون المتدينون في عالم السنة أسيري الإنبهار بالخطاب السلفوي التكفيري المضلل، الذي طال عهده منذ قرون-عمليا منذ القرن الثامن الهجري-والذي أسهم في تغذيته وتطويره منذ بداية القرن الماضي ما يسمى ب الإسلام السياسي الذي يدعي فتح آفاق كونية جديدة للعرب- سواء بالإيماء والإيحاء والمغالطة، أوبالتصريح المباشروالمخاطبة-بالعمل بإستمرارعلى الإيهام بالتدليس والتلبيس على تجاوز الغرب بدون طرح منهج أو برامج أو الكيف فطغى منذ اوائل السبعينات الطرح الإسلاموي الذي أصل له علامة الأمة – القرضاوي– بما يسمى الحل هو الإسلام ولسنا ندري عن إسلام يتحدثون؟ثم جاء ربيع العرب فإنمحى ذلك المشروع كما ينمحي الملح في الطعام، وبُهت المدعون والمتنطعون-وقد هلك المتنطعون- كما جاء في الأثر

 

ثانيا: هل سيضل العرب-اللادينيون- يستظهرون بكل إمعية ما يفرزه العقل الغربي في كل مراحله الإنتقالية .؟

وهل سيضل الحداثيون العرب يلهثون وراء سرابات وفقاعات التنظيرات الغربية حتى أكثرها بذاءة وغرابة ؟-والغرب الغروبي ولاد فلسفات عند غروب كل مساء- كما يقول – هيدغر-؟

وهل سيظل هؤلاء منجرفون مع الأطروحات الغربية-التي هي كل يوم في شأن-الساعية دوما الى تغريب العالم تحت وطأة إيجاد الأحسن the best شريطة القضاء على كل ما هو حسن كما كتب سيرج لاتوش– وليستهدي بها العرب حتى في مراحل الغرب الأكثرإنحرافا وهذيانا؟-

وهل هناك في الغرب مرحلة عملاتية يمكن للعرب الإقتداء بها منذ إغريقيته الى ما بعد كولونيالته وصولا إلى هذاءات اللاءات للستينات وأكذوبات تقارب الأنظمة للسبعينات وخطابات المابعد للثمانينات ؟

 

وفي المحصلة:

فلا جدال في أن العرب اليوم–وهم سنم الإسلام ونواة حضارته- يعيشون أحلك ظروفهم التاريخية الصعبة: يعانون من فوضى عارمة، وقلاقل داخلية مرعبة، ومشرفون على حروب طاحنة، ستدوررحاها على الجغرافية العربية، ولن يستثنى منها بلد عربي من نواكشوط الى مسقط :إما بالفتن الداخلية او بالمكائد الخارجية، أوبالتهديد المتواصل بالحديد والنار، أمام عقم السياسيين المحليين والدوليين، وغياب النخب المفكرة، وعجزالفقهاء والعلماء والمفتين والمصلحين، وفشل ثرثرات الإقتصاديين ..، أوهؤلاء أجمعين. .

فما أحوج العرب اليوم– والحالة هذه- إلى أن يُرجعوا البصر إلى الوراء، وأن يُلقوا دلاءهم في ينابيعهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمتي كالمطر، لا يدري أوله خيرأم آخره وأن تتجه أبصارهم-في خضم هذه العواصف النسافة- إلى المستقبل والماضي معا، - فلا يرفض الماضي لقدمه فيخلط ب الماضوية – كما يطلق عليه بعض المحدثون- ولا يقبل الجديد لجدته – تحت مسميات حداثوية لواحة للغرابة و الباتوس و الغلاظة

ومن أجل أن يخرج العرب من خيباتهم المتتالية والمستعصية التي طالت منذ عصور، ألاَ يُقبلوا على المجهول-في مواجهة الأعداء والمناوئين والأغيار-، إلا وفي أيديهم قدركاف من المعلوم، ولايَرِدوا حِياض الغير-مبدئيا-إلا إذا نهلوا من مصادرهم الحية أولا، وأن يرتووا من ينابيعها قبل نضوبها، ..ثم عندها يأخذون من غيرهم ويتركون، ولن يكونوا بذلك نشوزا، فسنة رب العالمين في الخلق هي التعارف والتقابس والتلاقح و(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والعاقبة للمتقين.

ولا بد لأهل الخير من العرب جميعا–شعوبا وقبائل ومذاهب وإيديولوجيات-، من أن يُلقوا منهم الدلاء حيث هم، فما أزخرالأعماق عندهم بالكنوزلو كانوا يعلمون لَوْكَانَ الْبَحْرُمِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ..، وليأخذوا من حضارتهم بالأسباب الأولى لنجاحها-كما بدأت أول مرة-وهوالسموعلى ماديات الحياة والخلافات وسفاسف الأمور، وليتعظوابما إتعظ به أصحاب الحضارة الغربية التي أعلنت إفلاسها منذ عقود، لخلوها من الروح وغياب المعنى والقصد بالرغم من متانة تنظيرفكرها و عقلانيتها وقوتها المادية والعسكرية وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ

 

د. الطيب بيتي

 

في المثقف اليوم