قضايا

الطائفيون .. هل استوعبوا الدرس من سقوط الموصل؟

qassim salihyالموصل هي ام الربيعين والحدباء والخضراء .. هي التاريخ والتجارة والحضارة وملتقى الثقافات .. هي ابو اسحق الموصلي وزرياب وابو عثمان الموصلي وابو تمام .. هي التي يصفها ابنها الناقد محمد صابر بالمدينة المتحضرة والسيدة الانيقة الراقية بامتياز وصوتُ الله الذي ينبثق حارّاً متوهجاً مثل رغيف خبز ناضج من منارة الجامع النوري، ومن كنيسة مار توما الرسول؛هي النبي شيت والنبي جرجيس والنبي يونس .. هي المدينة التي لو استيقظت قبيل شروق الشمس وجلست في نافذة بفندق عشتار اوبروي كما فعلتها انا عام (87)، لنظمت فيها شعرا .. لروعة دجلة كيف يمر بغاباتها الجميلة ويمنحها سحرا كما لو كانت اجمل ما رسمته التعبيرية واعذب ما قاله شعراء الحب في الحبيبة .. وقد يأخذك الهوى وتروح تغني لحظتها:(يردلي .. يردلي .. سمرة قتلتيني .. خافي من ربّ السما .. وحدي لا تخليني).

لم يجد بعضهم تفسيرا لاسرع وأغرب سقوط لثاني اكبر مدينة عراقية الا بانه نزول كائنات خرافية استخدمت اصوات فضائية مرعبة واشعة ليزر جعلت قادة وضباط ومراتب، اربعة ألوية في اربعة افواج في اربع سرايا، يفرون مرعوبين رامين اسلحتهم وتاركين دباباتهم، فيما هرع رجال الشرطة لخلع بدلاتهم وارتداء ما يلبسه الناس .. بعد ان هربت حكومة المدينة تاركة مؤسساتها وناسها ومصارفها .. في واقعة لا تصدق الا بأن تجعلها خيالا من نوع فيلم (افاتور).

ان تاريخ الموصل العسكري والسياسي يحدثنا ان تلك المدينة لا تسقط الا من داخلها,لسبب سيكولوجي اجتماعي هو ان الشخصية الموصلية تمتاز بنزعة قومية وانفة عروبية.ففي آذار 1959سقطت الموصل بانقلاب عسكري قاده ابنها العقيد( عبد الوهاب الشواف )رافعا شعار تصحيح مسار ثورة 1958 بعد ان وجد اهل الموصل ان العراق ابتعد عن المسار القومي العروبي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر.

 

كنا نتابع حدث سقوط (أم الربيعين)عبر الصور التلفزيونية ونتساءل:اذا كان هروبهم خيانة او جبنا .. فهل يعقل ان اولئك الجنرالات ارتضوا لانفسهم ان ينهزموا امام مسلحين وينزعوا رتبهم العسكرية في نقطة تفتيش لقوات البيشمركة؟.وهل انعدمت الغيرة فيهم لهذا الحد المهين والمذّل، ومات شرفهم العسكري لدرجة انهم يسجلون اسود صفحة واقبح عار واخجل هزيمة في تاريخ الجيش العراقي وتاريخهم الشخصي والأسري؟

وتعددت التفسيرات، فمنهم من قال ان ما حدث في الموصل كان مؤامرة عالية التنسيق اشتركت فيها دوائر استخباراتية لدول مجاورة وكتل سياسية واقليمية بغية خروج الموصل عن سكة العراق الفدرالي الاتحادي.وحللىها آخرون بانها كانت ضغطا عسكريا على مرشح دولة القانون والعدول عن فكرة تبني خيار حكومة الاغلبية التي كان المالكي قاب قوسين او ادنى من تشكيلها، فيما افادت نظرية اخرى بان ما حدث كان بتدبير من المالكي نفسه ليخلق ظرفا يفوض حكومته بالاستمرار قبل عشرة ايام من انتهاء عمرها.ورأت نظرية أخرى ان ما حصل هو تدبير فريق من ساسة الشيعة يرى ان اقامة دولة شيعية من سامراء الى الفاو يريحهم من وجع الكرد والسنة، ويضمن لهم اكبر ثروة نفطية واخصب تربة زراعية، وانهم سيعيشون مرفهين ومحمين من دولة جارة قوية .. فضلا عن انه يمثل رغبة امريكا التي اعلنتها قبل ثلاثين عاما .. وما يزال (السرّ) مغلقا رغم مضي اشهر على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية استجوبت هذا وذاك وانتهت بتوجيه اسئلة الى السادة نوري المالكي واسامة النجيفي ومسعود البرزاني .. وها قد دخلنا السنة الثانية والسرّ محفوظ في حرز امين.

قلنا ان الموصل لا تسقط الا من داخلها، وكان احد اهم اسباب سقوطها بيد داعش هو ان الشخصية الموصلية المعروفة بانفتها العروبية تعرضت الى الذلّ والمهانة من افراد جيش تشكل على اسس طائفية ومناطقية .. كان فيه الجندي العراقي مشوشا، مرتبكا لانعكاس ارتباك العملية السياسية عليه، وصراع كتل وضعت مصالحها فوق مصالح الناس والوطن، وفساد صار فيه الوطن ينهب من المسؤولين عنه، وفشل متكرر لحكومة منتجة لأزمات، ركبتها عنجهية وعناد عصابي وخصومات شخصية وفقدان حكمة.

بالمقابل، كانت داعش وظّفت قضية سيكولوجية اعتبارية بأن اظهروا انفسهم لأهل الموصل كما لو انهم جاءوا ليعيدوا لهم كرامتهم ويخلصونهم من التعامل المذلّ والمهين واعتقالات عشوائية من افراد محسوبين على المحافظات الجنوبية، وانهم سيؤمنون لهم حياة كريمة بعد ان عانوا من التهميش والاقصاء والبطالة.ولقد اراح هذا الوضع كثيرين لا حبّا بداعش ولكن لأنها كانت صفعة بوجه من ادار وجهه عن مدينة خرّجـت قادة سياسيين وكبار ضباط الجيش العراقي ولها ثقل حضاري وديني وموقع استراتيجي للعراق ودول الجوار.

وليت الامر اقتصر على(أم الربيعين)، واحسرتاه عليها .. فقد سقطت مدن آخرى تهاوت مثل اوراق الخريف آخرها الرمادي، لأن داعش عرفت كيف توظف مبدأ (صدمة المفاجأة) في سيكولوجيا الشائعة باثارة الرعب الذي ادى الى فرار ثلاثة ملايين نازح .. حذّر صالح المطلك في 5/6 الجاري من " كارثة انسانية وشيكة ستحل بهم".غير ان السبب الرئيس لما حدث وتمدد داعش باستيلائها على 25% من ارض العراق بحسب وزارة الدفاع الامريكي (40% في تقديرات فضائية الحدث) .. هو التطرّف الطائفي الذي مارسه المالكي في حكومته الثانية .. وتصعيده له يوم وصف تظاهرات المعتصمين في المحافظات الغربية بانها (فقاعات)دون ان يدرك ان هذه الفقاعات ستتحول الى قنابل وسقوط مدن .. وانضمام او تعاون الكثير من سكانها مع داعش .. لا حبّا بها .. بل لأنها رفعت شعار ابادة الشيعة من الوجود .. فضلا عن متطرفين سنّة يعملون على اعادة الحكم الى طائفتهم.

ان الواقع يشير الى ان داعش ستبقى سنوات، الامر الذي يحتم على السياسيين ادراك ان التطرّف الطائفي يقوم على قانون (ان الضد يخلق ضده النوعي) وانهم اذا لم يتخلوا عن تطرّفهم الطائفي والقومي ويتوحّدوا تحت راية علم العراق، ويفعلّوا المصالحة الوطنية عبر وسطاء بينهم خبراء بعلم النفس والاجتماع السياسي، تمكنهم من الوصول الى استراتيجية سياسية تخطط لاستراتيجية عسكرية علمية، فان البلد ذاهب الى تقسيم تكون خسارة السنّة فيه كارثية تضطرهم الى الاستغاثة بسنّة أمة العرب .. وعندها ستقوم القيامة في العراق .. لتحرق حتى من ظنوا ان احلامهم قد تحققت باقامة اقليم توقعوا انهم سيتمتعون فيه بالرفاهية والأمان.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم