قضايا

ايقادُ الحرائق في الجسد العربيّ

jawadkadom gloomمن منا لايقرّ بان منطقتنا العربية في اغلب اجزائها مشتعلة بحرائق الحروب الكارثية التي لاتريد ان تضع أوزارها .. ولو سلّمنا بان بعض بلداننا لم تنلْها ألسنة لهيب الحرب فإنها بكل تأكيد منخورة بالنزاعات والاضطرابات ؛ وإذا كانت سوريا قد اوشكت ان تدخل السنة الخامسة للحرب فان العراق قد بدأت حروبه العديدة منذ بداية الثمانينات من القرن المنصرم بدءاً مما سمي بحرب الخليج الاولى مع ايران ثم حرب الخليج الثانية مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والتي رافقها حصار بالغ الوجع على شعبه المقهور بالدكتاتورية الاكثر ثقلا على الانفاس والصدور حتى جاءنا الحصار الاقتصادي الذي اشبعنا خنقا وهزالا ومن ثم تبعه الغزو الاميركي الذي اطاح بالدكتاتورية غير انه لم يمدّ حبال نجاته لينقذنا من المحارق التي عمت البلاد كلها الى ان وصلتنا سيول الدواعش زرافات ووحدانا وضمّت اجزاء واسعة من بلادنا اليها مثلما ضمت الرقّة وماجاورها لتكون مرتعا مشتعلا يتنقل هنا وهناك بين الانبار وصلاح الدين وادلب والموصل وحلب وحمص دون ان ننسى اليمن واجزاء واسعة من مدن ليبيا ومنطقة سيناء ولبنان ؛ ناهيك عن القلاقل الامنية التي تشهدها بقاعنا العربية وعواصمنا التي كانت مقصدا للجمال في السابق وصارت اجمل بقاعنا ساحات دم ونار خارج السيطرة امام الهوان والضعف واليد المرتجفة التي اصيبت بالرعاش ولازال شرر الحروب تتطاير على الرؤوس حتى هذه الساعة ولا امل في اطفائها على الاقل في الوقت الحاضر

وكما ان الحرائق العاديّة – ولا اعني حرائق الحروب – لها من يعالجها ويخمد نارها فقد اعتدنا ان نقرأ نظريات متعددة عن كيفية معالجة الحرائق والطرق السليمة لإخمادها وإطفائها سواء كانت حرائق طبيعية ناتجة عن اتساع اللهب في غفلة منا او بشكل متعمد او تماس كهربائي او اية اسباب نعرفها ويعرفها افضل منا منتسبو الدفاع المدني فانّ اكثر الطرق فعالية لمكافحة تلك الحرائق الطبيعية هي تبريد النار او خنقها او تجويعها ولا حلّ لمعالجتها وإسكاتها وإخمادها سوى هذه العلاجات الثلاثة

لكن هناك من لا يريد ان يعترف بالوسائل السليمة الناجعة في مكافحة امتداد النار واتساعها ولهذا نرى الكثير من ذوي العقول القاصرة الجاهلة البليدة او من ذوي النوايا الشريرة من يعالج الحريق بالحريق بذريعة ان الحرائق لا تنطفئ الاّ بحرائق اخرى

دعوني اقف قليلا على هذه الفكرة والنظرية الجديدة بشأن مواجهة الحريق بحريق اخر شرط ان يكون تحت السيطرة ؛ لاننكر ان هذه الفكرة قد استعملت في صدّ حرائق الغابات الكاسحة التي تستعين بالرياح القوية لمواصلة اندفاعها والتي يصعب جدا ايقافها فيعمد الاطفائيون الاخصائيون الى جمع الاعشاب والشجيرات الصغيرة لتطويق مكان الحريق وحرق تلك الاعشاب الصغيرة وعندما تصل تلك الحرائق الكبرى الى مناطق اخرى ؛ لم تجد ماتأكله فتخمد ويقف أوارها ، هذه العملية تسمى مكافحة الحريق بحريق اخر مقابل يكون تحت السيطرة

هناك من يتهكّم على هذه النظرية وينسفها عن بكرة ابيها تماما مثلما تواجه العنف بعنف آخر ؛ فأنت بهذه الحال تزيد النار سعيرا اخر وأفضل شيء تفعله هو ان تستخدم معالجة " قاطع الحريق " وهو اجراء تسوية شريط من الارض ونزعهِ من كل مادة قابلة للاشتعال من حشائش ونباتات وبهذا يتوقف الحريق فالنار تأكل بعضها ان لم تجد ماتأكله

ولنعد الى محارق الحروب ولظاها التي غالبا مايكون وقودها الناس البسطاء وأملاكهم وبيوتهم وحرثهم ونسلهم ونتساءل : مَن مِن حكمائنا وساستنا الان يشمّر عن سواعده ليطفئ ارضنا من لهيب الحروب ويشكّل قاطعا فاصلا للحريق خشية من امتدادها ويوسعها سلاما وخصبا ونماء بل ان اكثرنا من يزيدها لهبا ولا احد يعمد الى تبريدها من بلل العقل وكظم الغيظ والتسامح والعفو وسعة الصدر وتحمّل المشاق ولا ارى في الافق البعيد اية بادرة لخنق الحرائق بل يصرّ الغالبية على امدادها لوجستيا بأوكسجين لاستعادة انفاسها كي تزيد من اوارها وإثرائها حطبا من مختلف الاسلحة والمعدات الحربية المكدّسة في مخازن الاسلحة العتيقة التي يتطلب تسويقها وقبض اثمانها ولو على حساب الألم البشريّ والمناحات الانسانية والسيول البشرية المغيبة الجاهلة التي كثرت بشكل مفرط بسبب فشل نظرياتنا في تحديد النسل مادمنا قد اقررنا بان الله لاينسى عباده وان الرزق يتكفله الخالق وحده وهو مقسوم على كل وليد وليس هناك من داعٍ ان نضع الخطط والبرامج لتحديد النسل فالحروب هي الهولوكوست الحاضرة في زمن شيوع النزاعات ، والناس كثرٌ ما شاء الله ومافي مقدورنا تلبية ابسط متطلباتهم فما اسهل جرّها وخداعها وتضليلها من خلال تجنيد المغفلين والرعاع ليكونوا وقودا لها سواء عن طريق غسل الادمغة او عن طريق المطامع المالية لان اكثر هؤلاء المتطوعين للحرب قد اغرقتهم البطالة والحاجة دون ان ينتشلهم احد مما اضطرهم الحال ان يقضوا جل وقتهم بين الجوامع والاستئناس بما يتفوّه به الخطيب في المساجد من هذر الكلام غير السليم والترهات والغيبيات ويستمع الى احاديث ضعيفة مرويّة منسوبة لرسول الله او ماقال الصحابة والتابعون من منقول الكلام على عواهنه دون غربلة العقل وتمييز الصالح من الطالح والغثّ من السمين فالمكتوب على الجبين حتما ستراه العين طالما ان جبين الانسان عندهم صار ارشيفا واضبارة شخصية ( (C Vكما ان معظمهم من العناصر المهمشة في بلدانهم ممن ادارت الدول المارقة ظهورها عنهم ولم تعمل على تأهيلهم وتطوير قابلياتهم العقلية والنفسية وزجّهم كعناصر كفوءة عاملة في مجتمعاتهم فصاروا رعاعا دهماء غوغاء مضللين حصبا للحروب والنزاعات يستخدمهم امراء الحروب والساسة السفلة وقودا دائما لمواصلة لهب الحروب

مثال واضحٌ أذكره لكم ؛ ففي بلادي العراق المنهك بالقلاقل التي لاتريد ان تنتهي والذي اسميه بلاد القهرين تتنوع الحرائق اشكالا متعددة فمنها حرائق نارٍ متعمدة كالتي يشعلها السارقون المتنفذون في دوائر الدولة لطمس معالم الفساد وملفاته المريبة وإخفاء ايّ اثر للصفقات والكوميشون والمناقصات لمشاريع وهمية او هزيلة التشييد مع شركات محلية تقودها زمر متواطئة مع مسؤولين غارقين في القذارة والنهب او مشاريع خادعة لاتتراءى الاّ في التصاميم الورقية دون ان يكون لها اثر على ارض الواقع فهناك الكثير من الغرائب والعجائب في هدر المال العام عندنا لايعرفها سوى الراسخين في مسالك السحت الحرام المتشعبة الدروب

يضاف الى ذلك حرائق الاسواق الرئيسية المهمة مثلما حدث مراراً في عمارات الشورجة في مركز بغداد الحيوي جدا عصب الإقتصاد والسوق العباسي ولمرات عديدة واتلاف ثروات الناس واشعال البضائع ومخازنها بأيدٍ خبيثة آثمة ويعزونه زيفا وبهتانا الى التماس الكهربائي او اية مبررات اخرى لكن الامر بات واضحا ان هناك شخوص في الظل تريد ان يحترق العراق باكمله وفي عصب اقتصاده بالذات

اما حرائق الحروب فحديثها يطول ويطول وقد لاحظنا ان العدو الارهابي الداعشي حينما يهرب او ينسحب مرغما من ارض احتلّها قبلا يعمد الى تفخيخ البيوت والمجمعات السكنية ودوائر الدولة وكل اثر عمراني ليحولها رمادا وانقاضا وسخاما وكأني اسمع الان ماقاله صدام حسين قبلا بانه لم ولن يترك العراق حتى يحيلها ارضا محروقة بلا شعب ويبدو انه لم يكن مغاليا ؛ ففي كلامه الكثير من المصداقية مادامت هذه الحرائق الطائفية والعقائدية والمذهبية نراها امامنا بكل وضوح وقد اكلت الاخضر واليابس واليانع والحرث والنسل والزرع والضرع حتى بات اليأس يدبّ في اوصالنا كلنا ولم نجد عقولا شريفة ذات حميّة تعمل على اطفائها ولا احد من الجار الجنب او الصاحب بالجنب من يهمّ منقذا وكأنهم نسوا " من حُرقتْ بقعة جارٍ لهُ ----- فلينتظرْ ناراً على بقعتهْ " ، هذه النيران أوشكت ان تكون متلازمة لنا في كل مراحل اعمارنا ولا من أيدٍ تهدف الى خنقها لانها ببساطة حرائق متعمدة يشعلها سياسيون قادتهم الظروف الاستثنائية والغفلة الزمنية لينفذوا اهدافهم السياسية والذاتية والطائفية الضيقة الافق والحزبية الاكثر ضيقا

الا مقتا ونبذا لجموع متخلفة ضيقة الافق تتكالب على اشعال النفوس بالتباغض والجفاء وإذكاء نيران الكراهية والحقد وصناعة الحرائق في القلوب والعقول معاً وزادت على صلفها تحطيم البنى التحتيّة التي ابدعها الانسان في ماضيه إرثا زاخرا للإنسانية ولم تتوانَ على هدم حاضره ومقبله ، ولم تكتفِ بذلك بل أعدّت للبشرية نارا وسعيرا في مستقرّ الآخرة من خلال ثرثرات التهديد والوعيد لإفزاع الملأ المتعب المنهك وتخويفه في الدارين ؛ دار الحياة التي يسمونها دار الفناء ودار الاخرة التي ينعتونها بدار البقاء

هكذا جعلوا حياتنا ومماتنا ؛ شررٌ دائمٌ يتساقط على رؤوسنا ونحن أحياءٌ وهاوية سحيقة ملأى بالسعير ونحن أمواتٌ فالى ايّ جانبيك تميل ايها الانسان المسكين الذي اخترت ان يدمى جسدك منذ اول ولادتك حتى وفاتك في واقعٍ قاسٍ وفكر متخلف سقيم ترعرع في ارضنا قرونا طويلة ومازال راسخا حتى الوقت الحاضر

 

جواد غلوم

في المثقف اليوم