قضايا

المفقود في مواجهة الشخصية الداعشية

qassim salihy النقطة الخلافية بيننا (علماء النفس والاجتماع) والسياسيين أنهم يشخصّون الخلل في الانتحاري الارهابي بالاستيلاء على السلطة عن طريق العنف، فيما نشخصّه نحن في المعتقد الذي يحمله في رأسه ويسوقه الى تحقيق هدفه. فنحن نرى أن السلوك، أيا كان نوعه: عبادة، قتل .. تطرّف تسامح.، ناجم عن فكرة او معتقد .. وأن اختلاف الناس في أفعالهم ناجم أساسا عن اختلافهم في الأفكار والمعتقدات التي يحملونها.

ان كلّ المنتحرين يقدمون على الانتحار اخلاصا لمعتقد يؤمنون به.ولا اختلاف، في الفعل، بين الطيارين اليابانيين الذي انتحروا بضربهم، في لحظة مباغتة، البارجات الأمريكية الحاملة للطائرات وتفجيرها بطائراتهم في ميناء بيرل هاربر .. وبين انتحاري ارهابي يفجّر نفسه بين الناس .. فالفعل هو انتحار، والفرق يكمن في نوعية المعتقد الذي يدفع صاحبه الى الانتحار.فهو عند الطيارين اليابانيين كان من أجل الوطن .. فيما هو عند الانتحاري الارهابي الحاق أكبر الأذى بالآخرين. ولهذا علينا أن نجيب على هذا السؤال:

   كيف تشكّل هذا المعتقد لدرجة انه يجعل الفرد يستسهل افناء نفسه والآخرين بعملية قتل بشعة؟.

لقد وجدنا أن الانتحاري الارهابي هو صناعة عربية، وأن المصدر الأول في تشكيله هو السلطة العربية، وأنه أبنها بامتياز.وان هذا لا يعود لظلم السلطة بالدرجة الأولى، بل لانعدام العدالة الاجتماعية المتمثل بثراء فاحش ورفاهية خرافية تتمتع بها قلّة وحرمان تعاني منه الأكثرية، أفضى الى اغتراب بين المواطن العربي وسلطته.وما لا يدركه كثيرون ان الاغتراب، فضلا عن كونه حالة مأزقية بين الفرد والسلطة، فأنه يحسس صاحبه بأن وجوده لا معنى له وأنه يعيش حياة بلا هدف.

ولأن الحاكم العربي تتحكم به (سيكولوجيا الخليفة) التي يرى فيها نفسه امتدادا للخليفة من 1400عاما، ولأنه استفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته، فان بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها لوجوده معنى ولحياته هدفا .. فوجدها في (القاعدة ثم في داعش) بعد أن زين له من يراهم قدوة أنه سيكون بين هدفين لا أروع منهما:اما أن يفوز بتحقيقه دولة اسلامية يكون فيها أميرا، واما يموت ويفوز بالجنّة .. في حياة أبدية بها ما لذّ وطاب وحور عين وولدان مخلدون بخدمته.

ولهذا فان الانتحاري الارهابي ليس فقط يستسهل تفجير نفسه بل يستعذبه لأنه مؤمن ايمانا مطلقا بمعتقده الذي لا أروع وأكرم واعظم منه في نظره.ولهذا لم تستطع أمريكا بعظمتها العسكرية ومعها حلف الناتو القضاء على الارهاب .. لأن السلطة العربية (ولادّة) لانتحاريين ارهابيين يعدّون الحياة أمرا تافها ازاء حياة أبدية في جنّات النعيم، ويعدّون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة فيما هم غرباء .. أذلاّء في وطنهم .. قصاصا عادلا وأمرا جهاديا.ومن هذا التشخيص تحديدا علينا ان ندرك ان القضاء على الفساد الذي وصفته المرجعية الموقرة بانه لا يقل خطرا عن الارهاب، وتشخيصها الجريء بأن (في الحكومة حياتنا ولصوصا) .. هو الذي يؤدي الى الاسراع بانهاء وجود الارهاب في العراق .. وبدونه قد يستغرق بقاؤه سنوات، سيما وان داعش استطاعت بسلاحها الاول .. الحرب النفسية، وخبرات تقنية استقطبت متطوعين من مئة دولة وصلت نسبتهم الى 66% مقابل 44% من العراقيين، فضلا عن امتلاكها ثروة نفطية وهبات عربية واجنبية، وارضا واسعة بين العراق وسوريا.

ان (البندقية) وحدها لن تخيف من يستسهل ويستعذب افناء نفسه والآخرين، وليس بمستطاعها القضاء على داعش، وان عقد مؤتمرات دعائية لمكافحة الارهاب تبدأ ببهرجة وتنتهي بوضع توصياتها في الادراج ، واخرى تدعو لتوافق سياسي ومصالحة وطنية تلتقي بوجوه (متآلفة) وتنتهي بقلوب (متخالفة) .. لن تجدي نفعا، ما لم يتم توظيف السلاح المفقود في هذه المواجهة باستقطاب خبراء سيكولوجيين وعلماء تربية واجتماع يضعون استراتيجية علمية يشكل تحقيقها ظهيرا اجتماعيا وسيكولوجيا يسهم في انهاء داعش بزمن اقصر وتضحيات اقل.

وهنالك مفقود آخر لم يفكر باستخدامه في مواجهة داعش، هو ان المسألة الحاسمة في الفكر الداعشي هي (التكفير)، اذ يرى ان تفسير القرآن والسنة النبوية بكلام الفقهاء بدعة ابعدت الناس عن معرفة الحقيقة التي جاء بها القرآن .. ويتبنى هذا الاتجاه جمال الحمداني (ابو نوح قبر العبد) وجماعته المنتشرة في الجزيرة والقرى بين الحدود العراقية والسورية .. التي تكّفر من لا يقول بمثل قولها، فيما هنالك جماعة اشد غلوا يمثلهم ابو علاء العفري نائب البغدادي، لا يعذرون بالجهل مطلقا .. حدثت بينهم ومجموعات اخرى خلافات تجاوزت الطرد والتسفيه الى التصفية الجسدية، بينهم قاضي داعش التونسي ابو جعفر الحطاب الذي كفرته وقتلته، وقبله تمت تصفية قاضيها السابق الكويتي (ابو عمر الكويتي) الذي كفر البغدادي.وقد ادى مسلسل التكفير الى قتل١٨ قائدا من أصل ٤٣ من قيادات الصف الأول خلال (حزيران ٢٠١٤ - نيسان ٢٠١٥)، ما يعني سيكولوجيا ان الدوغماتية تتحكم بالتفكير الداعشي وانها استقطبتها على جماعات.ولأن الدوغماتي ينظر الى الأمور الجدلية على انها ابيض واسود فقط، ومنغلق ذهنيا على معتقدات جزمية، ولن يتخلي عن ارائه حتى لو بدا له خطؤها، فان هذا يعني ان هنالك خطرا كبيرا يتهدد داعش من الداخل .. وهذا هو المفقود الفكري الذي لم يتم التفكير به اصلا في مواجهتها.

وتبقى حقيقة سيكولوجية:ان السلطة في العراق كانت علّمت المسؤول ان يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه، فيما علّمته الآن ان يحيط نفسه بطائفيين لهم نفس النمط من التفكير، ولهذا ما استمعت الرئاسات الثلاث الى ما يقوله اكاديميون مستقلون .. تشغلهم هموم الناس والوطن .. فظلت دعواتهم تذهب تباعا مع الريح.

في المثقف اليوم