قضايا

الأبعاد الثقافية للنهضة العربية الحديثة (1-2)

mutham aljanabiتقديم: يقف العالم العربي بعد مرور حوالي قرنين من الزمن على ما اصطلح عليه "بالنهضة العربية" الحديثة، أمام نفس الإشكاليات الكبرى التي واجهها آنذاك. بمعنى انه يقف أمام إشكاليات التحرر والارتقاء والتقدم. الأمر الذي يشير إلى انه لم يحل القضايا التي واجهته آنذاك، كما انه لم يحلها لحد الآن. بل أنها تبدو اشد تفاقما وأكثر تخلفا. فإذا كانت "النهضة الأولى" هي محاولة الخروج من المأزق التاريخي الذي وقع فيه العالم العربي بأثر انحلال مراكزه السياسية الثقافية واضمحلال سيادته الذاتية، وذوبانه البطيء في السلطنة العثمانية، فان "النهضة" الثانية بهيئة "الصحوة الإسلامية" و"النهضة الإسلامية" وما شابه ذلك، تبدو غوصا في الانحطاط اشد تعنا و"يقينا". الأمر الذي يشير إلى ما يمكن دعوته بانتكاس العقل وخراب الضمير وتشوه التفكير العقلي وانعدام العقلانية والرؤية المستقبلية. ويكفي المرء لتأمل حالة الوهابية الأولى والوهابية المحدثة لرؤية هذا المسار. فالأولى كانت جزء من صيرورة ما قبل النهضة وتقاليد الإصلاح السلفي، بينما تحولت الآن إلى أيديولوجية العنف المنظم والتخريب الشامل للفكرة الاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية والمستقبلية. بحيث تكشف بصورة نموذجية عن طبيعة ونوعية المسار المدمر وغير العقلاني والمغلق الذي قطعه العالم العربي في مجرى قرنين من الزمن. أما الحصيلة العامة لكل ذلك فتقوم في انعدام فكرة التاريخ والتاريخ الفعلي، أي لا تاريخ في مجرى مائتي سنة، بل مجرد زمن فارغ. والزمن الفارغ يبتلع كل من فيه وحوله. من هنا هشاشته الداخلية وضعفه الذاتي.

إن أسباب المراوحة في الزمن "القومي" والانحطاط بمقاييس "التاريخ العالمي" بالنسبة للعالم لا يمكن حصرها بجانب أو سبب واحد، وذلك لطابعها المركب والمعقد والمتغير. إلا انه يبقى للبعد الثقافي دوره الجوهري في هذه العملية، وذلك لأنه يشكل بقدر واحد "روح الأمة" و"مؤشر" مسارها الفعلي. من هنا مهمة إعادة النظر بما يمكن دعوته بإرهاصات "ما قبل النهضة" و"النهضة" نفسها من اجل رؤية دورهما وحدودهما التي كلفت وما تزال تكلف العالم العربي ثمن المراوحة والانحطاط. إذ تنعكس فيهما مفارقة المجرى المتناقض للوقائع وتشوه الحقائق. لكنه في الوقت نفسه هو التاريخ الواقعي للعالم العربي، الذي يوصلنا بعد قرنين من الزمن إلى الفكرة القائلة، بأن الحل الفعلي لإشكاليات العالم العربي الكبرى في الحرية والتقدم والارتقاء والوحدة يفترض مساره الطبيعي للانتقال من حالة الوعي الديني اللاهوتي، والديني السياسي إلى حالة الوعي السياسي الاقتصادي والحقوقي، أي المسار التلقائي في تراكم وعيه الذاتي وحلوله الذاتية لكافة مشاكله بمعايير الفكرة العقلانية والإنسانية المستقبلية.

 

إرهاصات ما قبل النهضة العربية الحديثة

لقد أدى تهشم الكيان الثقافي العربي إلى فك الروابط الحية لتأصيل الاستمرار الفكري وكسر الصلات الخفية بين الماضي والحاضر، وإطفاء شعلة المرجعيات المتسامية في العلم والعمل. بينما أعطى للمتبقي منها صفة المتحجرات الصنمية. وليس مصادفة فيما يبدو أن يعنون احد أقطاب الاجتهاد الاسلامي للقرن العاشر ـ الحادي عشر الهجري صدر الدين الشيرازي كتابه (كسر أصنام الجاهلية) في معرض ردوده على بعض متصوفة زمانه. بمعنى أن الاندفاع الممكن للاجتهاد والإصلاح والعقلانية كان لا بد له من أن يضعه أمام مهمة كسر أصنام الثقافة المتحجرة. فالسبات الطويل للكيان العربي في ظل السيطرة التركية قد شل بصورة نهائية مكونات الكينونة الثقافية في كل من التاريخ السياسي والمرجعية المتسامية ليقينياتها التاريخية، اي الكل الروحي ووعي الذات واللغة وإبداعها الذاتي. باختصار انه أدى إلى تحجر الكل الثقافي في ذاته بفعل اندثاره و"اغترابه" عن بنية الإبداع الحر للتطور الحضاري. مما أدى به بالضرورة إلى التأطر في قوالب "الزمن الميت" وإعادة إنتاجه في تقليدية المذاهب والمشارب والخمول الاجتماعي السياسي، اي الإنتاج الدائم للمزاج العاجز عن تأمل ذاته خارج التقليد وصنميته التراثية.

 

وإذا كان الزمن اللاحق لسقوط بغداد قد ابرز عبقريات فكرية انحصر إبداعها في التاريخ والتصوف كابن عربي وابن خلدون فلأنها كانت الإرهاصات الأخيرة للاندثار الثقافي، اي الصيغة الفكرية المعوضة عن فقدان التاريخ السياسي والكل الروحي للعالم العربي. أما المحاولات العديدة لبناء الدولة العربية فقد اكتفت بحدودها الضيقة وانكفأت فيها. ولهذا كان بإمكان المغرب أن يصنع دوله العديدة وان يندثر . أما المحاولة الكبرى للدولة الفاطمية في جمع وحدة الكل العربي فقد تحطمت هي الأخرى بفعل مذهبيتها الضيقة وعجزها عن إعادة بناء المركز السياسي ـ الثقافي للعالم العربي. أما المجرى اللاحق للاندثار الثقافي فقد أدى في نهاية المطاف إلى أن يكتفي العالم العربي في وجوده التاريخي بقوى الصعاليك والمماليك. وهي القوى التي كان بإمكانها أن تفسح الطريق أمام الخروج الجديد للكيان العربي من مأزقه التاريخي (في ظل السيطرة التركية)، اي كل ما ظهر في حركة المحمدين (محمد على باشا ومحمد بن عبد الوهاب) وما بينهما من شخصيات وحركات فاعلة بالنسبة لتوسيع مدى الرؤية النقدية والإصلاحية العملية، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر عند محمد بن علي الشوكاني(1173-1255 = 1759- 1834)

فقد مثل الشوكاني نموذج الشخصية الذائبة في إرساء أسس الرؤية النقدية من خلال الخروج عن تقاليد الزيدية بعد انزوائها في جبال اليمن. فقد كانت الأفكار الأساسية التي قال بها موجهة ضد ما جعلته الوهابية جوهر عقيدتها العملية، أي محاربة التقليد ومظاهر الوثنية الجديدة. مع الأخذ بفارق الفكرة وتقاليدها. فقد كان الشوكاني متبحرا في علوم الدين والأفكار، على خلاف محمد بن عبد الوهاب الذي اكتفى بفتات المعرفة الدينية المغربلة بمصفاة الحنبلية والمغذاة بالأسلوب الظاهري لابن تيمية. وقد وضع الشوكاني أفكاره النقدية هذه في (شرح الصدور بتحريم القبور) و(السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار). وانطلق من معارضة أولئك الذين أوغلوا "في طريق الوثنية وراء شياطين الصوفية، الذين هم أعداء الله وأعداء الإنسانية في كل مكان". انه حاول التأسيس لفكرة محاربة ومعارضة وتفنيد زيارة القبور والكرامات، معتبرا إياها أكاذيب. بحيث نراه يهاجم الإمام يحيى. وانطلق في موقفه هذا من انه إذا كان هناك خلافا بين المجتهدين، فمن الضروري رده إلى الكتاب والسنة، استنادا إلى الآية (فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". واعتبر مهمة العالم أن لا يكتم شيئا، بل يعلنه، استنادا إلى الآية القائلة، (وإذا اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليتبينه للناس ولا يكتموه)، و(إن الذين يكتمون ما أنزلناه من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون". ومن ثم ليس هناك من ضرورة للتقليد. لقد سبق الشوكاني هنا محمد بن عبد الوهاب فيما يتعلق بفكرة جوهرية القرآن والسنة. بل يمكننا القول، بان الصيغة العلمية للفكرة الوهابية الأولية ليست إلا احد نماذج التراكم النوعي الجديد للشحنة التي كانت تتطاير في فضاء الجزيرة العربية التي أسس لها الشوكاني في الجنوب، والشيخ الاحسائي (1166-1241 = 1753-1826) في الشرق والشمال.

فقد كانت الفكرة الأساسية عند الشوكاني بهذا الصدد تقوم في البرهنة على أن التكاليف الشرعية عامة للعالم والجاهل. من هنا تناوله ودفاعه في الوقت نفسه عن ضرورة الرجوع في حل الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والسياسية إلى القرآن والسنة. وانطلق هما من أن الجوهري هو القرآن والسنة وليس كتب المتكلمين في حال تناول القضايا (بما في ذلك من حيث مستوى تناولها بمعايير القياس والمقارنة. كما وقف موقف المعارض الشديد من بناء القبور، بحيث نراه يضع هذه المقدمة في انتقاه لأراء الإمام يحيى بن حمزة (1270-1346) بصدد رفع القباب على قبور الموتى. كما عارض بشدة أيضا زيارة القبور – وقف بالضد منها ومن عادات النذور باعتبارها بقايا وثنية. ووضع هذه الأفكار في صلب فكرته الإصلاحية الأولية. ومن الممكن أن نتخذ من مقال (رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة) و(الدواء العاجل في دفع العدو الصائل) احد نماذجها النقدية تجاه الواقع والأيديولوجية الدينية. ففي (رفع الريبة) نراه ينحو منحى اجتماعيا وسياسيا في نقد الواقع، خصوصا فيما يتعلق بفكرة الغيبة، وكذلك تجاه الموقف من تغيير الواقع (الاستعانة على تغيير المنكر). ويبرز هذا الاتجاه بوضوح اكبر في مقالته (الدواء العاجل) إذ نراه هنا يقف إلى جانب فكرة التطبيق الحي لمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). من هنا نظرته النقدية والعملية تجاه مختلف مظاهر الخروج على هذا المبدأ في اليمن، بغض النظر عن المذاهب من خلال نقده لسلوكهم تجاه مختلف قضايا العبادات من صلاة وصوم وغيرها. إذ يعتبرها ابتعادا عن الدين. كما نراه يناقش مواقف العمّال الكتّاب والحّكام من الناس، باعتبارها مواقف مخالفة ومنافية لحقيقة الإسلام وتقاليده. ووجد فيها أساليب قمعية وشرهة ومتخلفة. فمهمة العامل "استخراج الأموال من أيدي الرعايا". ومهمة الكاتب "ليس له من أمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا". أما القاضي فهو "عبارة عن رجل جاهل للشر عاما جهلا بسيطا أو جهلا مركبا".

أما الوهابية فقد طوت في رمالها بقايا الأطلال المندرسة لعوالم تبجحت في غضون قرون من الانحطاط الثقافي بقدسية أحجارها المتناثرة وعظام أوليائها التالفة. واستطاعت أن تكشف في زوبعة عواصفها العملية عن القيمة الإيمانية والعقلية للجهاد. وان تبرهن أيضا على أن التوحيد هو الكلمة الوحيدة الحقة في الوجود. واستطاعت من خلال الكلمة جعل القرآن والسنة إماما للموحدين. وأدى ذلك موضوعيا إلى تلازم قيمة الكلمة (القرآنية) وتطبيقها العملي (السّنة) في كل ما أرادت الوهابية قوله وفعله.

ووجد ذلك انعكاسه المباشر وغير المباشر في تحريك ذاكرة التصوف وتنشيطها "الحر" في استدراك قيمة ومعنى التأويل الصوفي للآية القرآنية القائلة "نسوا الله فأنساهم أنفسهم". غير انه لم يكن بإمكان أتباعه التقليديون منهم والجدد آنذاك بلوغ مستوى تحدي حقيقة الذات على مثال البسطامي، ولا حقيقة الحق على مثال الحلاج، ولا حقيقة البدائل المنظومية على مثال الغزالي وابن عربي. إلا أنهم اضطروا تحت ضغط الهياج العارم للوهابية إلى نفض غبار النسيان المتراكم على ذاكرة العقائد العملية.

والزم ذلك الجميع على شحذ الذهن والعاطفة في تأمل الكلمات ومعانيها. ومن ثم تتبع خطاها في العبارة. كما لو أنهم اخذوا يتذكرون المعنى الخفي في سحر الكلمة القرآنية باعتبارها آية، و"المعجزة" التي صنعت على مثالها نموذج الحضارة الإسلامية.

أما الحصيلة النهائية لتداخل الوهابية و"التصوف الفاعل"، فإنها تقوم في توليدهما شرارة البحث في النص والكلمة عن معنى وجداني – عملي. فالكلمة والنص هما ضمير الثقافة. وشأن كل ضمير قابل للحضور والغياب. ومأثرة الوهابية و"التصوف الفاعل" بهذا الصدد تقوم في استثارتهما الضمير الإسلامي في الثقافة. وهو السبب الذي يفسر سرّ بقائهما معلقين في فضاء الثقافة المجردة، أي أننا لا نعثر فيهما على تاريخ في تأسيس الفكرة، ولا تاريخ في الوجدان. وسبب ذلك يقوم أولا وقبل كل شأ في افتقاد العالم العربي آنذاك لتاريخه السياسي المستقل، مما حدد بدوره غياب الأفكار الاجتماعية - السياسية المستقلة، والرؤية التاريخية المستقلة، والرؤية الإشكالية "للآفاق والأنفس"، أو المعاصرة والمستقبل.

وأدى كل من الطابع العملي المباشر للوهابية، وصيغته الوجدانية في "التصوف الفاعل" إلى ظهور إشكالية الأصل، والعقل، والحق، والدولة، بوصفها إشكاليات المبادئ المجردة لا إشكاليات الوجود التاريخي العربي المعاصر. لهذا اندرجت عندهما مفاهيم وقضايا المعاصرة والمستقبل في استعادة "البداية الحقة" للماضي، ولعبت دور القوة المنحلة في التاريخ والمخيلة. بمعنى سيادة التقليد والخيال في العلم والعمل، والرؤية والفعل. وهو تناقض يحتوي في أعماقه على احتمالات متعددة للتطور. إذ لا زيف في هذا التقليد والتخيل، وذلك لأنهما كانا عناصر "الرجوع إلى الماضي الحق"، والصيغة الوحيدة القادرة على ملئ الفراغ التاريخي بين بداية الماضي والحاضر، أي توهم واعتقاد انه لا ماض ولا فراغ، بل يوم جديد دائم، كما هو الحال عند النائم حالما يستفيق. لكن الصحوة تلزمه بالنظر إلى يومه الجديد على انه جزء من حياة لها ماضيها. وهو إدراك تعمق في مجرى صيرورة الكيان العربي المعاصر وتنامي وعيه الذاتي الذي شكلت تجربة الإصلاح المصري زمن محمد على باشا، نموذجها الأول والأكبر. حقيقة أن كل منهما لم يدرك معالم وجوهرية العربية الثقافية بالنسبة للحاضر والمستقبل. من هنا صدامهما الحاد واندثارهما اللاحق بفعل تنافر أولوياتهما. وليس مصادفة أن تتحول العربية (اللغة) إلى الدولة الوحيدة المستقلة بعد انحسار العربية في الجزيرة وانحسار تجربة محمد علي باشا في مصر والشام.

 

اللغة ووعي الذات العربي لمرحلة النهضة

إن إحدى النتائج الجلية في مضمار الأبعاد الثقافية للفكرة العربية الناشئة في ظل صعود وانزواء مختلف التيارات الإسلامية السلفية الأولى وتجربة "النهضة الحديثة" المتمثلة فيما قام به محمد علي باشا في مصر، تقوم في تحول العربية (اللغة) إلى "الدولة" الوحيدة المستقلة.

فقد كشفت اللغة (العربية) عن جمعية جديدة استقطبت الكلّ المجزأ، بغض النظر عن الانحدار العرقي والديني، وكشفت عن ذاتها باعتبارها مصدر عروبتهم. وأصبحت العروبة هي اللغة، ولكن لا بالمعنى الإسلامي القديم، بل بالمعنى القومي – الثقافي المعاصر. ولم يكن هذا المعنى جليا حينذاك، إذ كان من الصعب التأسيس المباشر له في منظومات فكرية، لأنه لم يتحول بعد إلى جزء من إشكاليات الوعي التاريخي المستقل. لقد كان هذا المعنى القوة المتحمسة في جعل "الضمير الغائب" للعرب حاضرا. من هنا الانهماك الشديد بإعرابه في اللغة باعتباره ضمير العربية – الثقافية.

اتخذ إعراب الضمير الغائب صيغة إظهار عروبة اللغة. من هنا الاهتمام الجدي والعميق بقواعد اللغة ونحوها وصرفها. فقد كان أعلام النهضة العربية في الأدب والفكر والسياسة والتاريخ أعلام لغة أيضا. فالشيخ ناصيف اليازجي(1800 – 1871) على سبيل المثال، يؤلف كتبا عن (فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب) و(الجوهر الفرد) و(طوق الحمامة) وأرجوزة (لمحة الطرف في أصول الصرف) و(الباب في أصول الإعراب). ونفس الشيء يمكن قوله عن الطهطاوي(1801 – 1873) مؤلف (التحفة المكتبية)، والشدياق (1804 – 1887) مؤلف (الروض الناضر في أبيات ونوادر) و(غنية الطالب ومنية الراغب)، وبطرس البستاني (1819 – 1883) في (مصباح الطالب في بحث المطالب) و(مفتاح المصباح)، والشيخ إبراهيم الأحدب (1826 – 1891) في (إبداع الإبداء لفتح أبواب البناء)، والشيخ إبراهيم اليازجي (1847 – 1906) في (نار القرى في جوف الفرا) و(الجمانة في شرح الخزانة).

إن الاهتمام بقواعد اللغة وصرفها ونحوها يعني الاهتمام برفع ونصب وكسر وتسكين الروح الثقافي الناشئ. إذ لا يعني صرف اللغة سوى تصريف كيانها صوب ذاتها. أما نحوها فهو توجيهها المناسب نحو قواعدها التقليدية. وليست قواعدها التقليدية سوى الصيغة اللغوية لضميرها الغائب. لان قواعد اللغة هي منطقها، ومنطقها هو نطقها السليم، ونطقها السليم هو تهذيب لسانها بالشكل الذي يجنّبها اللحن فيه، وتجنب اللحن كان يعني الخروج من العجمة، والعجمة آنذاك هي الهيمنة التركية أولا وقبل كل شيء. وبالتالي لم تكن سلسلة الخروج من العجمة بتجنب اللحن في التهجي وتهذيب اللسان بتعويده على نطق الكلمات وتحسس معانيها والتلذذ بشعور الانتماء إلى ما في بيانها من جمال ساحر سوى محاولة صرف تقليدية الانتماء نحو تقاليد الهوية العربية. لذا أصبح تقليد القدماء بعناوين مؤلفاتهم النموذج الجديد للرفعة الأدبية والذوق الجميل. فالطهطاوي يعنون كتابه عن آداب العصر والسياسة بعنوان (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية)، ويعرض بعض أرائه السياسية(التاريخية) بعنوان (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز)، والشدياق يعنون كتابه الشهير (بالساق على الساق فيما هو الفارياق)، وخليل الخوري (1836 – 1903) يعنون أحد دواوينه الشعرية بكلمات (زهرة الربى في شعر الصبا)، ومحمد بيرم الخامس (1840 – 1889) يضع أحد مؤلفاته التاريخية بعنوان (صفوة الاغيار بمستودع الأمصار)، واحد كتاباته الجدلية(الثقافية) بعنوان (تجريد الأسنان للرد على الخطيب رينان)، وفرانسيس مراش (1836 – 1873) يعنون أحد مؤلفاته الفكرية الفلسفية بعنوان (شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة) و(المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية)، ويضع سليم البستاني (1848 – 1884) أحد كتبه بعنوان (الهيام في جنان الشام)، ويضع الشيخ إبراهيم الأحدب أحد مؤلفاته بعنوان (نشوة الصهباء في صناعة الإنشاء) و(كشف الأرب عن سر الأدب)، ويضع حسن حسني الطويراني (1850 – 1897) اغلب مؤلفاته الدينية والسياسية والأدبية واللغوية بصيغ مولعة بالسجع مثل (حجة الكرام في محبة أهل الإسلام) و(خلاصة الكلام في وجوب الإمام) و(إرشاد الخليل في فن الخليل) و(دلالة الشعر في مستقبل الأمر) وعشرات غيرها.

وأصبح تقليد القدماء ومحاكاة إبداعاتهم أسلوبا لاستنهاض نماذج الرفعة الأدبية، وبالتالي محاولة رؤية الأنا العربية المعاصرة بمرآة وجودها الأمثل. ولا يعني ذلك تقليدا أجوف للماضي، بقدر ما كان تعبيرا عن الثقل المتزايد للهوية العربية وضميرها الثقافي. إذ نعثر في تسمية (فصل الخطاب في أصول الإعراب) لناصيف اليازجي على صدى (فصل الخطاب) لابن رشد، وفي موجزه عن (الجوهر الفرد) على اثر المصطلحات الكلامية الفلسفية للقدماء. وينطبق هذا على عشرات المؤلفات المتنوعة. في حين تجري محاكاة القدماء بالأسلوب أيضا. حيث يجاري ناصيف اليازجي في (مجمع البحرين) مقامات الحريري، والشيء نفسه ينطبق على الشيخ إبراهيم الأحدب في مقاماته، كما نراه يحاكي الزمخشري في تجميعه وتنظيمه للبلاغة والإنشاء في كتابه (فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق).

أصبحت الكلمة والعبارة موضوع الاهتمام والولع الأكبر في مباراة ومباهاة الأدباء والكتاب والمفكرين جميعا، بحيث جعل اغلبهم رجال قواميس ومعاجم للغة. لكن هذه القواميس لم تكن جمعا تقليديا أو كميا للكلمات ولا ترتيبا أبجديا عاديا، بل ونقدا عصريا أيضا. والشدياق يضع (الجاسوس على القاموس) ينتقد فيه الفيروزبادي، ويضع بطرس البستاني (محيط المحيط) ومختصره (قطر المحيط)، بينما يتميز إبراهيم اليازجي هنا في (الفرائد الحسان من قلائد اللسان).

واستثار بعث اللغة ومفرداتها بعث أصولها وتدقيق كلماتها في الوعي المعاصر. من هنا انهماك أعلام النهضة الأدبية بأمهات الكتب العربية في اللغة والأدب، كما لو أنهم أرادوا تعويض فقدانها وقلتها آنذاك. فقد شكا شيخ النهضة الأدبية ناصيف اليازجي من الصعوبات التي واجهها في بداية أمره للحصول على ما ينبغي الحصول عليه من الكتب. إذ لم تكن في مصر والشام حينذاك سوى بضعة مطابع صغيرة، رغم ظهورها المبكر في الشام منذ عام 1616 في دير قزحيا، وفي حلب عام 1686 (مطبعة اثناسيوس البطريق)، وفي عام 1734 مطبعة الشوير لصاحبها عبد الله زاخر، ومطبعة القديس جورجيوس عام 1751. غير أن هذه المطابع لم تهتم بما هو ضروري وأساسي بالنسبة للنهضة الأدبية واللغوية. ولعل مطبعة بولاق المصرية (1821) هي المبادرة الكبرى الأولى في تاريخ العرب المعاصر، التي وضعت أمام نفسها مهمة بعث أصول الفكر العربي. وتلتها المطبعة الأمريكية (1834) ثم الكاثوليكية (1855). إلا أن تدفق النهضة بالمعنى العصري ترافق مع اشتراك بعض أعلام النهضة الأدبية أنفسهم في الطباعة، كما هو الحال بالنسبة لخليل الخوري مؤسس المطبعة السورية (1857) ويوسف الشلفون (1839 – 1896) في المطبعة العمومية (1860)، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس (1867). فقد طبع يوسف الشلفون على سبيل المثال، أكثر من ستين كتابا في مختلف الميادين (الفلسفية والدينية والتاريخية والعلمية والأدبية والفقهية). في حين أصدرت المطبعة الأدبية لخليل سركيس صاحب امتياز جريدة (لسان الحال) ومجلة (المشكاة) في غضون 18 عاما منذ تأسيسها، ستمائة وخمسين كتابا بلغ عدد نسخها مليونا ومائة وتسعين ألف نسخة. ويعكس ذلك طبيعة الحالة الثقافية بشكل عام والعلمية بشكل خاص. إذ لم تكن في سوريا (الطبيعية) كلها حتى عام 1834 سوى مدرسة واحدة هي مدرسة عين طورا للآباء الليعازريين، وكذلك المدرسة الأمريكية التي أسسها المبشرون الأمريكيون التي جرى نقلها لاحقا إلى بيروت وسميت بالمدرسة السورية الإنجيلية، ثم المدرسة البطريركية التي تأسست عام 1865. وهي مدارس، شأنها شأن أمثالها، كانت عاجزة آنذاك، رغم كل إنجازاتها الكبيرة ومساهمتها المتميزة في صناعة نمط معين من "التنوير"، عن تأسيس منظومة مستقلة للرؤية العربية الثقافية. وليس مصادفة أن تتحول المدرسة الوطنية التي أسسها بطرس البستاني عام 1863، والمدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين التونسي عام 1875، والمدارس التي أسسها الطهطاوي وعلي مبارك في مصر إلى "مؤسسات" للرؤية الثقافية العربية المستقلة وتمثلها الخاص لما يمكن دعوته بروح النهضة الأخلاقي والأدبي والسياسي والقومي.

فلقد نشط أعلام النهضة الأوائل في ظل ظروف قاحلة. وهو واقع يفسر حساسيتهم الجسدية المباشرة في استنساخ وشرح وتحقيق ونشر أمهات المصادر العربية. إذ ينقل عن الشيخ إبراهيم الأحدب استنساخه بخط يده مما يقارب الألف رسالة وكتاب. في حين استنسخ رزق الله حسون (1829 – 1880) مؤسس جريدة (مرآة الأحوال) بخط يده أكثر من عشرين كتابا مثل (ديوان الاخطل) و(ديوان ذي الرمة)، و(نقائض جرير والفرزدق) و(صبح الأعشى) للقلقشندي، و(ديوان حاتم الطائي) وغيرها من الكتب. واهتم اغلبهم بالشرح والتعليق على دواوين الشعراء وكتابات الأدباء كما هو الحال بالنسبة لناصيف اليازجي في شرحه الذي أكمله لاحقا ابنه إبراهيم اليازجي لديوان المتنبي، كذلك ما قام به رشيد الدحداح (1813 – 1889) في نشره (لامية العجم) للطغرائي وكذلك إصداره (فقه اللغة) للثعالبي، وشرحه لديوان عمر بن الفارض وغيرها.

لقد كانت محاسن اللغة الهاجس الأعمق وراء الشروح والتعليقات والنشر، وذلك بفعل جوهرية البحث عن النماذج المثلى للتقليد بالنسبة لأدباء النهضة. فعندما نشر بطرس البستاني، على سبيل المثال، (رسائل إخوان الصفا)، فانه أشار في مقدمته إلى أن رسائلهم تفتقد إلى التنسيق، وآراؤهم مفككة، منتشرة هنا وهناك، تتميز بالتكرار والمزج الغريب بين الفلسفة التقليدية والعلوم الرياضية والطبيعية بخرافات السحر والتنجيم وحكايات تشبه حكايات ألف ليلة وليلة. إلا أن من محاسن هذه الرسائل أنها كتبت بلغة أنيقة جذابة جميلة الصور والتشابيه، أي أننا نرى في موقفه هذا توجها يعكس في الإطار العام تغلغل قيمة الكلمة واللغة الجميلة في إحساس وعقل وحدس النهضة الأدبية. من هنا ملازمة اهتمام رجال النهضة الأدبية بالصرف والنحو والتحقيق والنشر وتأليف المعاجم والقواميس، وولعهم بالبديع والبيان والمعاني. فناصيف اليازجي يكتب (عقد الجمان في المعاني والبيان)، والشدياق يضع أجمل كتاباته في (سر الليال في القلب والإبدال)، وإبراهيم الأحدب يضع كتاب (كشف المعاني والبيان على رسائل بديع الزمان)، وإبراهيم اليازجي يصنف ألفاظ اللغة وتركيبها على المعاني في (نجمة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد).

ويأخذ الولع بالكلمة وتدقيقها طريقه إلى استثارة "روح الترجمة" وتعريب العبارة الأجنبية بالشكل الذي يستجيب لذوق العربية ونماذجها المثلى. فالطهطاوي يترجم مؤلفات عديدة مثل (جغرافية ملطبرون) و(قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر)، وبطرس البستاني يترجم (تاريخ الإصلاح) ورواية (روبنس كروزي)، ويعّرب سليمان البستاني (1856 – 1925) إلياذة هوميروس بصورة خلابة. في حين انتقد الشدياق بصورة لاذعة الترجمات السقيمة ويكشف عن أخطائها لكي يخلص العربية من اللكنة والتحريف والعجمة. وترجم رزق الله حسون أشعار كريلوف ولافونتين. ويصبح تعريب المصطلحات العلمية الحديثة من مختلف العلوم مجالا للمنافسة المبدعة بين رجال النهضة الأدبية ومترجميها. حيث تنفرد جريدة (برجيس باريس) لصاحبها الدحداح بنشر مساهمات التونسي سليمان الحزائري (1824 – 1871) الذي يعد من أوائل المهتمين، الذي كشفت اغلب محاولاته بهذا الصدد عن قدرة اللغة "الناعسة" بعد استفاقتها على رؤية ملامح الأبعاد الدقيقة لأحدث الإنجازات العلمية والتعبير عنها عربيا. وينطبق هذا على الكثير من المجلات والجرائد مثل مجلة (الطبيب)، التي استطاعت إدخال مئات المصطلحات العلمية الحديثة مثل مقياس الثقل، والبكتيريا، والسكوب. في حين ادخل الشدياق عبر (الجوائب) كلمات الصحافة، والجريدة، والمجلة، والمؤتمر، والأسطول، والباخرة، والمنطاد، والحافلة، والأزمة المالية، وكثير غيرها، أي كل ما أصبح عاديا في اللغة المعاصرة. ودعت (لسان الحال) لمؤسسها خليل سركيس أهل الأدب واللغة إلى وضع ألفاظ مرادفة للمصطلحات وانتخاب منها ما هو مجمع عليه بما يتوافق مع أوزان الأسماء العربية، أي توحيد المصطلحات المترجمة وتعريبها السليم.

لقد استثار هذا الإحساس المتنامي لتذوق العبارة والكلمة "هوس" اللغة تجاه كل ما بإمكانه أن يكون موضوعا للتندر والتأمل والتفلسف، وكل ما بإمكانه أن يكون موضوعا للجدل والإفحام والإثارة والاهتمام. فقد كانت جريدة (الجوائب) لفارس الشدياق كتابا مفتوحا للجدل اللغوي، الذي جعل من الصيغة الهجائية نموذجا مقبولا ومعقولا للجميع. بحيث لم تغفل وتستغفل كل من بإمكانه إثارة واستثارة الاهتمام باللغة والأدب. ولعل جدلها مع (برجيس باريس) للدحداح مثالا بارزا جعلت خشونة مواجهاتهما تدفعهما للاحتكام أمام الشيخ عبد الهادي الايباري واتخاذ كلمته فيصلا بهذا الصدد. وعلى أثرها كتب الشيخ الايباري كتابه (النجم الثقاب في المحاكمة بين البرجيس والجوائب)، والذي انتصر فيه (لجوائب) الشدياق. ولم تتورع (الجوائب) في تعزيتها عام 1871 بوفاة الشيخ ناصيف اليازجي،عن نقد بعض ما بدا لها خطأ في كتابه (مجمع البحرين)، مما اضطر ابنه الشيخ إبراهيم اليازجي للذب عنه على صفحات مجلة (الجنان). بينما كتب الشيخ سعيد الشرتوني سلسلة مقالات رد فيها على كتاب الشدياق (غنية الطالب ومنية الراغب)، جمعها في كتاب تحت عنوان (السهم الصائب في تخطئة غنية الطالب)، الذي جعل الشدياق يستنجد بالشيخين يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب، إلا إنهما أقرا مع ذلك بصواب بعض ما جاء به الشرتوني في انتقاداته. وأصبح إظهار خطأ الخصوم رديفا للانتصار. وشحذ هذا التوجه والاهتمام الروح النقدي للذهنية العربية، ومهّد لصيرورة وعيها النقدي العام في مختلف المجالات والميادين.

فقد كان "هوس" اللغة في أعماقه الصيغة المناسبة للتلذذ بالحرية المفقودة. فالكلمة الطنانة هي في الأغلب، رد فعل على الفراغ، كما أن التأسي هو رد فعل على الفقدان. والعبارة الهائجة والمهاجمة هي احتجاج الإرادة المحاصرة بقيود القوة الكابحة. أما الولع بها فهو غلوّ على رخص الروح والجسد، والذي عادة ما تتقاسمه السلطة والمعارضة!ّ

أدى هذا "الهوس" المتسامي في العبارة والكلمة إلى توسيع أفق الرؤية العربية الناهضة. ووجد ذلك انعكاسه في أسماء المجلات والجرائد وانتحال الألقاب. فإذا كانت تسميات الصحف والمجلات الأولى واقعة تحت ثقل الذوق القديم كما هو جلي في (حديقة الأخبار)، و(مرآة الأحوال)، و(نزهة الأفكار)، فان الأخبار والأفكار تصبح أسلوبا لتعميق الرؤية نفسها في نهوضها الصعب من تحث ركام الكابوس العثماني. حيث تأخذ بالظهور تسميات (لسان الحال)، و(لسان الشرق)، و(لسان الغرب)، و(الصدى)، و(المصباح)، و(الفجر)، و(العمران)، و(الترقي)، و(التقدم)، و(التمدن)، و(النهضة)، و(الإصلاح)، و(مصر)، و(تونس)، و(لبنان)، و(القاهرة)، و(دمشق)، و(المشتري)، و(بابل)، و(الأهرام)، و(الأزهر)، و(الراشد)، و(المأمون)، و(فرعون)، و(الزراعة)، و(التجارة)، و(الحقوق)، و(العدالة)، و(المساواة)، و(الإخاء)، و(الحرية)، و(الحق)، و(الحكمة)، و(السلام)، و(الأمل)، وغيرها من التسميات. بمعنى تعمق الرؤية الزمنية والمكانية والمدنية والوطنية والقومية والثقافية والحضارية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والعلمية.

وقد كان ذلك هو القدر الضروري الأول في ترسيخ قواعد الرؤية العربية لبناء وعيها الذاتي المعاصر. فقد كان من الصعب آنذاك إدراك المعاصرة بروح المعاصرة نفسها لان الوعي الاجتماعي نفسه لم يتكامل بعد ضمن إشكالاته الخاصة.

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم