قضايا

علي الوردي (27): وعّاظ السلاطين ربطوا الدين بالدولة لأنّهم يعبشون على موائد الطغاة

husan sarmakالدين والدولة أمران متنافران بالطبيعة:

ثم يقدم لنا الوردي خلاصة ريادية عن وجهة نظره في العلاقة بين الدين والدولة يبين فيها أن للدين دورا في التاريخ مثلما للدولة دورها أيضا، ومن يريد أن يدرس التاريخ بمنظار واحد منهما ويهمل المنظار الآخر يكون كمن يشتهي التاريخ أن يتوقف، وهذا مستحيل . ويرى أن الدين والدولة من طبيعتين متناقضتين وأن أي لقاء بينهما سيكون مصطنعا وطارئا، وعلى هذا الأساس يكون الوردي من أوائل الدعاة إلى فصل الدين عن الدولة في العراق، إن لم يكن أولهم:

(إن الدين والدولة أمران متنافران بالطبيعة . فإذا اتحدا في فترة من الزمن كان اتحادهما مؤقتا، ولا مناص من أن يأتي عليهما يوم ويفترقان فيه . وإذا رأينا الدين ملتصقا بالدولة زمنا طويلا علمنا أنه دين كهان لا دين أنبياء . وما أولئك المعممون الذين آزروا فرعون، والسدنة الذين أيّدوا نيرون، والتجار الذين قاتلوا تحت راية أبي سفيان رضي الله عنه . إنهم يرضون لفرعون أن يستعبد الناس ولا يرضون للناس أن ينقموا على استعباده . يحق للسلطان أن يقسو ولا يحق للرعية أن تشكو . وهذا رأي يلائم مزاج الخرفان، لا مزاج بني آدم) (189) .

وينظر الوردي إلى الدين كقرآن، كنصيحة، كتعليم وهداية، في حين أنه ينظر إلى الدولة كسيف، كقمع، كقسوة وضلالة . فهما على طرفي نقيض، وإذا اتحدا وبقيا على هذا الاتحاد كان ذلك دليلا على وجود عيب في أحدهما . إن الوردي يرى أن مشكلة انحراف الوعاظ عن دورهم الثوري الذي يفرضه الدين هو أنهم كانوا ولايزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة . فكانت معيشتهم متوقفة على إرضاء أولياء الأمور، وتراهم لذلك يغضون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون الله لهم - فوق ذلك - بطول العمر . ويرى أيضا أن المنهج الصوري القديم (الإفلاطوني والأرسطوطاليسي) هو الذي أعانهم على ذلك لأنه منطق المترفين الظلمة. ومشكلة الوعاظ المتمسكين بهذا المنطق هو أنهم يأخذون جانب الحاكم ويحاربون المحكوم . فتجدهم يعترفون بنقائص الطبيعة البشرية حين يستعرضون أعمال الحكام فيجدون المبررات لأفعالهم الشائنة، أما إذا استعرضوا أعمال المحكومين فتراهم يعدونها آثاما فيرعدون ويزمجرون ويتوعدونهم بالعقاب العظيم . ويؤسّس الوردي هدفه من كتابه الخطير والريادي: " وعاظ السلاطين " على أساس الاستنتاج السابق فيقول:

(إني أريد من كتابي هذا أن ألفت الأنظار إلى خطر هذا الطراز الخبيث من التفكير، فهو تفكير نما في أحضان الطغاة وترعرع على فضلات موائدهم . وقد آن الأوان لكي نتبع اليوم طرازا آخر من التفكير – هو تفكير الحمّال والبقّال، وتفكير البائس والفقير " (190).    

 

إساءة فهم موقف الوردي من جوهر الإسلام الثوري العظيم:

وقد أساء الكثير من رجال الدين فهم موقف الوردي من الدين إلى حد أنهم اتهموه بالإلحاد . وهي تهمة ظالمة ومتعسفة، فالوردي كان مدافعا عنيدا عن الدين . وكمبدأ، كان يكرّر دائما أن الإنسان إذا لم يكن لديه دين ينزل عليه من السماء فإنه سيخترع له دينا على الأرض . وإجرائيا لم يخلوا كتاب من كتب الوردي من تناول إيجابي لأهمية دور الدين في حياة الإنسان عموما ولأهمية الدين الإسلامي خصوصا . لكن سوء الفهم حصل لأن الوردي كان لديه فهم ثوري للدين الإسلامي يختلف عن فهم رجال الدين التقليديين، فهم أصيل يقوم على أساس إيمان راسخ بأن (وعاظ السلاطين) هم الذين شوّهوا جوهر الإسلام الثوري العظيم . في كتابه: (مهزلة العقل البشري) – وكما بيّنا سابقاً - ينقل الوردي نصّاً للأستاذ (سهيل العاني) صاحب كتاب: (حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين) يقول فيه:

(إن الاعتراض على الظَلَمة غير واجب إذا كان فيه تحريكُ فتنةٍ تؤدي إلى تفرّق الكلمة، وذلك لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة) .

ويرد الوردي على ذلك بالقول:

(أن الخوف من تفرّق الكلمة أو تحريك الفتنة نلاحظه في جميع ما يكتبه وعاظ السلاطين أو يخطبون به . وقد نسي هؤلاء أن جميع السلاطين الذين يدعون إلى طاعتهم وصلوا إلى الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة . فسلاطين بني أمية ورثوا الحكم عن معاوية الذي شق عصا الطاعة على علي بن أبي طالب وفرّق كلمة المسلمين . وسلاطين بني العباس ورثوا الملك عن السَفّاح الذي تمرّد على الأمويين وفرّق كلمة المسلمين التي كانت موحّدة في عهدهم . وكذلك فعل الفاطميون والأيوبيون والعثمانيون وغيرهم . كلهم وصلوا إلى الحكم بعد أن تمردوا على من كان يلي الأمر قبلهم . فلم يأتِ سلطانٌ من سلاطين المسلمين نتيجة الشورى أو اتفاق الكلمة . والغريب - والكلام للوردي – أن وعاظ السلاطين يذمّون كل فتنة تقوم في وجه السلطان، فإذا نجحت تلك الفتنة واستتب لها الأمر أخيرا أخذ الواعظون يطلبون من الناس إطاعة السلطان الجديد . وينسون بذلك طاعة وليّ أمرهم السابق الذي ذهب مع الريح) (191).

إن المبدأ الذي يدعوا إليه رجال الدين دوما حيث يقولون للناس به: (تآخوا واتحدوا واتركوا الخلاف والنزاع بينكم)، هو مبدأ سلطاني جاءوا به لإرضاء أولياء نعمتهم من المترفين الذين تلذّذوا بنعم الله ويريدون منها مزيدا على حساب الكادحين المحرومين من رعاياهم .

ويقول الأستاذ سهيل حبيب العاني أيضا:

(إن ليس على الرعية مع السلطان إلا النصح والتذكير والتعريف . أما ما يؤدي إلى خرق هيبته، ككسر آنية الخمور في بيته فتُسقط حشمته، فذلك محظور منهي عنه) (من كتاب حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين) .

ويعلّق الوردي على ذلك بالقول أن العاني يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتُخرق هيبته . ومادام الأمر صار منوطا بحفظ الهيبة والحشمة، فإن احترام السلطان قد أصبح واجبا على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عمّا يقوم به من مظالم وفضائح . ولا بأس إذ ذاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا، ويرتّلون في مديحه القصائد الطوال . فكل ذلك يؤدي إلى زيادة هيبة السلطان عزّ نصره . إن وعاظ السلاطين كادوا يُجمعون أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه . أما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظورٌ منهيٌّ عنه . يقولون ذلك في عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله . فهم لا يبالون أن يتضرر المسلم في ماله وبدنه مادام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه . هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يEعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها، ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا . فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له والله يحب المحسنين (192) .

لقد دلّت التجارب الكثيرة أن الجدل المنطقي الذي يستخدمه رجال الدين عبث ضائع لا طائل وراءه، ولا جدوى فيه . فلم نجد إنسانا اقتنع برأي خصمه نتيجة الجدل المنطقي وحده . إن هذا الجدل قد يُسكت الإنسان، وقد يفحمه أحيانا، ولكنه لا يقنعه . ويظلّ الإنسان مؤمنا بصحة رأيه حتى النَفَس الأخير . أما إذا رأيناه يبد~ل رأيه فعلا، فلنبحث عن العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعته إلى ذلك (193) .

 

المنطق الديني يتعارض مع المنطق العلمي الحديث:

إن من الأمور التي ألّبت رجال الدين التقليديين على الوردي هو موقفه الذي أعلنه أكثر من مرة والذي يرى فيه تعارض المنطق الديني مع المنطق العلمي الحديث .

وهناك سبب آخر يتمثل في أن المنطق العقلي يختلف عن المنطق العلمي جذريا . ولا يجوز الخلط مطلقا بين الدليل العلمي والدليل العقلي . فالعلم لا يعترف بوجود مقدمات منطقية صحيحة مهما كانت بديهية أو متفق عليها من قبل العقلاء جميعا . فكل شيء قابل للبحث الموضوعي والتجربة الحسّية:

(فالمتدين المؤمن بعقيدة من العقائد لا يستطيع، مهما حاول أن يتجرد من عاطفته المذهبية، وقد يظن المؤمن أنه متجرد من العاطفة، ولكن ذلك من قبيل الأوهام التي لا أساس لها من الحقيقة . إن من شرائط المنهج العلمي الدقيق أن يكون صاحبه مشككا حائرا قبل أن يبدأ بالبحث . أما أن يدّعي النظرة الموضوعية وهو منغمس في إيمانه إلى قمة رأسه فمعنى ذلك أنه مغفّل أو مخادع . ونحن نود أن نبرّيء رجال الدين من هاتين الصفتين . لا لوم على رجال الدين حين يؤيدون عقائدهم المذهبية بشتى الوسائل . فهم مكلفون إزاء ضمائرهم وإزاء أتباعهم بأن يبشّروا بعقائدهم بكل وسيلة . ولكننا نلومهم حين نراهم يستخدمون المنطق العتيق البالي في هذا السبيل، فمثلهم في هذا كمثل ذلك الذي يدخل في معركة حربية حديثة يلوح بسيفٍ يماني . إنه يؤذي نفسه ويؤذي قومه في آن واحد . وقد يمتنع المحاربون عن إطلاق النار عليه إذ هم يفضلون أن يضحكوا عليه بدلا من أن يقتلوه) (194) .

إن رجل الدين صاحب عقيدة، أما رجل العلم فهو صاحب نظرية وفرضيات، وهناك فرق كبير بين الإثنين . وذلك في درجة خضوعها للتطور . فمن طبيعة العقائد بوجه عام أنها ميّالة إلى الجمود والثبات . وبطبيعة الحال فإن الوردي لا ينتقص من شأن العقائد كلها أو يستهين بها، فهو يدرك بوضوح أن العقائد ذات أثر كبير في حياة الإنسان منذ أن خُلق، إذ هي تمنحه اليقين والطمأنينة وقد تساعده على مجابهة أزمات الحياة من جهة، وهي تدفعه إلى الحماس والنضال من الجهة الأخرى . والأمّة التي لا عقيدة لها قد تصبح ضعيفة كل الضعف إزاء أعدائها . ولكنه يؤكد على أن العقيدة شيء والمعرفة المتطورة شيء آخر . فميزة المعرفة المتطورة أنها باحثة مشككة تتطلع كل يوم إلى رأي جديد لم تألفه من قبل، في حين أن العقيدة شأنها الوثوق والإيمان الراسخ . العقيدة تقوم على اليقين، وعدوّها الشكّ في ثوابتها. وللإنسان أن يؤمن بأية عقيدة يشاء إذ هو حرّ في ذلك، إنما هو لا يمكن أن يسمّي نفسه باحثا علميا . إنه مُخيّر بين أن يترك سبيل البحث العلمي نهائيا أو أن يأخذ منه الجانب الذي لا تتدخل فيه عقيدته . أما إذا أراد أن يجمع بينهما في مجال واحد، فإن ذلك – حسب الوردي - دليل على أنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم .

 

د. حسين سرمك حسن

في المثقف اليوم