قضايا

الأبعاد الثقافية للنهضة العربية الحديثة (2-2)

mutham aljanabiالاستعادة الأدبية والثقافية للتراث العربي في مرحلة النهضة

لقد تعامل أدباء النهضة مع الكلمة تعاملهم مع خزين التاريخ والمعاناة. والشدياق، على سبيل المثال، استفرغ في كتاباته كلمات (مفردات) القواميس العربية، وأورد أعداد هائلة منها في عباراته يصاب لها رأس المرء المعاصر بالدوار. وهو موقف وجد تعبيره عند أديب اسحق (1856 – 1885) في الفكرة التي سبقه إليها الشدياق، من أن العبارة هي حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره.

فقد كانت أسرار (اللغة) العربية بالنسبة لهم هي أسرار العروبة الدفينة. وليس مصادفة أن يسهب الشدياق ببيان ما اسماه بأسرار الحروف في اللغة العربية، وكشف عما فيها من معان دفينة للعروبة الثقافية، مثل عثوره في حرف الحاء على معنى السعة والانبساط كما في كلمات السماحة والانسياح والساحة والراحة؛ وفي حرف الدال على اللين والنعومة كما في كلمات المرد والرغدة؛ أو على معنى الصلابة والقوة كما في كلمات التأكيد والتأييد والحدّة والشدة؛ وفي حرف الميم على معنى القطع والاستئصال كما في كلمات حطم وثرم وحرم وحتم؛ وفي حرف الهاء على الحمق والغفلة كما في كلمات الأبله والتائه والمعتوه (أي كل ما سنرى أثره اللاحق في التأسيس اللغوي للفكرة القومية عند زكي الارسوزي). بينما لا نعثر في كتاب (مشهد الأحوال) لفرنسيس مراش على أحوال الصوفية، بل على أحوال العالم العربي من خلال تأمل مختلف تجلياته. إذ نراه يكتب عن أحواله في الشعر، والكون، والبلد، والغربة، والحب، والكراهية، والصحبة، والعداوة، والعمل، والراحة. وتصبح الحياة موضوعا للبلاغة في الإطراء والتغزل والتأسف والإعجاب. ويصبح الإنسان العربي موضوعا للبحث يرتقي إلى مصاف التأمل الفلسفي.

من كل ذلك يبدو واضحا، بان البحث في أسرار اللغة والتلذذ بتعبيراتها عن حالات النفس وتأملات الفكر هو بحث عن خبايا الأنا الثقافية وتاريخها المنصرم لأجل اكتشاف ما يساعدنا منه في دعم وترصين الأفكار الرامية إلى تغيير الحالة الاجتماعية والقومية.

فعندما يتناول الشدياق، على سبيل المثال، كلمة الهوى فانه يتوصل إلى أن البحث فيها فقط يجبر المرء على الاعتراف، بان "اللغة العربية شرك للهوى". وعندما يتكلم عن مراتب العشق الثمان وهي الاستحسان(عند النظر والسماع) والمودة (الميل للمحبوب) والمحبة (ائتلاف الأرواح) والخلة (تمكن المحبة في القلب حتى تسقط بينهما السرائر) والهوى (لا يخالطه تلون ولا يداخله تغير) والعشق (الإفراط في المحبة حتى لا يخلو فكر العاشق من المعشوق) والتتيم (لا يرضى نفسه سوى صورة معشوقه) والوله (الخروج عن الحد إلى الجنون)، ثم يضيف لها كل من الغرام (الحب المستأسر) والشوق (نزاع النفس) والتوقان، والوجد، والتكلف، والشغف. لقد حاول أن يكشف عبر هذا المثال عن الأبعاد السحيقة للروح العربية. فاللغة هي عبارة عن حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره، وان تعدد الكلمات تعكس عمق حركاته وأفعاله وأفكاره. واللغة القادرة على عكس خلجات النفس والروح وحركات الجسد بتنوع هائل هو دليل على عمق أفعالها وحركاتها وأفكارها. ومن ثم فان استنهاض ذخيرة "لغتنا الشريفة" هو إنهاض قواعد نطقها ودقة معانيها من اجل إنهاض العقل العربي ووجدانه كما يقول الشدياق. إذ أن حال اللغة هو حال الأمة، كما يقول أديب اسحق.

في حين جعل الشدياق من النقد الأدبي الساخر أسلوبا لتعرية مثالب الحياة الاجتماعية، وإخضاعها لمبضع العقل الجارح. فهو يستفز الرؤية النقدية تجاه قبح الواقع ومظاهره الرثة عبر جمال اللغة ورفعتها. لذا نراه يورد في كتاباته كل ما يثير في القلب الانتشاء والسخرية المتعالية، وكل ما يجعل من "الصورة الفاحشة" صورة مقبولة ومعقولة لا تصدم العين، ولا تخدش السمع، ولا تستفز الأخلاق، ولا تنفّر النفس الاجتماعية. ففي انتقاده لغة رجال الدين التقليديين يشير إلى أن رأس مالهم اللغوي لا يتعدى أقوال مثل "يحتمل أن يكون هذا الشيء من باب المجاز الاسنادي أو اللغوي، أو من مجاز المجاز أو الكتابة، أو من حمل النظير على النظير، أو من حمل النقيض على النقيض، أو من باب الذكر اللازم وإرادة الملزوم، أو بالعكس، أو من باب التهكم، أو من طاقة التلميح، أو من خصائص الاكتفاء أو فتحات التجريد أو من فرجة الاستطراد أو من ثقوب التورية…".

وأصبح انتقاد الشعر مقدمة انتقاد الحس الأدبي والذوق المعنوي، والزيف والبلادة المتحجرين في أصداف اللغة ومفرداتها. وتحول إدراك قيمة الشعر المتحرر من تقاليده المبتذلة ومحاكاة موضوعاته القديمة إلى حجر الزاوية في بناء صرح الرؤية المعنوية للواقع. فالشدياق لا يطالب الشاعر أن يكون فيلسوفا، لان كثير من المجانين كانوا شعراء. وبهذا الصدد قال الفلاسفة أنفسهم أن أول الهوى الشعر، وأحسن الشعر ما كان عن هوى وغرام. ولم يقصد الشدياق بذلك سوى ضرورة تحرر الشاعر من قواعد التقليد السائدة في عصره، التي حنّطت الشاعر وهو على قيد الحياة، أي أن الشاعر الحقيقي من يولع بالحرية وهوس الغرام. لهذا وجد في شعر شعراء عصره ملهاة صغيرة. فأحدهم يقسم بالإيمان المغلظة عن عوفه الطعام والشراب شوقا وغراما، وسهر الليالي الطويلة وجدا وهياما، في حين نراه يتلهى بأية ملهاة كانت. ذلك يعني أن فقدان الغايات الكبرى في شعر الشاعر ملهاة تافهة. بينما الشعر الحقيقي هو الروح الفاعل للأمة ومصدر ثقتها بنفسها وصدق عواطفها. لهذا السبب تفخر اليونان بهوميروس، والرومان بفرجيل، والطليان بطاسو، والإنجليز بشكسبير وهاملتون وبايرون، في حين لم يظهر في أمة من الأمم شعراء مجيدون كشعراء العرب على اختلاف الأمكنة والأزمنة ابتداء بالجاهلية ومرورا بالإسلام والدولة العربية، كما يقول الشدياق.

أما فرانسيس مراش فقد كتب في مقدمة (مرآة الحسناء) قائلا "الحمد لله الذي البس الشعر جمالا وجلالا، وجعل فيه البيان سحرا حلالا، فطابت النفوس في جنات أزهاره ورقصت القلوب بكؤوس عقاره"، مؤكدا على أن الشعر العظيم هو لفظ جميل فيه معنى الطرب، أي الشعر الذي يجمع بذاته جمال اللغة والمعنى المتين. مما حدد موقفه النقدي من تجارب الشعر، ودعوته الشعراء لتجديد الرؤية الشعرية بما يتناسب مع الوقت. إذ لكل عصر رجال، والرجل العبسي ليس الآن بالرجل، وان لكل زمان السن نطقت بكل معنى جديد غير مبتذل. وهي فكرة سبق لبطرس البستاني وان عبّر عنها في موقفه النقدي من أحوال جيله، بحيث جعله ذلك يؤكد على ضرورة الاستفادة من قول المتنبي (المجد للسيف ليس المجد للقلم) ولكن من خلال حث الجيل المعاصر على إدراك حاجته للتعلم أكثر من احتياجه للسيف.

وصب الشدياق غضبه الأدبي على الزيف الديني، والطائفية، وصراع الأديان، والانغلاق الاجتماعي والقومي والثقافي. واعتبر تدريس الثور على العمل (الحراثة) انفع من تدريس حبرين ("علماء الدين"). واستغرب من مواقف رجال الدين الذين ينفقون أموالا طائلة على المآدب دون أن يطبعوا كتابا في اللغة والآداب. وقدم صورا ساخرة وهزلية عن حياة الرهبان ومعاناته الشخصية بينهم من أكلهم الخبز اليابس والعدس، وجهلهم بالكلمات، بحيث لا يفرقون بين كلمة القاموس والجاموس. وإذا كانت حقيقة الرهبنة تقوم في رهبة الله وليس في أكل الخبز اليابس والعدس، فإنها تفترض المثابرة في العمل والإخلاص فيه. بينما حياة الرهبان هي حقد وغل وحسد ونفاق وصراع اشد مما بين الدول المعاصرة.

احتوى نقد الدين ورجال الدين في أعماقه على محاولة تحرير العقل والوجدان من قيود "المقدسات" المزيفة. فقد كان نقد رجال الدين عند أدباء النهضة العربية يحوي في أعماقه على نقد المزيفات من الرواسخ والثوابت و"المقدسات" في الواقع الاجتماعي. لذا لم يقع هذا النقد في تطرف الجفاء الروحي تجاه تجارب الأسلاف. على العكس، لقد وجدوا في الحقائق الثقافية للدين (الإسلامي والنصراني) أحد المصادر الكبرى لبعث الوعي القومي. وشكل نقدهم للزيف الديني أحد الروافد الوجدانية والعقلية لنقد الذات المتزن.

 

وعي الذات النقدي واستشراف المستقبل في فكرة النهضة العربية

لقد احتوت النظرة النقدية لرجال النهضة الأدبية الأوائل على محاولات تحرير العقل والوجدان من قيود "المقدسات" المزيفة. وضمن هذا السياق ينبغي فهم نقدهم للواقع والعادات والتقاليد والدين، بمعنى نقد المزيفات من الرواسخ والثوابت و"المقدسات" في الواقع الاجتماعي. لهذا لم يقع نقدهم النظري والعملي في تطرف الجفاء الروحي تجاه تجارب الأسلاف.

وطبقوا هذه الرؤية العقلانية على مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك نقد الغرب من خلال نقد التقليد الأجوف لمظاهر التمدن الأوربي. فقد كشف الشدياق عن رذائل المبشرين الأوربيين سواء في ركاكة اللفظ والمعنى المميز للغتهم أو في دعوتهم النصارى إلى الزهد والتقشف بينما لا همّ لهم غير السرقة والاستحواذ على ثروات البلاد، إضافة إلى نشرهم صفات البخل والحرص والطيش والسفاهة. وفي معرض انتقاده لأبناء جنسه الذين عاشروا الإفرنج ولم تسترق طباعهم منهم إلا الرذائل دون الفضائل. واعتبر اغلب ما يشاع عن الغرب تعظيما أو تسفيها مجرد أوهام. ووجد في أكثر من يحب بلدان الغرب من العرب لا لأكلها ومائها وهوائها وأخلاقها وسلوكها، بل لفجورها!

بينما حاول بطرس البستاني أن يعطي لموقفه الفكري من التقليد الحضاري بعدا فلسفيا من خلال تعريفه ما اسماه "بالتمدن الحقيقي" و"التمدن الأجوف". ومن هذا المنطلق انتقد تاريخ التمدن وتاريخ التقليد فيه. ففي معرض انتقاده لتاريخ التمدن اليوناني والروماني والعربي، اعتقد بان كل منهم لم يقدّر الإنسان والمجتمع جميعا في كل جوانبهم. وان هذا التمدن لم يشمل جميع الشعوب والأمم. ونفس الشيء يمكن قوله عن التمدن الأوربي المعاصر. وبغض النظر عن سموّه، إلا انه جزئي ويسوده حب التسلط والفحشاء وغيرها من الرذائل. ووضع هذه الفكرة في أساس نقده الذاتي من خلال التركيز على الفكرة القائلة، بان كل شيئ مميز في هذه الدنيا قابل للتقليد والتزوير بما في ذلك بضاعة الغرب وسلوكه. غير أن هذا السلوك سوف يعرض التمدن في العالم العربي للفشل. وإذا كان من الممكن الاتفاق مع التقليد السليم، فان ليس كل ما في الغرب سليم ومفيد وموافق لنجاح الشرقيين، كما يقول بطرس البستاني. لان مظاهر التمدن في حالة أخذها لحالها لا تدل على تمدن، بل على العكس أنها قشور مؤذية.

وأعطى سليم البستاني لهذه الفكرة أبعادا سياسية من خلال اكتشافه ما يمكن دعوته بالأبعاد المدمرة لتقليد الغرب في العالم العربي. فهو يشير إلى أن تقليد الأجنبي في المأكل والملبس يؤدي إلى إفراغ البلد من ثرواته. وان التوجه الاستهلاكي المقلد للغرب يؤدي إلى انحلال الصناعة المحلية واضمحلالها. لهذا طالب بدعم الصناعة المحلية من خلال دعمها المادي والمعنوي، ورفض تقليد الغرب في المأكل والملبس. ودعا إلى تربية الجل الناشئ بجب واحترام الصناعات المحلية وبضائعها. وهو موقف يعكس رؤية واقعية في نقد الواقع ونقاط ضعفه الأساسية، التي حصرها أديب اسحق فيما اسماه بعدم رؤية الشرقي للعبرة لا فيه ولا في غيره. بمعنى ضعفه البنيوي الشامل. وهو واقع دعاه سليم البستاني بالفساد الشامل للدولة والمجتمع (فساد الرؤساء، وانتشار الرشوة، والكذب في الاجتماع، والاقتصاد، والتجارة، والزراعة، والأخلاق).

كان انتقاد الغرب في نفس الوقت نقدا ذاتيا، بفعل استثارته مشاعر الاحتجاج الصادق ضد حالة الانحطاط المعنوي للدولة (العثمانية). مما حدد بدوره إفراط الوجدان في طلاقة اللسان وبالعكس. أما السبيكة الحية للوجدان واللسان في الاحتجاج ضد الحالة القائمة، فقد كان لابد لها من استثارة مشاعر الاحتجاج الصادق على حالة الانحطاط المعنوي للعرب أنفسهم. فسليم البستاني نفسه يشتكي في أحد مواقفه قائلا "هل نقول قد راحت طوالع سعد الأمة فلا تعود إلى رعاتها، وقد لبط بها فلا تنهض؟ لان صدر الدهر قد وغر عليها وأيادي الزمان قد تخللتها النوائب، وقد عاشت فلا تقدر أن تأتى بما يمهجها بعد أن خدشت ناعم وجنتيها جيوش الرزايا والآفات بعد أن كانت تجر ذيول المجد والعزّ؟" بينما كثف إبراهيم اليازجي حزمة الأضواء الساطعة وسلطها على خبايا الخلل المعنوي للعرب عندما خاطبهم قائل:

فيم التعلل بالآمال تخدعـــــــــكم     وانـــــتم بين راحات القنا سلــب

كم تظلمون ولستم تشتكون وكـم     تستبغضون فلا يبدو لكم غضب

ألفتم الهون حتــــــى صار عندكم     طــــبعا، وبعض الطبع مكتســب

ودفع أدباء النهضة بشكل عام فكرة الحرية الفردية والاجتماعية إلى أبعادها السياسية. ففي (غابة الحق) لفرانسيس مراش يجري تحويل حرية اللغة إلى لغة الحرية. ففي جمال اللغة نعثر على عمقها البرهاني لا على نموذجها البياني. وتجلى ذلك في الصيغة الرمزية للغة كما لو انه أراد أن يعبرّ عن خرس الواقع بإشارة مثيرة. وحاول عبر جمال اللغة أن يصور التاريخ بالحلم الذي يحوي في ثناياه على مسار الحضارات، وغزو وتقاتل من اجل الحطام، وتناحر على الغنيمة، إلى أن رأى مكتوبا عليه عبارة: العقل يحكم!

وبهذا المنحى أيضا سارت آراء أديب اسحق في محاولته تأسيس وتعميق العلاقات الاجتماعية من خلال إشراك المجتمع في ترسيخ حريته الفردية والجماعية. من هنا انتقاده خمول الجمهور، حيث اعتبر غيابهم عن المشاركة الفعلية في الحياة السياسية أحد الأسباب الكبرى للتأخر. واعتبر لهذا السبب الفكرة القائلة، بان "تغير النظام مجاراة للأحوال مخالف لأحكام الشريعة"، فكرة باطلة. لان اغلب مفكري الإسلام الكبار اجمعوا على عكسها. فأبي بكر ابن العربي على سبيل المثال، قال بوجوب الاستشارة باعتبارها أحد أسس الشريعة في الحكم. واجمع الفقهاء والمفكرون المسلمون على أن القصد من أعمال الإمام (السلطة والدولة) المصلحة العمومية. وجعل أديب اسحق من العدل والحرية غاية المصلحة العمومية. ووجد ذلك انعكاسه في إعطائه لشعارات الثورة الفرنسية أبعادا ملموسة في ظل السلطة العثمانية (والعالم العربي). فقد جعل من الاتحاد والمساواة والعدل والعلم والحرية حلقات ضرورية في سلسلة الإصلاح الحق.

المناعة الثقافية لوعي الذات في النهضة لعربية

حالما يتعلم اللسان الثقافي نطق حروف الماضي وإشكالاته المثيرة للعقل والوجدان، فانه سوف يقف بالضرورة أمام مهمة نطق كلمات معاناته الظاهرية والباطنية. حينذاك تتبلور العناصر الأولية لإدراك الذات. وعادة ما يؤدي هذا الإدراك إلى تأمل الحاضر وقياسه بمعايير وقيم الأسلاف، أو إلى تأمله بمعايير المستقبل. وهي عملية تؤدي إلى ظهور تيار التحصين الثقافي وتيار الانعتاق الوجداني. ومن الناحية "الطبيعية" كان ينبغي لهذين التيارين أن يتداخلا في كل واحد، أما من الناحية التاريخية فقد كان ينبغي لهما أن يتوازيا في مسار شاق من الاستقامة والالتفاف الدائم لئلا يفترقا في غياهب المجهول.

فقد كان العالم العربي عند بداية القرن التاسع عشر يجهل نفسه والعالم. بينما يفترض النظر إلى المستقبل رؤية نقطة الانطلاق. في حين لم توجد "معاصرة" آنذاك في الوعي العربي، لان المعاصرة تفترض رؤية الماضي والمستقبل. بينما لم يمتلك العالم العربي حينذاك تاريخه المستقل. أما فقدان التاريخ السياسي، انه يوّلد بالضرورة الجهل واللامبالاة تجاه الماضي والمستقبل، باعتبارهما كفتي ميزان الحاضر. من هنا عكست الموازاة القائمة والفعالة في نفس الوقت بين "طلاقة اللسان" و"تحصين الأركان" الملامح الأولى في تجاوز الهوة السحيقة لغياب التاريخ السياسي العربي المستقل.

إن "تحصين الأركان" كظاهرة هي نتاج للتحلل البنيوي الذي قطع استمرار التقاليد وتجديدها المبدع. إذ لا حصانة في التاريخ المبدع، لأنه هو نفسه تجل رفيع لها. وهو حال يجعل من مرجعيات الماضي الملجأ الأخير للاحتماء بها من ضغط "الآخرين"، والعروة الوثقى للتمسك بها في مواجهة النفس وتحدي ضعفها الذاتي.

فقد ظهرت الحاجة لتحصين الأركان العربية تحت ضغط العامل الأوربي (الغربي) وضغط الانحطاط الذاتي الذي أطلق عليه رجال النهضة العرب عبارة "ضعف الروح الأدبي". وليس مصادفة أن يركز الطهطاوي وخير الدين التونسي (1819-1889) على أولوية العمران. فهي المقولة التي استعادت في الظاهر الفكرة الخلدونية، وفي الباطن مهمة تعمير النفس.

تأمل الطهطاوي مختلف جوانب الحياة الفرنسية من عمران، وصناعة، وزراعة، وأدب، وفنون، وصفات الناس العقلية والأدبية والأخلاقية، ونمط حياتهم. ووجد في عمرانهم وعلومهم وفنونهم وآدابهم ما يستحق التقدير والاحترام، وفي ذكاء الباريسيين ورفضهم للتقليد وحبهم للحرية في العلم والعمل والدين وسعيهم للتجديد بما في ذلك في المظاهر والوفاء بالوعد وعدم الغدر والمروءة وصرفهم الأموال في حظوظ النفس والشهوات وعدم ظنهم السوء ببناتهم رغم تبرجهن، فضائلا يحق أن تكون "من باب الحال في ديار الإسلام". وجعله ذلك يتوصل في النهاية إلى أن الفرنسيين اقرب "شبها بالعرب منهم للترك ولغيرهم من الأجناس. وأقوى مظنة العرب بأمور كالعرض والحرية والافتخار". فالفرنسيون يحلفون أيضا بالعرض كما هو الحال عند العرب. ولا يغير من ذلك شيئا موقفهم من النساء، لان العرض عندهم أوسع من الغيرة. إذ يقابل العرض عندهم المروءة عندنا، ومتعلقه بالنساء لا يقّيم بالسفور والحجاب، بل بالتربية، كما يقول الطهطاوي.

وتوصل التونسي إلى نفس النتيجة كما وضعها في فكرته القائلة، بان المهمة الأساسية المطروحة أمام الفكر الإصلاحي تقوم في "اقتناء جواهر العلوم مجردة عن أعراضها". وهي نظرة نقدية لها أبعادا منظومية في التعامل مع تجارب أوربا الحضارية. لهذا وقف بالضد من الاستغلال الضيق للتجربة الأوربية، وبالأخص ضد محاولات تطويها السياسي المباشر. إذ لا يعني "اقتناء جواهر العلوم مجردة عن أعراضها" سوى ضرورة تمثل التجربة الحضارية الأوربية بكاملها واستخلاص دروسها العامة بما يكفل للعالم العربي إمكانية استنهاضه وانبعاثه الجديد. من هنا مطالبته أن "يجري تخير ما يكن بحالنا لائقا ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا"، أي ليست التجربة الأوربية سوى أحد المصادر الإضافية التي يمكنها مساعدة العالم العربي في نهضته الجديدة، ولكن بشرط استجابته لمبادئ وقيم الثقافة الإسلامية.

وليس مصادفة أن يشترك الطهطاوي والتونسي في تركيزهما على مبدأي النظام والحرية في التجربة الأوربية، حيث وجدا فيهما مبادئ جوهرية مميزة للعقيدة الإسلامية. وهو أمر يفسر سبب ترجمة الطهطاوي للمواد الأربعة والسبعين لإعلان الثورة الفرنسية، إضافة إلى استعراضه لبعض مواده، وبالأخص ما يتعلق منها بقضايا المساواة والعدل والحرية. فقد وجد فيها معادلا لفكرتي العدل والإنصاف الإسلاميتين. ونفس الشيء يمكن قوله عن استعراضه المكثف للائحة حقوق الإنسان الفرنسية بعد عام 1831. حيث ابرز فيها مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ونعثر على هذه الفكرة أيضا عند بيرم الخامس (1716-1806) في كتابه (رسالة في السياسة الشرعية)، التي اقر فيها بان السياسة الشرعية هي ما يكون معه اقرب إلى الصلاح وابعد عن الفساد سواء كان ذلك في الوحي أو السنّة أو لم يكن، كما يقول التونسي، أي أن كل ما هو صالح ويؤدي إلى الصلاح فهو شرعي بحد ذاته. وأن سيادة القانون تجعل من فكرة الديمقراطية والرقابة الشعبية أمرا طبيعيا. واعتقد بان لهذه الفكرة جذورها الخاصة في التقاليد الإسلامية السياسية والوعي النظري مثل رأي الغزالي القائل بضرورة استماع الحكم لردود الناس وضرورة تغيير المنكر، وكذلك رأي أبي بكر ابن العربي القائل بان "المشورة اصل في الدين وسنّة الله في العالمين. وهي حق على عامة الخليقة من الرسول إلى اقل الخلق". وينطبق هذا أيضا على فصل السلطات. فالمسلمون هم أول من فصل السلطات، كما هو الحال عند الماوردي القائل بإمكانية وضرورة "وزارة التفويض"، أي تلك التي تأخذ على عاتقها مهمة إدارة الدولة برأيها واجتهادها المستقل عن الخليفة (الملك). في حين رفض سعد الدين التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) تعدد الأئمة (السلاطين) في حالة احترابهم وتعارضهم. ولكنه سمح بها وبالشورى في حالة كونها "صوتا واحدا".

 

الأثر الفكري والاجتماعي والسياسي للنهضة الأدبية

أدى تعمق وعي الذات العربي الذي جرى بأثر توازى المسار الذي قطعه كل من تيار "طلاقة اللسان" وتيار "تحصين الأركان" إلى تنشيط هواجس الضمير الملتهب وإدراك قيمة الهموم الكبرى والصغرى بالنسبة للتعامل مع كل ما له علاقة بالحاضر والمستقبل. فقد شارك كلاهما بالغوص في بحار اللغة والتاريخ، بمعنى ولعهما بقضايا المجرد والملموس في التاريخ القومي والثقافي. وإذا كان لهذا الاختلاف فضيلة نظرية كبرى ورذيلة عملية بمستواها في حالة عدم تداخلهما في تأمل الحاضر واستشراف المستقبل، فانه شأن كل تواز في الحياة لابد له من أن يتقاطع في محطات العبور أو الوصول. مما يولد بالضرورة شرارة الهياج العارم حينا، وطغيان الفرح والابتهاج حينا آخر. وليس مصادفة أن يتسلل هذا التقاطع بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة إلى أذهان واعيان النخبة الفكرية الجديدة الناشئة آنذاك. إذ يمكننا العثور على صدى هذه الحالة في إبداع مختلف شخصيات المرحلة، لكن ذروتها الأولية تجسدت في شخصية وإبداع جرجي زيدان (1861-1914).

فقد حقق جرجي زيدان في حياته وفكره ومصيره تذبذب الحالة الحرجة لتوليف اللغة والتاريخ المتراكم في وعي النهضة العلمية والأدبية العربية الحديثة، بوصفها وحدة ضرورية لوعي الذات القومي والثقافي. وفي هذا تكمن مأثرته الكبرى بالنسبة للعقل والضمير العربي الجديدين. وذلك لأنه استطاع بقدر واحد السير إلى الأمام خطوات كبرى بتقاليد الرؤية الجديدة عن قيمة التاريخ واللغة، وتوحيدهما بمعايير الرؤية النقدية ووعي الذات التاريخي.

فقد كان هاجس النهضة القوة الكبرى في تراكم الرؤية النقدية التاريخية لجرجي زيدان. الأمر الذي جعل من طابعها المجزئ في بدايته، والتجريبي لاحقا، يتسم بقدر من العقلانية النقدية. وذلك لخلو هذه الرؤية من اثر التقاليد اللاهوتية وأثقالها الجاثمة على العقل والضمير. كما أن ضعف التأهيل الفلسفي الأول لجرجي زيدان قد أبقى على اهتمامه محصورا بالتاريخ كما هو. إضافة إلى التأثير الكبير للفكر الأوربي الاستشراقي بهذا الصدد. ومن هذه الحصيلة التي يمكن رؤيتها في كتبه التاريخية الأولية تبلورت النزعة التجريبية بوصفها تجربة نقدية عقلانية. إذ نراه يشير، على سبيل المثال، إلى أن ما يكتبه في ميدان البحوث التاريخية، بما في ذلك في (تاريخ التمدن الإسلامي) لا يخلو من مقارنة بالتاريخ الإفرنجي (الأوربي)، لكن المقصود الفعلي منه كان يقوم في إبراز هوية التمدن العربي الإسلامي. إلا أن الجوهري في كل هذه العملية الطبيعة آنذاك هو الانتقال المتراكم في رؤيته التاريخية وتوسع وتعمق محتواها القومي والثقافي. أما البداية الكبرى لها أو أساسها المنهجي والنظري فيقوم في تبلور فكرة جوهرية التاريخ وأهميتها بالنسبة للنهضة الحديثة.

لقد كانت مهمة جرجي زيدان هنا تقوم في تصوير التاريخ كما هو من اجل صنع مرآة صافية لرؤية النفس وتعميق فكرة الانتماء الذاتي، بعد تشذيبها وتهذيبها من الأساطير والرؤية المفرطة في نفيها لتاريخ "الجاهلية"، أو المنمقة بغبار مرحلة الانحطاط التي تعرض لها العرب بعد زوال دولتهم. لهذا كانت منهجيته هنا تتسق مع فكرته العامة عن "نشر التاريخ وفلسفته وآدابه ودرس تاريخ الشرق وبالأخص تاريخ العرب والإسلام وآداب اللغة العربية".

بعبارة أخرى، إن العناصر الجوهرية في فكرة الرواية التاريخية وأسلوبها بالنسبة لجرجي زيدان تقوم في تضافر فكرتين جوهرتين بهذا الصدد وهما نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه، وأن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه. ذلك يعني أن بداية ونهاية الرواية هي تاريخ، وان الفكرة التاريخية هي الغاية النهائية، وليست القصة سوى أسلوب التشويق فقط. ولا يعني ذلك في الواقع سوى أن ميدان ومصدر ومعين إدراك الهموم الكبرى والصغرى لوجود البشر هو التاريخ. مع ما ترتب عليه من تلقائية تأسيس وتوسيع مدى الفكرة القائلة، بان الارتباط العقلي والوجداني بالتاريخ هي المقدمة الضرورية لوعي الذات القومي والثقافي، ومن ثم المقدمة الضرورية للنهضة.

ووضع هذه المقدمة في أساس نقده للتقليد الأجوف للغرب الأوربي وفكرة الدفاع عن العامية في مواجهة الفصحى. ففي معرض انتقاده لهذا النوع من التقليد الأجوف نراه يستشهد بمثال خطبة عربية بليغة (بوصفها وثيقة تاريخية) بعد ترجمتها عن الفرنسية (!) "فجاءت أعجمية اللهجة عارية من البلاغة العربية، مع إمكان نقلها بعبارتها الأصلية لفظا ومعنى". وعندما طبق ذلك على حالة العربية في مصر آنذاك، فإننا نراه يجد احد أسباب الخلاف والتشويش في التفكير والكتابة المعاصرة له كونها تتجاذبها قوة الانعطاف صوب التقليد للانجليز أو الفرنسيين. مما أثر بدوره على اختلاف وتباين الآراء والأذواق والمبادئ والأخلاق. لكنه في الوقت نفسه لم ينس تعقيد اللغة القديمة، أو بصورة أدق انغلاقها النسبي بسبب الانقطاع التاريخي. من هنا ربطه بين ما اسماه بتعقيد اللغة القديمة وصعوبتها بالنسبة للمعاصرين وتقليد المعاصرين لها دون تطويرها، بوصفه احد الأسباب الإضافية في هذا الخلل.

وبالمقابل نراه في مجرى الدفاع عن العربية الفصحى يرد على أولئك (الغربيين) الذين قالوا بان سبب تخلف الإبداع العلمي بين العرب (والمصريين في الحالة المعنية) كونهم لا يكتبون بلغتهم الدارجة بل بالعربية الفصحى. وللتدليل على ذلك استشهدوا بحالة الانجليز فيما مضى عندما كانوا يكتبون باللاتينية، وبعد تركهم لها وكتابتهم بالانجليزية. في حين وجد جرجي زيدان في هذه الرؤية جهلا بواقع العلاقة بين العامية والفصحى من جهة، وعدم تشابه ذلك مع الانجليزية واللاتينية من جهة أخرى. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه إذا كان بإمكان العامية إنقاذنا من شر فإنها توقعنا في اشد منه. وذلك لما في العامية واستعمالها من زيادة للاختلاف والفرقة بين العرب (لهجات أهل مصر والشام وغيرها). الأمر الذي يجعل من اللغة الفصحى وتوسيع مداها وتهذيبها وتطويرها بما يتناسب مع حاجات المرحلة الحالية مهمة ضرورية. بل وجد فيها مقدمة النهضة الأدبية. وأشار هنا إلى ما اسماه بالنهضة الجلية بهذا الصدد، رغم حجمها الصغير، الذي يبدو اقرب إلى لعبة أطفال مقارنة بالغرب الأوربي، إلا أنها ذات آفاق كبرى. ووضع هذه الفكرة في أساس الاعتدال في المواقف من هذه القضية، أي في أساس ما يمكن دعوته بالموقف الواقعي والعقلاني منها. لهذا نراه يقف بالضد من أولئك الذين يتعاملون مع آداب الأسلاف (العرب) باحتقار، معتبرا ذلك موقف ينم عن جهل وكسل معرفي. ومن هنا أيضا مطالبته بالحثّ "على تأييد اللغة العربية لأنها قوام الأمة العربية أو العنصر العربي. ولا بقاء للأمة إلا بلغتها. ولا حياة للسان العربي إلا بمصر لأنها محور العالم العربي. وإذا قدّر لهذه اللغة أن تنهض فعلى مصر الواجب الأول في إنهاضها".

***

في المثقف اليوم