قضايا

الحشد الشعبي .. الضمير الوطني والعقل العراقي

mutham aljanabiإن دهاليز الزمن المظلم، عادة ما تصبح ممرات النور التاريخي. بمعنى أن المصاعب والمصائب عادة ما تصبح أداة لتمرس الإرادة العقلية وتنقية الضمير الأخلاقي. فالتاريخ الفعلي للأفراد والجماعات والأقوام والأمم، لا يمكنه أن يكون طريقا معبدا. انه تعرجات لا تحصى، لكنها يمكن أن تصبح "طريقا مستقيما" حالما ترتقي الإرادة إلى مصاف الرؤية العقلانية القادرة على استشراف المستقبل والعمل بمعاييره. وهي الحصيلة التي نطلق عليها عبارة "التجربة التاريخية"، أي التجربة التي تتمثل الوقائع والحقائق بالشكل الذي يجعلها جزء من رؤية واقعية ومستقبلية. بمعنى تحويل حصيلتها إلى مرجعيات متسامية، أو مبادئ عامة ملزمة للجميع، بوصفها المقدمة الضرورية لكل تراكم حقيقي في وعي الذات الفردي والاجتماعي والقومي.

فالفكرة الوطنية لا يمكنها أن ترتقي إلى مصاف المرجعية المتسامية أو المبادئ الملزمة للجميع ما لم يمر الأفراد والجماعات والأقوام في مخاض الصراع المتنوع الأشكال والمستويات، من أجل صنع إرادة العمل الواعي ووجدان الانتماء الفعلي للفكرة العامة. وهذه كلها متنوعة الأشكال لانها تجارب ذاتية، غير أنها متوحدة المضمون لانها تجمع وتمحّص رؤيتها على شكل مبادئ عامة بأثر تجربتها التاريخية الخاصة.

وقد تكون تجربة مرور فكرة وواقع "الحشد الشعبي" في العراق إحدى الصور النموذجية لهذه الظاهرة. بمعنى أنها مرت في دهاليز الظلام السياسي العراقي، وها هي تخرج صوب أنوار وعيه التاريخي، بوصفه مشروعا مستقبليا. فهي الظاهرة التي تتمثل مصاعب ومصائب العراق الحالية ما بعد الاحتلال وإخراجه، أي كل ما أعطى ويعطي للصراع وجهته الداخلية ويستثير أغلب كوامنه وقواه المتناحرة. إذ تكشف هذه العملية في الإطار العام عن وجود مشروعين مختلفتين ومتناقضين تجاه الواقع والمستقبل ومختلف إشكاليات وجود الدولة والمجتمع والنظام السياسي في العراق. بمعنى إننا نرى فيها ونعثر على "مشروع" الماضي وقواه السياسية والاجتماعية، ومشروع البديل المستقبلي. وكلاهما يتمثلان زمن الضياع الفعلي للعراق الحديث وعدم قدرته على حل إشكاليات وجوده الكبرى وبالأخص قضايا الدولة والنظام السياسي والفكرة الوطنية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية والتطوير الاقتصادي والعلمي. الأمر الذي نراه بجلاء في الحالة المزرية للانحطاط، والرجوع إلى الوراء، والردة الاجتماعية الشاملة.

وعموما يمكننا القول، بان ظهور الحشد الشعبي هو الرد الاجتماعي السياسي الأول في تاريخ العراق الحديث الذي اخرج إلى جانب قوات الدولة الضاربة (من جيش وشرطة وغيرها) ونخبها الحزبية، قوة اجتماعية ضاربة رديفة، أي مستقلة نسبيا. الأمر الذي يجعلها تحتوي في أعماقها على قوة سياسية قادرة على أن تعيد الأمور إلى نصابها فيما يتعلق بدور المجتمع في بناء الدولة، ومن ثم كنس تقاليد الأحزاب والنخب السياسية التي كشفت عن ضعفها الذاتي وفشلها التاريخي التام في إرساء أسس الدولة والنظام السياسي الاجتماعي السليم.

فقد كانت النخبة السياسية العراقية في المرحلة الملكية معزولة عن المجتمع وصنيعة تقاليد عثمانية وبريطانية، أي ليست وطنية. ولم يكن ذلك معزولا عن الخطأ التاريخي الذي اقترفه أهل الوسط والجنوب العراقي بأثر ثورة العشرين. بمعنى إنهم سلموا السلطة لقوى لا علاقة جوهرية لها بالعراق. وليس مصادفة أن تضمحل وتتلاشى الدولة الملكية بين ليلة وضحاها ولم تعد تثير حتى الأسى، دعك عن الرغبة بالرجوع إليها واستمداد ما فيها بوصفها مقدمة الدولة العراقية الحديثة. كما نعثر على ذلك في تلك المرحلة الصغيرة والخاطفة لما بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 (ثورة تموز) التي أثارت لهيب الفكرة الوطنية وإشراك المجتمع بصورة فعالة للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث بإدارة شئون الدولة. لكنه جرى إحباطها من جانب نفس تلك القوى التي استلمت السلطة على طبق من ذهب هدية من الاحتلال البريطاني. الأمر الذي يشير في واقع العراق إلى وجود قوى اجتماعية مختلفة ومتباينة من حيث رؤيتها لماهية الدولة والسلطة والنظام الاجتماعي والسياسي، أي وجود قوى ارتبط مصيرها بالسلطة في المناطق الغربية العراقية (أو ما يسمى بأهل السنة) ومناطق الوسط والجنوب العراقي (أو ما يسمى بالشيعة). وهو خلاف وتباين اجتماعي وثقافي توسع وتعمق بالأخص في مجرى العقود الأربعة للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. واتخذ بعدا سياسيا صارخا ما بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نمط الهيمنة والسيطرة المحكومة بالعنف والقهر والإرهاب وليس بقوة القانون والانتخاب والشرعية.

فقد تحول أهل المنطقة الغربية إلى "سنة" و"مقاومة" شرسة لفكرة الدولة الشرعية كما هي. والسبب يكمن في فقدان تقاليد الفكرة الاجتماعية والسياسية والوطنية فيها. وذلك لان كل هذه الأغلفة كانت مجرد غشاء لفكرة السلطة فقط. بحيث جرى إرجاع كل شيء إلى "واجب" الخضوع إليها. وأصبحت السلطة المغتصبة بقوة الحديد والنار والمحمية بقوة التكاتف الجهوي والفئوي والطائفي المبطن، الوعاء الكاذب لفكرة الدولة والقومية. من هنا يمكن فهم سر المواجهة العلنية والمستترة، الشرسة والإرهابية، العدائية والتكفيرية، والمستعدة لكل أصناف الخيانة الوطنية والقومية وحتى الدينية من اجل "إرجاع السلطة". بعبارة أخرى، إن كل هذه المظاهر تشير أولا وقبل كل شيء إلى هيمنة وجوهرية غريزة السلطة في وعيها العملي. وقد كان ذلك وما يزال سر الفضيحة والخلل الاجتماعي والوطني العراقي. بحيث أدى إلى استشراء نفسية الثأر والتخريب والتدمير والاستعداد لطوفان العراق واندثاره الشامل والتام مقابل البقاء على جبل السلطة، بوصفها القوة الوحيدة القادرة على انتشالهم من الغرق في بحر الوجود الساري لمشاريع البدائل العقلانية والوطنية والمستقبلية.

إن الأسطورة والتاريخ الواقعي يكشف عن زيف هذه المعتقدات، وخصوصا في ظروف العراق الحالية. فقد صنع العراق أسطورة الطوفان وأدرجها ضمن قيمه الأخلاقية القائلة، بان الحياة والبحث عن الخلود تفترض الاعتماد على النفس وقوة الارادة. وهي الحالة التي يواجهها العراق حاليا بعد غرقه في طوفان الدكتاتورية وقواه الحاضنة. فاعتماد أسلوب الطوفان من اجل البقاء في السلطة أو استعادتها بأي ثمن كان، هو بقدر واحد جهل وغباء وضيق أفق وانعدام الرؤية الواقعية وأضغاث أحلام. وذلك بأثر التغير البنيوي الشامل الذي حدث في العراق على بنيته الاجتماعية والسياسية، التي تجعل من المستحيل الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية والمؤامرات الخفية والمقامرات الممولة من القوى الخارجية(والوثاق الأخيرة لويكليكس عن دور هذه القوى وارتباطها بمكلة آل سعود مجرد إضافة صغيرة لا غير).

فالتغير البنيوي الذي حدث في العراق لا يمكن تغييره بالقوة. على العكس إن القوة سوف تؤدي إلى التدمير الكامل لمناطق الغربية واضمحلال وجودها الفعلي فيه. وهو أمر جلي فيما يجري الآن. فقد تعرضت المناطق الغربية إلى حالة تدمير هائلة. وما يجري فيها شيء اقرب إلى الانتحار. ومن ثم تقف أمام خياران الأول وهو الموت في حال الاستمرار بالعصيان الدموي والمشاكسة العلنية والمستترة لفكرة الدولة الوطنية والشرعية، والثاني وهو إعادة النظر الواقعية والاندماج التدريجي في البنية الاجتماعية والسياسية الجديدة من اجل صنع هوية عراقية وطنية مبنية على أساس المشاركة الفعالة في العطاء وليس الأخذ فقط. وكلاهما يشكلان في ظروف العراق الحالية تيارا واحدا ومتداخلا. بمعنى المسار الفعلي لسحق حركة العصيان والمناهضة للدولة والفكرة الوطنية العراقية، والاضطرار الفعلي للدخول في معترك "العملية السياسية". وكلاهما أيضا ما زالا يتمثلان في الأغلب نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة. وهي حالة طبيعية ما لم تندثر أسس وتقاليد الحاضنة الاجتماعية والثقافية لهذا النمط "السياسي" وظهور قوى اجتماعية سياسية وطنية فعلية.

بينما يبقى الوسط والجنوب ليس فقط مصدر القوة الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والروحية والمعرفية والثقافية والإنتاجية للعراق وفكرته الوطنية ومشروع الدولة الشرعية الحديثة، بل وقاعدته ومؤسسه الفعلي على امتداد التاريخ. أما الحالة التي جعلت من "اللسان النجدي" (الأنبار وتوابعها) القوة الناطقة في تاريخ العراق الحديث فقد ولى وانقطع. وكلما يجري إدراك الحقيقة القائلة، بان قاعدة العراق التاريخية الثقافية هي الأساس وان "اللسان النجدي" فيه مجرد حالة عارضة، كلما يؤدي ذلك إلى انبعاث الروح الاجتماعي ولاحقا الوطني، بوصفها المقدمة الضرورية للتكامل في دولة ووطن ومجتمع واحد وموحد بهمومه الذاتية الكبرى.

إن هذه النتيجة هي "الحتمية" المتراكمة في مضمار الرؤية الفلسفية العقلانية للمستقبل. أما في الواقع، فأنها مرت وسوف تمر بالضرورة بدهاليز الصراع السياسي والثقافي الحاد من اجل أن تتبلور ملامح البدائل الوطنية العامة. ولا يمكن بلوغ ذلك قبل أن تتراكم مقدمات البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية البديلة لزمن الدكتاتورية ونفسية الاستحواذ الجهوي والفئوي والطائفي على مقدرات الدولة والمجتمع. بمعنى استرجاع أهمية وجوهرية المركز وإدراج الأطراف في أفلاكه الوطنية. وهذا كله يستحيل في ظروف العراق الحالية وخصوصية المرحلة الانتقالية فيه دون أن يكون الوسط والجنوب العراقي هو قاطرة العراق المستقبلية. وهي حالة واقعية ورمزية ايجابية بقدر واحد. فحقيقة العراق التاريخية والثقافية هي البصرة والكوفة، أي كل الجنوب والوسط العراقي. وهما مراكزه منذ الأصل (أور وبابل). أما بغداد فهي ليست المركز، بل الرابط الجغرافي القادر على تمثل الكلّ العراقي بوصفه صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية.

فقد هيمنت الدكتاتورية والجهوية والاطرافية الهامشية على مركز العراق ومراكز القرار بالشكل الذي أدى على امتداد أربعة عقود (1963-2003) إلى سحق المجتمع بصورة مطلقة وتفتيت قواه الاجتماعية والسياسية والثقافية. أما النتيجة فهي جماعات وقبائل عوضا عن المجتمع، وكميات من البشر بدون إنسان، ووعي اجتماعي يتسم بقدر هائل من الضحالة والتسطيح، وانعدام شبه مطلق لمنظومة القيم الاجتماعية الحديثة وفكرة الدولة والوطنية. وقد يكون العراق بحاجة إلى أربعة عقود مستقبلية من اجل استرجاع ملامح الخمسينيات الجذابة للعراق (بالمعنى التاريخ وليس المطلق). إلا أن النتيجة الجلية التي أسفر عنها الانقلاب العنيف الذي لامس العراق بعد الاحتلال الأمريكي هو كشفه عن عوراته الفعلية بشكل عام وخراب نخبه السياسية بشكل خاص.

فقد اندثرت النخبة السياسية للنظام البائد وتحولت بين ليلة وضحاها إلى هاربين وإرهابيين ومخربين ومرتزقة. وعوضا عنها ظهرت من بين حواضنها نخبة هي خليط من غباء وأثرة وخيانة. الأمر الذي يشير إلى أن النظام السياسي البائد لم يصنع قوى سياسية، بل كمية من العتلات المتحركة بقوة الشدة والبسط التي يقوم بها مركز القرار (العائلة والقبيلة والجهة). من هنا طابعها الباهت وخواء شخصيتها وفراغها المثير للتقزز والذي يجري التعويض عنه أما بصراخ إعلامي لقوى خارجية (خليجية سعودية) أو بمغامرات خفية تستهدف "العملية السياسية". ولم يتغير شيء من جوهرها هذا حتى الآن. وذلك لانها قوى الماضي الذي لم يجر سحقه بصورة تامة بعد. من هنا انتعاشها في ظل الخراب والمراوحة والعمل الحثيث على إبقائهما في مفاصل الهيئة التشريعية والتنفيذية والإعلام ومد قوى العصيان اللاعقلانية وقوى الإرهاب الداخلي والخارجي.

أما النخبة الشيعية "البديلة" فأنها لم ترتق إلى مصاف البديل الواقعي والعقلاني الوطني. فقد كشفت تجربة ما بعد الاحتلال وحتى الآن، من أن اغلبها أما فاسد أو خائن أو عاجز.

أما القوى العرقية الكردية فأنها خائنة بالطبع والطبيعة وذلك لانها ليست قوى عراقية (الأمر الذي يستلزم إخراجهم من العراق، بوصفها مهمة الحشد الشعبي اللاحقة من اجل تنقية الوجود العراقي من القوى الطارئة عليه). فقد كشف سلوك القوى العرقية الكردية ما قبل الاحتلال وبعده عن أن وجدوها في العراق والنظام السياسي هو جزء من زمن الخراب والتخريب والمؤامرة والمغامرة. وبهذا المعنى كان ظهور "داعش" واكتساحها للحاضنة الجهوية والطائفية أمرا "طبيعيا"، بأثر الخيانة الجلية للقوى العرقية الكردية والسنية الموصلية والانبارية (مؤامرة سحب القوات العسكرية وتسليم المعدات والعتاد والأرض لداعش)، وبأثر تداخل الصراع الداخلي والإقليمي (التركي السعودي الخليجي) والعالمي (الأمريكي)، وخيانة وتأمر البعض القوى الشيعية (الحكيم والصدر وبعض شخصيات حزب الدعوة) وضعف القيادة السياسية (للمالكي) في اتخاذ القرارات الحازمة أو إتباع الليونة التكتيكية السليمة والبعيدة المدى.

لقد كشف الاكتساح السريع لداعش مناطق الحاضنة التقليدية للنظام البائد عن خواء العملية السياسية وخواء اغلب القوى وعجزها وخيانتها. فخيانة النخب "السنية" يحددها واقع القرب والبعد عن السلطة. وخيانة النخب "الشيعية" هي نتاج فسادها السريع وضعف مناعتها الأخلاقية بأثر استلامها المجاني للسلطة. أما القوى العرقية الكردية فأنها تخون العراق في الحرب والسلم، في الأزمة وبدونها، شأن كل أقلية مغلقة ومغتربة عن الوطن والدولة.

لقد بات الانقسام والاغتراب المصيدة التي يتصيد بها الجميع بعضهم البعض. وقد كانت تلك وما تزال الأداة الرخيصة لقوى الإرهاب والعصيان. كما أنها الوسيلة التي تحفظ للنخب السياسية الحالية (وهي نسبة شبه مطلقة) إمكانية العيش والسرقة والابتزاز. وفي كلها تعكس حالة الخراب المادي والمعنوي للعراق، و"الضريبة" التي لابد من دفعها من اجل أن تحترق كل حثالة الماضي ومزابله المتأنقة حاليا في نظام المحاصصة.

إن واقع النخب السياسية العراقية الحالية يكشف عن أن القوى العرقية الكردية هي استمرار لما فيها، وان قوى النخبة السياسية "السنية" هي استمرار لنظام بائد، وان النخبة السياسية "الشيعية" تتقاسم من سبقها إضافة إلى فقدانها للحزم، مع أنها تتمتع بكل مؤهلات الحسم الفعلي لإشكاليات الصراع الحالية ومسبباتها في العراق. وذلك لانها مدعومة ومحمية بقوة أهل الوسط والجنوب، أي الكل العراقي والعربي الفعلي.

إن هذه الحالة البائسة هي التي جعلت من "العملية السياسية" لعبة غبية وخبيثة تتراوح ما بين فشل وآخر. إلى أن جاء الهجوم الداعشي لكي ينثر هذه القوى ويرجعها إلى مصادرها الأولية ويكشف في الوقت نفسه عن حقيقتها وماهيتها. فالقوى الكردية كشفت للمرة الألف عن انعدام الفكرة الوطنية ووحدة الدولة. من هنا التفافها، شأن السارقين الصغار، صوب كركوك و"المناطق المتنازع عليها" لكي ترفع شعار "رسم الحدود بالدم". وهو شعار يكشف بلادة أهل الجبال والبغال. وذلك لان رسم الحدود بالدم الفعلي هو مشروع ما بعد داعش وليس بأثر وجودها العابر. فالعراق والحشد الشعبي سوف يبيدا داعش وقواها الداخلية والإقليمية. حينذاك سوف تندفع بالضرورة إلى الواجهة مهمة تصفية الحساب التاريخي مع الحركة العرقية الكردية والقضية الكردية ككل في العراق. وهذا أمر لا شك فيه! أما القوى "السنية" فقد أطربتها أنغام "الغزو الداعشي" وأثارت لعباها وأحلامها باحتلال بغداد! وبقيت القوى"الشيعية" أمام العقبة الأولية والأخيرة التي لم تحسم كيفية عبورها.

لقد كشف كل ذلك عن حقيقة عامة كبرى تقول، بان القوى السياسية الحالية في العراق ليست قادرة على صنع إجماع وطني وبديل حكومي ومشروع عملي واقعي يجتاز دهاليز المرحلة الانتقالية وزمن الدكتاتورية صوب الفضاء الفعلي للمستقبل وتاريخ الدولة والأمة. وهذه بدورها تشير إلى حالة الانهيار والردة الثقافية والمعرفية والاجتماعية والأخلاقية، السائد فيها هو نفسية البهيمة وليس حقيقة الارادة العقلانية والروح الإنساني. من هنا مراوحة العملية السياسية التي لن تنتهي ما لم تنته مقدماتها وأسسها وقواها. وضمن هذا السياق، كان الهجوم الداعشي وإعادة نثر التراكم الغبي لنظام المحاصصة نقمة ونعمة بقدر واحد. انه نقمة على العملية السياسية، ونعمة بالنسبة للبدائل. ومن هذا التناقض واحتكاك مكوناته وآثاره المحتملة ولدت الفتوى السيستانية التي تغلغلت في جسد الشيعة المترهل والخائب وأحيته بقوة "الحشد الشعبي". تماما بالقدر الذي تحولت فيه فكرة الحشد وتجسديها العملي إلى قوة تتمثل الوجدان والضمير العراقي أولا وعقله السياسي ثانيا.

فقد كان رد الفعل الاجتماعي العارم على الفتوى السيستانية من أهل الوسط والجنوب يتمثل بقدر واحد الحس الوطني والحدس السياسي. إذ يمكننا العثور في هذه الهبّة الجديدة على معادل لما يمكن دعوته ببداية الهداية الجديدة. إذ أن اندفاع الملايين بأجسادهم وأرواحهم وسلاحهم وبأموالهم يعني أولا وقبل كل شيء اندفاع الحركة الاجتماعية والسياسية بقوة الضمير الوطني. وهي القوة التي أعادت وستعيد هيكلة وجود الدولة والنظام السياسي. إذ من الصعب مواجهتها كما كان الحال بالنسبة لمواجهة المالكي. وذلك لأنه إذا كان من الممكن مواجهة العقل السياسي بالعقل الماكر، فان الأمر يختلف بالنسبة للضمير لأنه من مكون آخر. وذلك لان مواجهة الضمير الوطني بضمير ماكر لا يفعل فعله. من هنا يمكن فهم مزايدة القوى التي عملت على امتداد سنين طويلة بإضعاف إمكانية الدولة وإعادة تجهيزها العسكري وبناءه الجديد (الحكيم والصدر والبرازاني والنجيفي) عبر محاولة الانخراط فيه وركوب الموجة كما نراها في ديكورات الحكيم وسرايا السلام وما شابه ذلك. بينما تنصلت القوى الكردية وانزوت في إقليمها الجبلي. أما قوى النظام البائد فقد أرادت استبدال فكرة "الجيش الرديف" الاجتماعي الوطني بفكرة "الحرس المحلي". ومع اشتداد الصراع والمواجهة والانتصارات نلاحظ انسحاب الصدر، ومراوغة الحكيم، وتخبيث البرازاني، وهوس الطائفية السنية بتشويه ماهية الحشد الشعبي وتضحياته الوطنية الكبرى. وفي مجرى كل هذه العملية الدامية بدأت بالبروز حقيقة الصراع الفعلي بين تيار اجتماعي سياسي يمثل الضمير الثائر والعقل الوطني وبين مغامرات ومؤامرات النخب السيئة والخائنة. غير أن هذه القوى التي واجهت مشروع المالكي، لا يمكنها الآن القيام بذلك. وذلك لان الحشد الشعبي ليس فردا. الأمر الذي يستبطن الحقيقة القائلة، بان خسارة المالكي الشخصية هنا لم تكن هزيمة. وذلك لأنهم أرادوا الوقيعة بشخصية المالكي فانتصر نهجه! وليس المقصود بنهج المالكي شخصيته كما هي ولا حتى شعار دولة القانون، بل فكرة "الجيش الرديف" بوصفها فكرة اجتماعية وطنية ومستقبلية تذلل الخلل الفعلي والتاريخي في النخبة السياسية العراقية وتكنس رذائلها التي لا تحصى. وبهذا يعيد التاريخ العراقي نفسه من خلال الإمكانية الفاعلة في الحشد الشعبي بوصفه ضمير وعقل الوطن العراقي والدولة العراقية، أي الاستعادة الحية والمستقبلية لتاريخ العراقي منذ ثورة العشرين ولحد الآن.

فقد اخرج عرب الفرات الأوسط والجنوب الإنجليز بأثر ثورة العشرين، وهم من اخرج قوة الاحتلال الأمريكي عام 2011. وإذا كان الخلل التاريخي للدولة يقوم في الخطأ السياسي الذي جرى اقترافه في عشرينيات القرن الماضي، فان تكراره يعني الوقوع في خطيئة وطنية قاتلة وليست سياسية فقط. وهي نتيجة ممكنة في ظل القيادة السياسية الحالية للشيعة، لكنها مستحيلة في ظل صعود الحشد الشعبي. وفي هذا تكمن المقدمة الأولية الضرورية للحشد الشعبي بوصفه قوة العقل والضمير والطاقة الاجتماعية والسياسية التي يستلزم توحيدها من اجل تذليل عقبات إعادة تأسيس الدولة الوطنية الحديثة.

 

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم