قضايا

الموريسكيون .. في ظل محاكم التفتيش

sara falihaldaboniقد يبدو هذا الاسمُ غريباً على اكثر المسلمين في يومنا هذا.. لاشكَ في ذلك، فقد مرت القرونُ على اجيالٍ مسلمةٍ دونَ أن تدري أن هناكَ فئةٌ من اخواننا المسلمين قد دفنهم التاريخ وعزفَ عن النظرِ في حكايةِ نهايةِ عصرٍ اسلاميٍ دامَ لاكثر من 800 سنه..!

فبعدَ أن بنوا دولةً كُبرى شيدوا خلالها صرحاً حضارياً عملاقاً لازالت معالمهُ قائمةً حتى يومنا هذا، وجدَ الموريسكيونَ أنفسهم قيدَ القتلِ والطردِ والإبادة في محنةٍ قد أعتبرت أولَ عمليةِ تصفيةٍ عرقيةٍ في التاريخ..!

يحكي التاريخُ أن دولةِ الاندلس قد تأسست في البدايةِ كأمارةٍ في ظل الخلافةِ الأموية خلفها ملوكُ الطوائف، ثم وحدها المرابطون قبل ان تنقسم مرةً أخرى الى ملوكِ طوائف، وأُبيدت نهائياً بسقوط غرناطه في 2 يناير 1492 على يد الملك فيرناندو الثاني.

778-sara1

حيثُ عانى مسلمو الاندلس (الموريسكيون) شتى انواعِ التعذيبِ والتنكيلِ والقتل، على يدِ الملك فرناندو الثاني، ومروا خلالَ حقبةٍ من معاناةٍ طويلةٍ بلغت ذروتها بصدور مرسومٍ في التاسع من أبريل 1609 يقرُ بطرد كُل مسلمٍ نهائياً من اسبانياً. علماً أن اتفاقية تسليم غرناطه الموقع عليها في 25 نوفمبر 1491 بين كبار قادة المسلمين والاسبان قد نصت على احترام المسيحيين لسكان غرناطه المسلمين واحترام ممتلكاتهم وعقائدهم وشرائعهم والابقاء على الشريعةِ الاسلاميةِ كمصدر للقضاء بالنسبةِ لهم، بالاضافةِ الى السماح لهم بالعودةِ الى اسبانيا في حالِ لم يرقَ لهم العيشُ في الدولِ التي هُجروا اليها. إلا ان الكاردينال المسيحي سيسنيروس قد مارسَ سياسةَ العنفِ ضد الموريسكيون، باتباعِ مراسيمَ تقضي باقتلاعهم من جذورهم التاريخيةِ ومنعِ تداولهم اللغةَ العربية واجبارهم على الاكل في رمضان وقتلِ من يمسك متلبساً وهو يصلي الصلاةَ الاسلامية..! مادفع الموريسكيون الى اقامةِ انتفاضتهم الشهيرة (ألبوخارا) ورفعِ السلاحِ ضده، مادفعَ الحكومةَ الاسبانية الى اخمادِ انتفاضتهم واجبارهم على الوقوف بين ثلاث خياراتٍ: إما اعتناقُ المسيحيةِ، أو مغادرة اسبانيا ، أو الموت بإصدار مرسوم كانَ عنوانهُ (تمرد المسلمين)..!

وعندها عمدت الحكومةُ الاسبانيةُ الى تهجير الرافضين لاعتناق المسيحية من الموريسكيين بطريقةٍ منظمه، بينما تقرر اخضاع جميع الموريسكيون المتبقين في اسبانيا، الى محاكم تفتيش خشيةَ من ممارستهم للطقوس الاسلاميةِ بأنواعها سراً..!

فبتحريض من نائب ملك فالنسيا رئيس الأساقفة خوان دى ريبيرا، قام فيليب الثالث ملك إسبانيا بطرد الموريسكيين من إسبانيا في عملية استغرقت الفترة بين (1609- 1614 م)، فقد أُمروا أن يغادروا "تحت ألم الموت والحرمان، بدون محاكمات أو أحكام..على ان لا يأخذوا معهم نقوداً، أو سبائك ذهبية، أو مجوهرات أو كمبيالات...فقط يغادروا بما يستطيعون حمله.

وتتضارب المعطيات العربية والاسبانيةُ بشأن عدد الموريسكيون المهجرين من اسبانيا، فالكتابات العربيةُ التاريخية تتحدث حول مايقاربُ المليوني منفي بغض النظرِ عن من واجه مصيرَ الموت منهم في اسبانيا. بينما تشير الوثائق الاسبانية في المقابل الى مايقارب 272 الف مسلمٍ مطرودٍ تم توزيعهم كالآتي:

117.363 مهجرٍ من منطقةِ فلنسيا، 60.818 الف مهجر من آراغون، الف44.625 مهجر من كاستيا واكستيمادورا، 30.000 الف من منطقةِ غرب الاندلس، 13، 552 الف من مورسيا، 3716 من اقليم كاتالونيا، بالاضافةِ الى 2026 مهجر من غرناطه. ويعود سبب قلةَ عدد الموركيسيون المهجرون من غرناطه الى كونهم قد تم تجيرهم تدريجياً من غرناطه وضواحيها طيلة القرن السادس عشر الميلادي. وقد سكنت الأغلبية العظمى من الموريسكيين المهجرين في أراضٍ ذات سيادة إسلامية، معظمها كان في الإمبراطورية العثمانية (الجزائر وتونس) أو المغرب، ولكنهم كانوا غير متكيفين بسبب لغتهم الإسبانية وزيهم الأوروبي.

778-sara2

أما من بقي في اسبانيا من الموريسكيين كانوا ممن ضمهم قانونُ تنصير المسلمين (دفعهم الى اعتناقِ المسيحية)، والذي كانَ يشتملُ على سنِ قوانينَ تسلبهم تاريخهم ومنها منعهم من التحدث باللغة العربية نهائياً،و منعُ الحمامات التي اشتهر بها العرب في الاندلس، وفرضُ ضريبةٍ عالية على من اراد ان يلبس على الطريقةِ العربيه، والابقاءُ على الابواب مفتوحه يوم الجمعه وفي تواريخ الاعياد كي تتم مراقبتهم كما يدعون الى الاكل وشرب الخمر علانيةً في رمضان كي يظهر عدم صيامهم، وأي عقودٍ كتبت باللغه العربية تعتبر لاغية وأن لازواج الا في الكنيسة. حتى ان الكنيسة كانت ترسل امرأة لحضور عمليات الولادة لدى الموريسكيات لكي لا تقرأ الشهادةُ في آذانِ الاطفال بل يؤخذون الى الكنيسة لتعميدهم عوضاً عن ذلك..!

هذا وقد تم انشاءُ مدارسَ خاصة بأبناء الموريسكيين لتعليمهم اللغه الاسبانية وتعاليم الدين النصراني.

وبهذا تحول الموريسكيون من اشخاصٍ ذوو فكرٍ خلاقٍ وابداعٍ واصحاب حضارة قرطبة وقصر الحمراء الى مجردِ عبيد وخدم وعمال في حقول اغنياء الاسبان لااكثر..!

وكان البرلمان الإسباني قد صادق مؤخرا على تعديل للقانون المدني الإسباني، يمكّن أحفاد ضحايا التهجير القسري من اليهود السفارديم من الحصول على الجنسية الاسبانية، دون أن يشمل بهذا الاجراء ملايين الموريسكيين الحاملين لمأساة الأسلاف. وقد شنت المغرب، كأحد أكثر الدول التي استقبلت موجات الموريسكسين المهجرين بسبب قربها الجغرافي من اسبانيا ، هجوما لاذعا على قرار البرلمان الاسباني الذي اعتبرت أنه "تصرف عنصري ينم عن فكر تمييزي مخالف للشرائع الدولية المانعة لكل أشكال التمييز، حتى تلك المبنية على اعتبارات دينية".

كما ورحبت الكثير من المؤسسات الدوليه والعالميه بقرار البرلمان الاسباني معتبرين اياهُ خطوةً في الاتجاه الصحيح للتكفير عن كل الجرم التاريخي الذي ارتكبته السلطات الاسبانية في حق اليهود السفارديم" لكنها انتقدت تجاهل الإجراء التشريعي الاسباني "لما ارتكبته السلطات الاسبانية نفسها في حق مواطنيها الموريسكيين، والذين طردوا ظلماً بشكل جماعي أيضاً، بفعل مراسيم ملكية اسبانية مماثلة لتلك التي حكمت على اليهود السفارديم بالطرد".

إن مأساةَ المسلمين الموريسكيين في اسبانيا، ونهايةِ امبراطوريةِ اسلاميةٍ حكمت لأكثر من 800 سنه، هي بالتأكيدِ حكايةُ فجيعةٍ كبرى لتاريخِ اسلامي ماكانَت لتقعَ لو أن نوراً من الإسلامِ قد بقيَ يشعُ في قلوبِ المسلمين كما ولد أولَ مرةٍ على يدِ رسولِ الامةِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم..

 

 سارة فالح الدبوني

صحيفة المثقف

في المثقف اليوم