قضايا

قراءة في مقترح اعتماد الدارجة كلغة للتدريس

بداية من حقنا طرح هذا التساؤل المشروع والذي مفاده هل التدريس بالدارجة أو العامية في أي قطر عربي سينتج لنا الإنسان القادر على الاستجابة لتحدى التخلف وبمختلف أبعاده ونحن هنا نستعير التعبير من المفكر الكبير أرنولد توينبي وبالتالي القدرة على إنتاج الإنسان القادر على إخراج المجتمع من دائرة التخلف المزمنة صوب الحداثة ونصبح من الفاعلين فيها لا من تلك الشعوب التي لم تطرق حتى بابها وإلى يومنا هذا .

بداية نقول بأننا لا نتناول الموضوع كرد فعل على ما يثار هذه الأيام حول موضوع إدخال الدارجة والعامية إلى مراحل التعليم الابتدائية في المدرسة الجزائرية لأن المسألة ليست وليدة اليوم وإنما هي مطروحة وهذا منذ بداية الغزو الفرنسي للجزائر ثم هي قد طرحت في تواريخ مختلفة وفي مناسبات عديدة عبر مختلف الأقطار العربية ولذا فنحن هنا لا نربط هذه القضية بأي شخص وأي كان ولأنها أي القضية ومتى شخصناها نكون بهذا قد أخرجناها من دائرة العلمية والموضوعية إلى دائرة تصفية الحسابات مما يغرقنا في وحل المزايدات الفارغة والتراشق بالتهم الغير مؤسسة مثل تهم الخيانة والعمالة من دون داع فقط لشل حركة الطرف المقابل تعبر تحويله من الدفاع إلى الهجوم وإنما في مثل هذه القضايا من المستحسن مقارعة الحجة بالحجة بعيدا عن صراع الديكة المقترن بالصياح الفارغ ، كما أن القضية هنا ليست مسألة استعراض للعضلات ومعركة كسر عظم هذا الطرف أو ذاك فلنختلف كما نشاء ولكن مستقبل أوطاننا فهو فوقنا جميعا يعلو ولا يعلا عليه .

وبعد هذا نقول بأن الشيء الملاحظ هو أن الإنسان قد أبدع تاريخيا وبمختلف اللغات التي تعارفت عليها الأمم السابقة مثل الفرعونية والبابلية والأشورية والصينية والسوريانية واليونانية واللاتينية والعربية وهو يبدع اليوم وفي لغات مختلفة أيضا كاليابانية والكورية . لا لشيء سوى لأن الإبداع لا يرتبط بداهة بأية لغة وإنما هو هبة قذفها الله في الإنسان وهذا عندما أبدعه فخلقه عالما ومفكرا ومتدبرا ومتبصرا على شاكلته وهذا هو طرح المؤمنين أو هو أي الإبداع منحة الطبيعة للإنسان وهو أرقي مظاهر التطور كما يؤمن بذلك أنصار نظرية التطور ولا دخل هنا للغة في عملية الإبداع لكونها وفي أحد جوانبها وسيلة للتواصل وللتخاطب بعيدا عمّـا تودعه فينا الطبيعة من استعدادات مشتركة بين مختلف أبناء العرق البشري . كما أن ربط الإبداع باللغة والادعاء بأن هناك لغات صالحة للإبداع وأخرى عاجزة عن تحقيقه يوشي بجهل أصحابه بمراحل حياة اللغات وكيف تظهر اللغة وكيف تنقرض وهل نسى أصحاب هذا الرأي بأن الانجليزية في بداياتها لم تكن سوى مجرد خليط من اللهجات تطورت كغيرها من لغات العالم وذلك بفعل عدة عوامل عسكرية واقتصادية مما جعلها تتبوأ مكانتها الدولية والتي تحتلها اليوم اليوم وبالتالي فإن قوة الأنوار الساطعة من الآخر قد جعلت البعض يصاب بمرض عمي الألوان مما حجب عنه الرؤية السليمة والواضحة وشل قدرته على الدراسة الموضوعية للقضية .

إن الغرب قد بنا هذا الصرح العلمي الشامخ والقائم بيومنا هذا ونحن اليوم نحاول أن نقلده والسير على خطاه ولكننا نجانب الطريق الصحيح الذي سلكه هذا الغرب حتى وصل إلى ما وصل إليه ولنرى الآن بعض تلك المعالم والتي سلكها كل من الغرب وجنوب شرق آسيا حتى وصلا إلى ما وصلا إليه .

أولا لقد حفرت الو م ا عميقا لتّعرف وللوقوف على سر معجزة قدماء اليونان وحاكت تجربتهم وخلقت نفس شروط إبداعهم في بيئتها أي خلق بيئة حاضنة لإبداع لا بيئة خانقة وطاردة له مما سمح لها بإنتاج مفكرين عظام من أمثال برغسون ثم انتبه الغرب اليوم إلى أن المبدع تهبه الطبيعة ملكات واستعدادات يولد وهو مزود بها وتترجم في مراحل لاحقة من حياته على شكل منتجات في الميدان ولهذا فالغرب اليوم قد تجاوز مرحلة تقليد القدماء والتي أعطته ثمارا جيدة ولكنها محدودة مقارنة بما يمكن أن يجنيه من محاكاتة للطبيعة . ولذالك فقد عمد الغرب إلى محاكاة هذه الأخيرة وبصورة مباشرة أي الطبيعة في كيفية إيجادها للإنسان المبدع ولهذا فالغرب اليوم يعمل على خلق تلك الاستعدادات والملكات في أبنائه وبصورة صناعية وفي جميع أبنائه ومن دون تفرقة أو استثناء وقد نجح في هذا وإن كان النجاح يبقي دوما نسبيا فكانت انطلاقته الثانية مما سمح له بضخ دماء جديدة في جسده تمكن بواسطتها من تجاوز حتمية الانهيار الحتمي وانتهاء دورته الحضارية أو على الأقل فلنقل هو قد أخر نهايتها لعدة قرون أخرى مما سمح بفجر علمي جديد تشترك كل الإنسانية في ثماره النافعة والمفيدة لكل أبنائها .

والوصول إلى هذه النتائج لا علاقة له باللغة وإنما هو ثمرة تفاعل الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة ومهما كانت اللغة التي يستخدمها ولذا فنحن اليوم بالجزائر مثلا أو في أي بلد عربي آخر بحاجة إلى أناس يستطيعون استغلال ملكات وطاقات الإنسان اللامحدودة وإلى أقصى حد وبالغة التي يرغبون فيها عربية كانت أو بربرية أو كردية أو حتى أية لغة من لغات أواسط إفريقيا المنقرضة لأن الملكات التي أودعتها فينا الطبيعة هي موجودة في كل عنصر بشري بغض النظر عن لونه أو جنسه وعرقه ولغته ولذا فإننا نرى بأن من يتهم العربية بأنها لغة غير قادرة على مجاراة الحداثة وغير هذا من التهم المعلبة وهي تهم ساقطة مسبقا ولا تصمد أمام النقد نظرا لتهافتها .كما نرى بأن صاحبها يجافي المنطق وحقيقة الأمور ويمارس سياسة لا تنظير تربوي وينطلق من خلفيات أيديولوجية هي من تكبله وتحجب عنه الرؤية الحقيقة كخيالات كهف أفلاطون .

والغرب وكما نراه اليوم قد أبدع وبكل لغاته وبالتالي فليس هناك لغة صالحة لإبداع ولغة عاجزة عنه ونفس الأمر مع جنوب شرق آسيا والذي أبدع هو الآخر بلغاته الوطنية مع اللغات الأجنبية طبعا وعليه فقد كان على القائمين على ورشات إصلاح التعليم في الجزائر وبدلا من إدخال المجتمع في مسائل شكلية أن يدرسوا في تلك الورشات كيفية وضع خطة عمل وخارطة طريق واضحة المعالم لخلق من الطفل الجزائري اليوم إنسانا ونركز هنا على تعبير الإنسان امرأة كان أو رجلا بعيدا عن سخافات وتفاهات وعار السلفيين ومن شايعهم والذين يريدون الحجر على المرأة ووأدها حية في جحيم وقبور جحورهم الزوجية لأن الإبداع لا يعترف لا بالجنس ولا باللون ولا بالدين وإنما يعترف فقط بالشروط اللازمة والمناخ المحرض على خلق مبدعين يكونون قادرين على خلق نهضة مما يسمح لأممهم باللحاق بركب الحداثة الحقيقية لا الحداثة المزيفة والمزورة والمغشوشة وهذا لا يكون إلا عن طريق المجتمع المفتوح والذي بَـشّر به المفكر الكبير كارل بوير وبالتالي فتح الفرص وأمام كل الجزائريين وبصورة متساوية وعادلة وهذا لن يكون إلا في إطار الدولة المدنية العلمانية ، علمانية غير معادية للدين كما هي علمانية فرنسا لأن هذا هو الخيار الوحيد المتاح أمامنا اليوم وهذا بعيدا عن الدولة الدينية والتي سترجعنا من جديد إلى دولة ستالين ودولة محاكم التفتيش والدولة الكنسية . ونفس الأمر أي فتح باب الفرص وبصورة عادلة ومتساوية نمنحها أيضا لكل اللغات والتي تتفاسم نفس المجال الجغرافي أي بلد عربي بعيدا عن مقالات مغرضة مثل اللغة المقدسة أو لغة الأقلية أو لغة السكان الأصليين واللغة التي تستطيع أن تتكيف مع الحداثة فلتكن هي اللغة المعتمدة ولغة التدريس بشرط تكافؤ الفرص للجميع ونحن نقصد هنا اللغات الوطنية لا اللغات القادمة مع الاستعمار وهي لغات من المستحيل الاستغناء عنها في أية عملية تعليمية وإن كنا حقا نريد خير البلد حقيقة بعيدا عن الحسابات الأيدلولوجية الضيقة فعلينا أن نكون شجعان في اختيارها أي اللغة شجاعة أندونسيا وهذا عندما استبدلت بعد استقلالها اللغة الهولندية وأحلت محلها اللغة الإنجليزية لغة الحاضر والمستقبل القريب على الأقل .

وبما أننا نتحدث عن اللغات فمنها ندخل إلى عامل الترجمة والذي هو الآخر يلعب دورا حاسما في إيجاد الفرد القادر على التعامل بفعالية وإيجابية مع الحداثة وهنا يجب التنبيه إلى أن المعجزة اليونانية القديمة هي الأخرى قد قامت على كاهل الترجمة ترجمة الشرق القديم شرق الفراعنة وبلاد الرافدين حتى أن الشعار الشهير لسقراط الفيلسوف العظم والقاضي ب : " اعرف نفسك بنفسك " هو شعار فرعوني وجد منقوشا على معابد مصر القديمة ويكفينا هنا الإشارة إلى كتاب أثينا السوداء لنقف على دور الانفتاح على الآخر في بناء التراكم المعرفي للعنصر البشري . كما لا ننسى بأن العرب أنفسهم وعندما انتقلت الدورة الحضارية إليهم فهم قد اعتمدوا على عنصر الترجمة حتى أنهم برروا الترجمة بالمقدس ويكمن هذا في حلم المأمون الشهير حلم وهو على نموذج حلم النبي إبراهيم فكما أمر الله إبراهيم بذبح ولده في الحلم فقد أمر الله المأمون ومن معه بالوحي وهذا عبر الحلم بأن يترجم معارف قدماء اليونان وهي حيلة منه لإسكات رجال الدين المتعصبين والمحدودي الأفق كما هو حالهم في كل عصر ومصر - وما أكثرهم في جزائرنا اليوم - وهم من يضعون العصا في عجلة التنمية لإيقاف تقدمها وبالقوة وهو نفس منطق المعسكر المضاد من متطرفي العلمانية . نحن هنا ضد أدلجة التعليم وفق تصورات عقائدية يهدف أصحابها إلى أهداف غائية من ورائها . وبالعودة إلى الحديث عن الترجمة نجد بأن أوروبا هي الأخرى وفي بداية نهضتها عمدت إلى الترجمة وتبعتها اليابان والذي تمكن بالترجمة من نقل سر تفوق الغرب إلى أراضية ومع البعثات العلمية استطاع توطين التكنولوجيا الحديثة به ومعه مختلف أمم الدنيا الأخرى في يومنا هذا في كل من الصين وكوريا الجنوبية مثلا والغرب نفسه لا يزال يترجم من وإلى لغاته . وهنا من حقنا أن نتساءل أين هي معاهد الترجمة التي أقمناها والتي ستقيم لنا أرضية معرفية صلبة ننطلق منها وتكون مفتاح وسر دخولنا للحداثة وهل التدريس بالدارجة الجزائرية هو من سيمكننا من تحقيق هذه الأهداف إننا هنا نتجنب عمدا شرب الدواء الشافي والذي سيعالج عللنا لصالح وصفات على منوال ما يعرف بالرقية الشرعية والتي لن تزيدنا إلا سوء .

ثم أين هي البعثات العلمية غير تلك التي تشبه مساحيق التجميل والتي تتجمل بها الحكومات العربية لتظهر بمظهر الدول الراعية للعلم وللمعرفة وكيف نتجاهل دور البعثات العلمية في خلق الإنسان الحداثي ونحن نري دورها الحاسم في نهضة كل من اليابان والصين الشعبية ولذا وقبل أن ندخل في مسألة شكلية نميع عبرها القضية ونتجاهل البلسم الحقيقي بغية التهرب من تحمل المسؤولية فإننا نهرب إلى الأمام وهذا عبر حل غير عملي متهمين العربية ومتجاهلين عن عمد فشلنا نحن في بناء بيئة دافعة للتعلم وحاضنة له ومحرضة عليه وتتجلى مظاهرها فيما ذكرناه أعلاه وهذا لأننا أسري عقائد أيديولوجية تمنعنا من رؤية الأمور بوضوح . وإن كنا نريد أن نلج الحداثة فعلينا أن نكون حكماء في قراراتنا كما فعلت اليابان ومن بعدها الصين وهذا حينما انفتحوا على كل نماذج وتجارب الحداثة وأخذوا من كل نموذج وتجربة أجود ما فيهما ولذا فإننا في الجزائر لا خيار لنا في ضرورة الإنعتاق من النموذج الفرنسي ففرسا اليوم ليست فرنسا القرن التاسع عشر ولا فرنسا الربع الثاني والثالث من القرن العشرين وهي جزء من مشهد الحداثة وليست كل صورتها وهنا يكمن سر عجزنا في التعامل والتفاعل بإيجابية مع الحداثة .

وهنا نقول بأنه وجب علينا اليوم في الجزائر ضرورة التحرر من اسر النموذج الفرنسي كما مر أنفا وهو الذي قد تجاوزته عدة نماذج في العالم ولن نطنب هنا في الحديث عن تراجع الفرنسية كما ونوعا على المستوى العالمي لصالح الإنجليزية خاصة ولكننا نحن لا زلنا في الجزائر نصر على عدم الأخذ بها فعجزنا في أن ندخل إلى الحداثة ببساطة كما وأن أسرنا في النموذج الفرنسي يشبه حالة الشيخ المريض والذي ينصح بأن يذهب للعلاج في المصحات الحديثة ولكنه يصر على العلاج بأدوية ابن سينا وهنا يكون فشله الذريع في مداواة علله لكونه لا يعلم بأن أدوية ابن سينا قد تجاوزها الزمن وهو نفس حال من لا يزال يعتقد بأن بوابة الحداثة هي فرنسا ولا شيء غير فرنسا وهنا كان الأفضل له أن يتعلم من عباس فرحات المناضل الجزائري الكبير والذي كان هو الآخر أسير منظومة القيم الفرنسية ولكنه استطاع تجاوزها وهذا عندما وقف على تجربة الو م أ في الحرب العالمية الثانية ثم تجاوز النموذج الأمريكي ذاته فاستطاع بهذا أن يحجز له مكان في التاريخ ولو لم يكن فعالا في التعامل مع المتغيرات الدولية لتجاوزه الزمن وطواه كما طوى زميله في النضال ابن جلول وهو نفس مصير من لا يزال يتجاهل المتغيرات الدولية على أرض الواقع ويختطف الجزائر وبالقوة إلى بدايات القرن الماضي أي القرن العشرين . ونحن هنا لسنا ضد فرنسا ولا ضد الفرنسية ولكننا ضد تكريس الرداءة حتى ولو كانت مسوقة في ثوب ياباني أوجرماني أو إنجلوسكسوني .

وهنا علينا أن نشير إلى ملاحظة مهمة ألا وهي أننا وبما قلناه سابقا لا يجب أن يفرح أنصار المشروع الإسلامي المعاق فنحن نرى بأن الحل لا يكمن فيه ولن نجده عنده أو عند مناضليه وهذا في المستقبل المنظور على الأقل ولذا وجب استبعاد مجانين السلفية وبكل توجهاتها والتي هي وحسب النموذج الذي يسوقه أصحابها نجدها معادية للعلم وللمعرفة وللإبداع ونحن هنا لا نقصي الإسلام والذي هو روح وهوية الجزائر ولكننا نرفض استبدال مرض وتعصب بمرض وتعصب آخر سيحرق كل مبادرة حقيقية للنهوض بالجزائر . ولأن التاريخ يخبرنا بأن الإقلاع الحضاري لا علاقة له بالإسلام فالفراعنة وقدماء بلا د الرافدين وقدماء اليونان والرومان واليابان وكوريا الجنوبية اليوم كلها تجارب رائدة ولا علاقة للإسلام بها لأن التعليم شأن من شؤون الدنيا كما يخبرنا به الحديث النبوي الشريف ونحن هنا لا نمارس الإقصاء ضدهم بل نحن نقطع طريق إقصائهم للآخر الذي يختلف معهم وهو عندهم كافر مطرود وملعون في الدنيا وفي الآخرة معا حسب أدبياتهم المنحطة طبعا .

ونحن نستبعد الإسلاميين وخاصة السلفيين من دائرة صنع القرار التربوي لمجرد التفكير من أنهم سيستنسخون تجربة بوكو حرام الملعونة أو تجربة طالبان الفاسدة والمخربة ولا شيء لهم غير هذا وأقلهم سوء نجده تائها بين عالمين عالم الحداثة وعالم الماضي الأسطوري الذي يقفز على الواقع ويشل حركتهم ومتى كانوا هم سادة القرار التربوي فسوف يركزون على وهم الخلاص الأخروي على حساب بناء دولة الرفاه كما هو الحال في ألمانيا مثلا ، خاصة وأن تجربة البرلمان المصري والذي قد أنتخب عقب تنحي الرئيس حسني مبارك والذي كانت غالبيته من الإسلاميين يذكرنا كيف عُــهّر العمل البرلماني وكيف انحط مستوى الخطاب والآداء وأضحى البرلمان منبرا لمناقشة التفاهات وسفاسف الأمور لا لشيء سوى لكون ذلك هو مستواهم وذاك أقصى ما يملكون وما يستطيعون تقديمه وهنا تكمن النكبة وهل كنا سننتظر منهم أن ينظروا وأين هو العقل المُــكَــون بتعبير الفيلسوف لالاند والذي يملكونه وهم عقل مُـكَـوَنا لعقل منحط . إن واقع غالبية الإسلاميين مع الحداثة يماثل واقع بيكاسو مع الماركسية فهو قد اعتنقها ولكنها لم تستطع ابتلاعه فبقي في منتصف الطريق ولم تستطع لفظه أيضا وهذا كما يقول دارسوه وهو نفس وضعية المعتدلين من الإسلاميين ولا نقول السلفيين المتحجرين فهم وقوفا في منتصف الطريق , طريق الماضي وطريق الحاضر والمستقبل وإلى أن يقرروا ما يريدون ويقوموا بمراجعات فكرية ونقدية لمشروعهم فإن رؤيتهم الحالية للأمور ستحرمهم من سلطة اتخاذ القرارات الصائبة والنافعة والمفيدة للمجتمع ولن تمكنهم أبدا من خلق الإنسان الذي يتفاعل بإيجابية مع الحداثة .

وعليه فنحن لا نطالب باستئصالهم ولا بإقصائهم بصورة نهائية فهذا سيخلق منهم أعداء للمجتمع وقنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة فتهد الدولة والمجتمع من الأسس وإن لم يكن هذا فسوف تدخلهما في حروب داخلية توقف عجلة التطور والبناء لقرون ولأجيال ولذا وجب الاستماع إليهم على أن لا يكون رأيهم ملزم التنفيذ حتى ولو ادعوا بأن ما عندهم مصدره الوحي الإلهي فكلامهم هذا غوغائي ومردود عليهم .

ولعل من أبرز أهداف التعليم كذلك هو خلق إنسان قادر على التعامل بإيجابية مع واقعه لتحسينه دوما نحو الأفضل بغية الارتقاء بالمجتمع من الراقي إلى الأرقى وهذا الهدف تحقق ولا يزال يتحقق في المجتمعات المتقدمة وبصور متفاوتة ونسبية وهذا بغض النظر عن اللغة المستخدمة في كل مجتمع وبقليل من الجهد نجد بأن جل أفراد المجتمع الألماني والإنجليزي والياباني هم من نموذج هذا الإنسان المتعامل بإيجابية مع الحداثة ولكن هناك الملايين من أبناء نفس الشعوب من فشلت لغتهم الألمانية والإنجليزية واليابانية في أن تخلق منهم أفرادا يتفاعلون بإيجابية مع الحداثة نفسها وهذا مأزق يواجهه من يدعون بأن الحداثة لا تكون إلا من بعد مسح هوية ولغة لصالح هوية ولغة أخرى . وما يزيد الأمر صعوبة هو نجاح باهر للغات أخرى كانت مهمشة إلى وقت قريب وتوصف بالمتخلفة في خلق أفراد يتعاملون وبإيجابية خارقة مع الحداثة ومنجزاتها وبمستوى أعلى من الألمان والأمريكيين والفرنسيين ولم تحل لغاتهم الغير أوروبية دون تحقيقهم لهذا الهدف مع العلم بأنهم يحسنون اللغات الغربية كما يحسن الغرب اللغات الأخرى وإن كان تعامله معها من دافع مصلحي برغماتي .

وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة الغوص أكثر في المشكلة وعدم التسرع في اتخاذ القرارات المصيرية بصورة ارتجالية . ومما سبق نرى بأن المشكلة ليست في اللغة وإنما في منظومة القيم الفكرية والعقائدية التي يعتنقها الواحد منا وهي من تحدد بوصلة توجهاته والعيب الآخر الذي يؤخذ على إسلاميي وعلمانيي العالم العربي هو اختزالهم الحداثة في الدعارة والمواخير وشكل اللباس والمثلية الجنسية فالطرف الأول يدينها والطرف الثاني يمجدها في معركة مزايدة وهمية ودنكيشوطية الخاسر الوحيد فيها هو الوطن ولا شيء غيره وكلنا يعلم بأن الحداثة الحقيقية ليس تلك الأمور مطلقا وإنما الجهل بها هو من اختزلها في تلك التفاهات والتي هي أعراض جانبية تسللت لها نتيجة روافد معينة في الحداثة تمكنت عبرها من تأصيل ذاتها بها فأصبحت بذلك جزء منها أي الحداثة ونتاج مباشر لها وحتى وإن كان الأمر كذلك فهي جزء من الصورة وليست كل الصورة وبين هذا الطرف وذاك ضاع اهتمامنا بالإنسان والذي هو الرأسمال الوحيد الذي يجب المراهنة عليه للخروج من دائرة تخلفنا المزمنة والمغلقة .

   نعود ونقول بأن المشكلة ليست في اللغة المستخدمة وإنما في البنية الفكرية للشخص والتي هي عبارة عن خطة عمل وخارطة طريق للواحد منا وإن كانت اللغة هي المشكل فما هو موقفنا من ملايين البشر والغير ناطقين باللغات الأوروبية ومع ذلك فهم في قلب الحداثة وفي مقابلهم هناك أيضا من الغربيين ومن هم من أبناء المدرسة العلمانية المتطرفة وبلغاتها المختلفة إلا أنهم قد أصبحوا أكثر انحطاطا وتخلفا من بوكو حرام وأخواتها بل زايدوا عليهم وتطرفوا في عداوتهم للحداثة ولمنجزاتها المعجزة .وعليه فالمشكل هنا ليس مشكل لغة وإنما هو مشكل خطاب وهنا نقول للقائمين على التعليم في العالم العربي استخدموا اللغة التي تريدونها ولكن ما لم تستطيعوا وأد الفكر المعادي للحياة فلن تلحق أبدا بلدانكم بركب الحداثة وبالدولة الحديثة والمدنية .

كما يجب التنبيه إلى نقطة أخرى مفادها أن هناك من يتحجج بالتجربة التركية والإيرانية بهدف تغيير لغة التدريس من العربية إلى العامية والدارجة ولكن هنا علينا الحذر حتى لا نخدع بهاذين النموذجين فتركيا وكما قال أحد الباحثين الفرنسيين هي عملاق يقف على قدمين من الطين وهي بذلك عرضة للانهيار في أية لحظة والعودة إلى نقطة الصفر من جديد أما إيران فلا نرى إلا الجانب العسكري والذي يركز عليه الغرب وإيران هنا تتقاطع مع كوريا الشمالية في هذه النقطة تلك الدولة النووية المتخلفة والغارقة في وحل الفقر والمجاعة وهذا النوع من الحداثة مزور وغير مرغوب فيه وإنما العالم يريد حداثة عقلانية متوازنة تسير على قدمين خدمة للعرق البشري بأسره وليس في خدمة طائفة أو عرق بذاته .

ومن جهة أخري من حقنا أن نتساءل عن ذلك الكم الهائل من المسؤولين في العالم الثالث والذين هم لا يحسنون كلمة واحدة من لغة شعوبهم وإنما لغتهم الأم هي إحدى اللغات الغربية هل أخرجوا شعوبهم من التخلف أم زادوهم تخلفا لأن من يربط التخلف باللغة ويدعى بأن استخدام الألمانية سيجعلنا أمة حديدية كالأمة الألمانية فهو هنا يمارس الدجل والتخريف لكونه جاهلا بالخطوات التي قطعتها أوروبا وطوال 05 قرون قبل الآن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه بيومنا هذا فهو هنا مثل الذي يلبس قردا مئزرا وينتظر منه أن يكون طبيبا أو محاضرا جامعيا صحيح أنه يمكن له أن يقلدنا وأن يتعلم بعض أبجدياتنا كالببغاء ولكنه لن يكون أبدا طبيبا أو محاضرا وواقع حال الدول لإفريقية التي تستخدم الفرنسية والإنجليزية يشهد لهذا الرأي .

وبالعودة إلى موضوع الإصلاح التربوي في الجزائر نقول بأن المجتمع الجزائري مثلا ليس بالمصري ولا هو بالسعودي ولا هو بالياباني ولا هو بالفرنسي وإنما هناك فروقات وخصوصيات تحكمه ولذا فليس من الحكمة في شيء أن نستورد وصفات تربوية جاهزة كما لو كنا نستورد وصفات إصلاح السيارات . ولئن كانت الشركات الفرنسية المصنعة للمركبات تعدل منتجاتها حسب متطلبات السوق والمناخ في منطقة المغرب العربي " شمال إفريقيا " وقس عليها باقي المنتجات الأخرى فها هي إسبانيا تراعي خصوصية المجتمع السعودي فتضع على منتجاتها الخاصة بزيت الزيتون مثلا صورة امرأة محتشمة ولئن كان الغرب هنا يقر بخصوصية الشعوب الأخرى فيما يخص المنتجات المادية فكيف لا تتدخل في الوصفات الموجهة للعنصر البشري ونـُـكَيفها لأن الحقيقة العلمية نسبية وحمالة أوجه فما يصلح لهذا المجتمع لا يصلح بالضرورة لغيره وتعصبنا لوجهة نظرنا ينبع من فكرة امتلاكنا للحقيقة مما غيب فكرة الحوار لأننا كلنا نعانق فكرة جورج بوش الابن من ليس معنا فهو ضدنا وهي منظومة فاشية ونازية تخلق فاشية ونازية مضادة تُـنسف فيها الأوطان والشعوب .

وفي الخير نقول بأنه لا يجب علينا أن يخدعنا التصفيق العالي من الجمع المنافق من حولنا عن رؤية الحقيقة فكم من الفرنسيين مثلا من صفقوا لحكومة فيشي الموالية للألمان وهم أنفسهم من صفقوا بحرارة أكثر لحكومة فرنسا الحرة فيما بعد ونفس الأمر مع غلاة الاشتراكية في الجزائر والذين أصبحوا هم أنفسهم من غلاة الرأسمالية فيما بعد فتصفيقهم هنا معروض في المزاد لمن يحقق مصالحهم من منطلق أن الأكل مع معاوية أدسم والصلاة خلف على أسلم فالولاءات تتغير بتغير الأشخاص ولكن المصالح تبقى ثابتة فهن يزايدون حتى على مصطفى بن بولعيد وعلى كريم بلقاسم ولذا فمستقبل الجزائر مقدس وغير معروض في سوق المزايدات ولأي أحد منا ومهما كان .

 

سمير خلف الله بن امهيدي

الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم