قضايا

بواكير المدن السورية في حوض الفرات / ليزا كوبير

saleh alrazukلا يمكن للطبيعة الخلابة والغنى في الأحفورات واللقى، في حوض الفرات الشمالي، أن يفشل في جذب اهتمام غيرترود بيل وت. ي. لورنس، شخصين كان لهما دور مؤثر في تشكيل صورة الشرق الأوسط الحديث.

في الماضي القريب، ركز ما يزيد على عدد محدود من الرحالة والمنقبين عابري السبيل باهتمامهم على الآثار الدفينة في أراضي سوريا، ومن ضمنها وادي نهر الفرات.

ولكن أصبحت سوريا، ولا سيما في العقود الحالية، مركزا أساسيا للاكتشافات وللتنقيب، عندما نقل المنقبون اهتمامهم، نتيجة فقدان التواصل من بلدان عريقة بالآثار كالعراق وإيران، إلى التراث السوري وطيفه التاريخي الواسع وما يضمه من بقايا وفنون. وأكدت التنقيبات بنحو مذهل أنها مثمرة. فقد بينت أنه ليس بوسعنا اعتبار أرض ما بين النهرين بعد الآن وهي الوادي الخصيب الذي يمتد بين دجلة والفرات في جنوبي العراق، كمصدر جوهري ووحيد لتحولات الثقافات الكبرى في فجر التاريخ. إنه علينا اليوم أن نستوعب أن سوريا بدورها شاركت في عدة تبدلات عمودية وأساسية وذات طابع راديكالي.

وأهم ما يلفت الانتباه في سوريا التطورات التي جرت في العهود القديمة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد. هذه المرحلة، والتي يشار لها غالبا باسم العصر البرونزي المبكر، شهدت نموا ديناميكيا لمجتمعات معقدة حققت نهضة حضارية. وهذه التطورات الجديدة أثرت على التجمعات البشرية، وجاءت بتبدلات دراماتيكية ألحقت تحولا بالنظام السياسي، وعملت على إعادة ترتيب وتنظيم راديكالي للبنيات السائدة في المجتمع والاقتصاد. وحاليا يخضع عدد من هذه التطورات الحساسة للدراسة على ضوء سجلات الحفر والتنقيب. وقد بينت التحقيقات، على سبيل المثال، أنه في زاوية شمال شرق سوريا، على امتداد ضفاف وروافد نهر الخابور، توجد مدن كبيرة مزدحمة وذات حمولة سكانية مرتفعة، وكان لديها انتاج زراعي مع حقول خصبة واسعة الامتداد، بدأت بالظهور على امتداد المشهد الطبيعي.

فمستوطنات مثل تل ليلان كانت تشغل ما ينوف على ١٠٠ هكتارا في عام ٢٦٠٠ قبل الميلاد وهي التي يعزى لها النجاح المبكر لنمو المدن في تلك المنطقة.

واكتشاف ألواح الأرشيف الإداري في موقع تل بيدر، يثبت بما لا يدع الشك أن سكان منطقة الخابور كانوا على حظ وافر من العلم والثقافة. وهذا يقدم دعما إضافيا لصورة التطور الحضري هناك. لقد ظهرت المدن في سوريا الغربية، في وادي نهر العاصي orontes river الغني بالزراعة وفي السهول الزراعية الجافة الممتدة في جنوب حلب. وهنا، كانت أهم مدن سوريا القديمة المعروفة، مثل إيبلا، مزودة ليس فقط بقصور ضخمة وفارهة ولكن أيضا بغرف المكتبات والأرشيف، حيث وجدت ألوف من ألواح الرقم المنقوشة التي تصف كل النشاطات السياسية والاقتصادية وبالتفصيل، وهي اليوم سجل لملك إيبلا القوي وجيش موظفيه العرمرم.

وفي ضوء هذه الاكتشافات في الحفريات السورية، يجب النظر لأرض وادي الرافدين الجنوبية على أنها واحدة من بين عدة مناطق في الشرق الأدنى التي ازدهرت فيها الحضارات (يعني: الحضارة ليست حكرا على وادي الرافدين ولكنا جزء من كل) .

والأهم من ذلك، إن تحولات حواضر سوريا القديمة، لا يمكن اعتبارها ناشئة ببساطة من الاحتكاك الروحي مع وادي الرافدين فقط، ولا يمكن التعامل مع إنجازاتها الثقافية على أنها مجرد محاكاة باهتة للتطور المونوليثي الحقيقي الذي ارتبط تاريخيا بالجنوب. فقد أثبتت التنقيبات أن عددا من المدن السورية كانت بالأصل متميزة وتكتفي بذاتها، وقد حملت أعباء الشخصية المستقلة لسكانها وثقافتها المزدهرة.

وربما كان وادي نهر الفرات الشمالي يشكل واحدا من أهم المناطق التي تطورت فيها المدن المبكرة في سوريا. هذه المنطقة النهرية، تمتد لحوالي ١٠٠ كم من الحدود الحالية بين تركيا وسوريا الحديثة وحتى منطقة قريبة من الموقع الآثاري لعمر، وهي تدعم عدة مستوطنات مزدهرة كانت موجودة في الألف الثالثة قبل الميلاد. وهي المستوطنات التي نشأت قرب ضفاف النهر وعلى المدرجات والسفوح العُلوية.

هنا كان بمقدورها أن تستفيد من الإمكانات الزراعية للوادي الخصيب ومن القوافل التجارية التي تمخر عباب النهر، بالإضافة للفرص الرعوية ووفرة الطرائد الجاهزة للصيد والمتوفرة في صحن وسفوح الأرض الشاسعة التي امتدت على كلا الطرفين من وادي النهر. حيث لعدة قرون ارتفعت الكثافة السكانية وازدهرت، وكذلك ترعرعت المستوطنات لعدة قرون تالية أيضا مما ينم عن تشكيل حواضر هي مناطق جذب واستقطاب.

وكان لهذه المستوطنات نظام منشآت دفاعية. ومعها دور عبادة جماعية، لها شكل معبد ببنية واسعة الأرجاء تحيط بها مقصورات مقدسة. وقد ضمت بعض هذه المستوطنات أبنية متعددة الغرف ربما كان لها وظيفة سكنية بينما بعضها هو مكاتب للإدارة التي تختص بها النخبة السائدة وأثرياء القوم.

ويوضح قوس من الأعمال الفنية، المصنوعة من النحاس الرقيق والبرونز، وغيرها من البضائع المصنعة، من قبيل الفخاريات، أن اختصاصيين محترفين يتمتعون بمهارات متطورة كانوا موجودين على رأس عملهم.

ويمكن أن تجد في هذه المدن العائدة للألفية الثالثة قطاعات كبيرة من الإسكان، مترامية الأرجاء ومزودة بشوارع مستقيمة ومتشعبة. ويرتبط بهذه المجتمعات الحية مقابر كبيرة المساحة تؤوي الأموات، وتتضمن أضرحة حجرية منحوتة بمهارة مع أضرحة مبنية من الحجر مباشرة. ومعظمها تحتوي على عطايا وهبات ثمينة ومرتفعة التكاليف. وأخيرا، توجد نصب جنائزية تراها بشكل أبراج تعلو فوق وادي النهر، وتقدم رؤية هامة عن هرمية المجتمع المحلي. وكلها تعتبر براهين تشرح أن وادي نهر الفرات الشمالي ليس مجرد مجرى مياه لقرى رعوية وزراعية بسيطة. بل له أيضا ثقافة متطورة وحية لها خصال نفس الجماعات والحواضر التي كانت تعيش في مناطق مجاورة في سوريا و العراق.

ومن طرف آخر، هناك عدة فروقات ملحوظة تساعد على التعريف بالمستوطنات التي ازدهرت في وادي الفرات الشمالي وتؤكد ارتباطها بمدن موجودة في أمكنة أخرى. ومع أن بعض المستوطنات نمت بالمساحة، لتدعم حمولة سكانية كثيفة، فإن المعايير كانت متواضعة بالمقارنة مع مدن شمال وادي الرافدين أو حتى سهول الخابور في شمال شرق سوريا. فأكبر مدن الشمال السوري توسعت لما لا يزيد على ٥٦ هكتارا خلال القرن الثالث قبل الميلاد. وهذا هو نصف مساحة بعض مدن سهول الخابور، وأيضا هو جزء بسيط من المراكز الحضرية الأساسية المنتشرة في الجنوب. لقد كانت مستوطنات الفرات الشمالي أصغر ومعظمها لا يزيد بالمساحة عن ١٠ هكتارات.

هناك فرق آخر عن الجنوب هو في غياب الترتيب الهرمي الواضح وحضور المدينة الدولة في وادي الفرات الشمالي، وهو تطور تراه في عدة مجتمعات حضرية في أمكنة أخرى في وادي الرافدين الكبير. ومع أنه من الممكن أن تعرف ثقافات المستوطنات ذات المساحات المختلفة في بعض أجزاء المنطقة، لا يبدو أن هذه التجمعات الموضعية تعكس بنية هرمية حادة. كما أنها ليست محددة أو معرفة بمدن مركزية أو مدن حية تمتلك كل ذلك الجهاز الإداري والتنظيمي الذي به تحكم وتسيطر على القضايا الدينية والاقتصادية والسياسة في مجتمعات زراعية/ رعوية كانت تحيط بها (المعنى: غياب مدن مركز تتحكم بمدن المحيط).

على العكس، ما نراه في منطقة وادي الفرات هو سلطة اقتصاد سياسي وديني لها ترتيبات موزعة بالتساوي، حتى أن المستوطنات الأصغر تبدي كيانا هاما يقوم على عقدة من المكونات. وهذه المجتمعات النهرية الأصغر تتصف، على سبيل المثال، بمعابد غنية بالأضرحة و الأنصاب المؤثرة. وبسبب هذه الخصال غير المتوقعة والتضاريس غير العادية التي تميز المستوطنات وتعكسها بذاتها، ليس من المناسب استعمال مصطلح "دولة المدينة" لتحيل إلى أي تجمع استيطاني في منطقة الفرات الشمالي. مثل هذا التعيين أو التحديد يقترح عدة أفكار لمكان مركزي له تدرجات سياسية وسمة اقتصاد عائم لم يتم إثباتها بشكل جيد.

وكما تبين القرائن، من المستحيل أن ترفض وجود نخبة محلية وبعض الترتيب الطبقي الاجتماعي ضمن بعض الحدود في شمال وادي نهر الفرات.

ولكن يجب الإقرار أنه يوجد هناك في نفس الوقت ديناميكية معاكسة ومعارضة تبدو أنها كانت تحد بقوة من درجة نمو وانتشار سلطة وسيادة النخبة. وقد برز عدة أفراد أقوياء أو عوائل متسلطة كما يبدو ولها مستوى سلطة تمكن من إحكام قبضتها على كل القاعدة الاقتصادية وسيستامات الإدارة في المجتمع الذي تعيش فيه. وهذا الحال تعكسه ندرة المراكز والمباني العامة والتي منها تنطلق مثل هذه السلطات ذات السيادة.

لقد كانت هذه التركيبات الهندسية متوفرة في مواقع قليلة ويبدو أنها وجدت في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد. وبالمقارنة مع هذه التركيبات، كانت معظم الأدلة من وادي نهر الفرات تعكس مجتمعا له بنية مختلطة، وفيه تتعايش و تتداخل مصادر القوة والسلطة والتحكم بالاقتصاد السياسي.

ومع أن الدراسات الآثارية لمثل هذه المؤسسات ذات الترتيب الهرمي صعبة على التعريف بالمقارنة مع المؤشرات المادية التي تدل على التراتب الاجتماعي وحكم النخبة، فهي واضحة في بعض السياقات.

على سبيل المثال، وجدنا نوعا من جماعة إيديولوجية في مدافن مدهشة في تل البنات. في هذا الموضع، حملت بعض المدافن البرجية الشاهقة وما يرتبط بها من طقوس دفن أفكارا متماسكة تتضمن علامات عن إزالة الوضع الاجتماعي الفردي والثراء الشخصي (بورتير، ٢٠٠٢:١٦٦).

ولكن بالمقابل، هذه المثل الاشتراكية لا تصمد وحدها في تل البنات. فوجود القبور جيدة التأثيث والتجهيز في نفس الموقع وفي أماكن أخرى تشير بلا شك إلى وجود مدافن خاصة بالأثرياء، وبأعضاء النخبة في المجتمع. وتدل هذه البراهين، أن مجتمع الفرات الشمالي كان متنوعا. ويبدو من غير المناسب أن تصفه بأنه "اشتراكي" أو أن له بنية مجتمع من طبقات.

ولا بد من أن نعترف بوجود كلا النظامين، وأحيانا وجود توتر ومعارضة بين الفرقاء والجماعات، بينما في أوقات أخرى نلاحظ أن الجماعات تتعايش في الدولة بشكل متزامن ومستقل ولكن متعاون ومتعاضد (بورتير ٢٠٠٢:١٦٩).

وهكذا تبين كل الفروقات التي ذكرناها أن وادي الفرات السوري مكان متميز. فمن جهة، يمكن تعريفه بعدة صفات حضرية يمكن أن تلاحظها في مناطق أخرى من الشرق الأدنى. ومن جهة أخرى، لقد طور بنى اقتصادية وسياسية واجتماعية متفردة وتختلف بشكل كبير عن الحواضر القديمة في أمكنة متفرقة.... وبرأيي هناك عوامل ساهمت في بناء شخصية متفردة للمنطقة. وهي عوامل كانت تلعب دورها لتأمين مستوطنات طويلة الأجل ولها استمرارية ثقافية وتساعد على مواجهة الإجهادات البيئية والاجتماع / سياسية للوقوف في تلك الفترة من نهاية الالفية الثالثة.

ليزا كوبير Lisa Cooper: أستاذ مساعد في حضارة وأديان الشرق الأدنى. تعمل في جامعة كولومبيا البريطانية.

الترجمة من كتاب:

EARLY URBANISM ON THE SYRIAN EUPHRATES

منشورات   rouledge - London- 2006

 

ترجمة: صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم