قضايا

أفلاطون والشذوذ الجنسي بين الرجال (1)

إن محاولة تأصيل الشذوذ الجنسي أو المثلية الجنسية بين الرجال وهذا انطلاقا من المفكرين الكوكبيين والعظماء من أمثال سقراط وأفلاطون لهو من باب البحث عن الشرعية التي لا تعلو عليها أية شرعية أخرى . ترى من منا سيستمع لخطاب إنسان عادي ومغمور ويجعل منه دستورا له في حياته طبعا لا احد منا سيفعل هذا . ولكن من منا لن يقف وينصتْ جيدا عندما يخطب فيه سقراط أو أفلاطون أو ابن خلدون. إن كلام هؤلاء مثل الحجة المنزلة من السماء عند أتباع الديانات السماوية. ومن هنا نفهم جليا قيمة الرؤى المنبثقة عن هؤلاء العظماء . إن سحر هؤلاء العظماء والهالة التي تحيط بهم كفيلان بالتغطية على كل مظاهر النقص في طرح من يدعو لظاهرة الشذوذ الجنسي . تماما مثلما اختار تيودور هرتزل فلسطين لكي تكون وطنا قوميا لليهود . وذلك حينما أخبرنا بأن سحر كلمة فلسطين سيدفع اليهود إلى الهجرة لها والقبول بها كوطن ثاني بديل عن أوطانهم التي ولدوا فيها كفرنسا أو انجلترا مثلا . وهذا تماما ما يريده المبشرون بالشذوذ الجنسي فهم يريدون تقبلا وهجرة من المغايرين الجنسيين صوب معسكر الشذوذ الجنسي .

كما نرد على من يحتج بسقراط وأفلاطون في ما يخص الشذوذ الجنسي بما قاله القديس أوغسطين في كتابه الشهير "مدينة الله" وهذا حينما أخبرنا بأن الله قد جعل للإنسان سلطان على الحيوانات ولكنه لم يجعل له سلطان على بقية البشر. ثم أردف قائلا إن أية محاولة لفرض هذا السلطان هو طغيان لا يحتمل. وكل نفس قائمة بذاتها لا تستطيع أن تتنازل عن حريتها أو تتبرأ منها . ولئن كان الحال على هذا الشكل، فالرب لم يعط لفرد بشري الحق في التحكم في نفس فرد آخر . فكيف يتنازل الواحد منا على هذا الحق المقدس و يسمح لفرد آخر ومهما كان من أن يسلبه إياه سواء كان فيلسوفا أو عالم في أي مجال من مجالات العلوم الدقيقة . حتى ولو كان أفلاطون ذاته أو أي عالم آخر نجله كما نجل الآلهة ولكننا لن نسمح له بأن يجردنا من حريتنا في التفكير وفي الاختيار ويفرض علينا نموذجه .

وإن ما يثير استغرابنا هي الطريقة التي يتعامل بها دعاة الشذوذ الجنسي بين الرجال مع أفلاطون فهم حينما يناقشون أمر الشذوذ الجنسي . فإنهم يضعون آرائه فوق النقد ولا يسمحوا حتى بمناقشة الأمر ويستشهدون به كما يستدل أتباع الديانات السماوية بأحاديث الأنبياء . أما إذا ما تطرقنا إلى مواقفه الأخرى ومنها مثلا رأيه الخاص باللامساواة الاجتماعية وأنها قانون طبيعي وهو بهذا يبرر العبودية فإن الأمر هنا يصبح اللامعقول واللامنطق عينه . وإننا اليوم نقدس الفن ونعلي من شأنه في حين أن أفلاطون طرد الشعراء مثلا من جمهوريته واعتبر الفن قيم مبتذلة لأنه محاكاة صور مزيفة وحسية تقابل الموجودات في عالم المثل . ولهذا نقول لما هذا التعامل بانتقائية وازدواجية مع الفكر الأفلاطوني ولما لا تطردوا اليوم الشعراء والفنانين كما فعل هو في مؤلفاته .

كما يقابل أفلاطون في كتابه القوانين صراحة وكما يخبرنا بهذا الأمر ميشال فوكو بين العلاقة الطبيعية التي تجمع الرجل بالمرأة . وبين العلاقة الغير طبيعية والتي تجمع الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة . فهو لا يحتكم هنا إلى مبدأ أخلاقي أو ينطلق من عقيدة دينية وإنما تحكمه القاعدة الشهيرة من أن الفضيلة بين رذيلتين . فهو لا يعتبر اللواط سوى إفراط في الممارسة الجنسية والتي هي ليست حالة لا أخلاقية وإنما هي نتيجة لمرض جسدي يكون المني قد فاض على كل أنحاء الجسد ولا بد من تفريغ هذه الطاقة فيكون الإفراط . لأن أفلاطون كباقي اليونان القدماء كان يعتقد بأن المني مصدره النخاع الشوكي ومنه يفيض على باقي أنحاء الجسد، ولهذا فلا عيب في مواقعة الغلمان للتخلص من هذا الفائض . وهذا هو التبرير الأخلاقي والعلمي الذي يسوقه أفلاطون ومعه قدماء اليونان لتبرير الشذوذ الجنسي وعدم النظر إليه كفعل محرم . كما هو في النصوص التأسيسية للديانات السماوية الثلاثة , والتي ترجع الشذوذ الجنسي إلى مرض في النفس البشرية يجب عليها أن تتخلص منه . إلا أن أرسطو وعلى الرغم من أنه يحتكم إلى نفس قاعدة أستاذه أفلاطون وهذا عندما يتناول موضوع المتعة الشاذة إلا أنه يرى بأن هذا الإفراط هو محل للذم وليس للشكر . لا لشيء إلا لأن المفعول فيه هنا يكون قد تقمص الدور الذي حددته الطبيعة للمرأة . كما أنه يعيب على الرجل الذي لا يُخضع غريزته الجنسية لأوامر عقله التي يجب الانصياع لها . ولهذا فقد كان يجب على الغوغاء وعامة الناس ومترفيهم أن

يحتكموا لأوامر عقولهم لا لفوران شهوتهم؟ وكل هذه الأمور التي قررها أفلاطون وسقراط وغيرهما ممن رفضوا مواقعة الرجال، نقول لو أنها وجدت السلطة السياسية التي تبشر بها وتعمل على نشرها بين الناس وإحلالها كبديل لطقس التنسب الجنسي والانتقال نحو الرجولة لاختفى الشذوذ الجنسي في اليونان القديمة وبصورة نهائية .

وأفلاطون يُـظلم عندما لا نشير إلى أن حب الغلمان عنده يتجه نحو نفوسهم لا إلى أجسادهم . وما هذا إلا لأن الغلمان بجمالهم يذكرون الفرد بالرغبة في الخلود والتوق إلى الجمال في صفائه ويربطونه بما فوق السماء . وبالتالي فهناك حب قبيح للجسد وحب جميل للنفس . كما يجب علينا أيضا التفريق بين كتابات أفلاطون الشاب وأفلاطون الرجل الناضج والحكيم . حيث يعتبر في نصوصه المتأخرة حب الغلمان حُـبّ ضد الطبيعة . ولذا فهو يحيل للعلاقة بين الرجل والمرأة وهي العلاقة التي حددتها الطبيعة لغرض الإنجاب . ونحن هنا نقتبس من ميشال فوكو دوما . ومن قال بأن أفلاطون كان لا يمجد سوى المتعة الجنسية؟ فأفلاطون كان يدين الرجل الذي يترك إيروس يعتلي عرش نفسه ويتحكم في كل حركاتها , ويرى في هذا خيانة لالتزاماته كما يخبرنا فوكو دوما . ولئن كان هذا الرجل قد أغرم بمومس فكيف سيتعامل مع صديقته القديمة؟ وإذا أغرم بفتى فكيف سيتعامل مع أبيه؟ . كما وأنّ الجمال الحقيقي عند أفلاطون هو جمال الروح لا جمال الجسد وهو الذي يجب أن يُــفضل وأن الحبّ المثليّ بين الأستاذ والتلميذ هو الحب الروحي . ولهذا نراه يرفض الشعر لأنه يخون الحقيقة وعالم المُـثـل وهذا عندما يحول الأفكار إلى كلمات . ولذا علينا أن نتساءل هل مارس حقا أفلاطون الشذوذ الجنسي لأن فلسفته هذه تنفي أن يكون قد مارسه فعلا .

وحتى لو أن أفلاطون قد مارس اللواط وفق المفهوم اليوناني القديم له . فهل كان فيلسوفنا هذا أو غيره من عظماء اليونان أو من أبسطهم مكانة اجتماعية يستطيع أن يفلت من ممارسة الشذوذ الجنسي من دون أن يتجنب عقوبة المجتمع له . هذه العقوبة التي هي ليست حتما بالمادية الملموسة وإنما قد تكون اجتماعية قهرية بالدرجة الأولى . ذلك أن السلوك السوي في عـُـرف كل مجتمع هو ما نال استحسان ورضا المجتمع ككل وقس عليه الآتي . هل كان بإمكان الفرد في عهد محاكم التفتيش اللعينة أن يمارس الشذوذ الجنسي من دون أن يحرق بالنار أو أن يطرد من الكنيسة . ولنا في الإمبراطور هنري الرابع والذي وقف أمام مقر البابا غريغوريوس السابع لمدة ثلاثة أيام فوق الثلج عاري الرأس لأن الأخير فرض الحرمان الكنسي عليه وعلى كل من يتعامل معه من رعيته وهذا نظرا للإختلاف في وجهات النظر بينهما حول أمور تخص الحكم . ولنا أن نقلب الصورة الآن هل تتصور اليوم أن يقف واحد في البرلمان الهولندي ويقترح مشروعا لتجريم الشذوذ الجنسي؟ . حتما لا أحد سيخاطر بمستقبله السياسي لأجل هذا الهدف لأنه حتما سيقاضى ويُـتهم بمعاداة الشواذ وبرهاب المثلية . ومن هنا يمكن القول أنه كان من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل على أفلاطون الإفلات من طقس الشذوذ الجنسي والذي يمر عبره من مرحلة الطفولة صوب مرحلة الرجولة كما تعارفت عليه اليونان القديمة ومن دون أن يدفع الثمن الذي قد يكلفه التجريد من حق المواطنة الأثينية سواء كان فاعلا أو مفعولا فيه .

ثم إن الاحتجاج بممارسة أفلاطون أو سقراط للشذوذ الجنسي لهو أمر غير مقبول بالمرة . ذلك أننا يجب أن لا نفصل كل واحد منهم عن الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها . فسلطة المجتمع هي الأخرى تمثل قوة قاهرة أقوى من قوة الغريزة ذاتها على العنصر البشري ونادرا ما يفلت من سلطتها وسطوتها أحد منا . وحتى سارتر وماركس ما هما إلا نتاج للمجتمعات التي عاشوا بينها . وقس على هذا غيرهم . وبالتالي علينا أن نقرأ لواط أو شذوذ أفلاطون وأرسطو من هذه الزاوية وفقط . وإلا بماذا نفسر هجوم كل منهما على اللواط كما فعل أفلاطون ومن بعده أرسطو في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس إلا بأنه قد تبين لهما زيف هذه الممارسة الجنسية الشاذة .

كما تخبرنا الموسوعة النفسية الجنسية من أن الباحثين يفرقون بين العلاقات الجنسية المثلية الشاذة وبين العشق المثلي بين رجلين أو بين امرأتين . والذي يهمنا نحن هو النوع الأول وتضيف أي هذه الموسوعة قائلة بأن أفلاطون كان مع هذا النوع أي مع المحبة المتسامية بين ذكرين وهذا نابع من نظرته للحياة . وأفلاطون هنا لا يزال أسير المنظومة الجنسية اليونانية الذكورية والتي تقصى كل من المرأة والولدان والعبيد في عصره من زمرة المواطنين . وحتما لو أنه عاش في إطار ثقافي آخر وفي عصر آخر لكان على غير هذه الصورة ولكان قد دافع عن الجنس الطبيعي الغيري . لكون الواحد منا ومهما كان عقله جبارا فهو أولا وأخيرا يتحرك ضمن الإطار الثقافي لعصره ولمجتمعه . وما كان يشده إلى هذا الموقف هو موقف الحضارة اليونانية السلبي من المرأة وهو يتحرك ضمنه . وأفلاطون هنا يقف في الوسط فلا هو انغمس في الحياة الجنسية لأثينا ولا هو انفصل عنها نهائيا، وبالتالي علينا أن لا نحمل موقفه أكثر مما يجب أن يحتمل .

كما أننا نجد أفلاطون وفي كتاب القوانين يقابل وبوضوح بين العلاقة الطبيعية التي تجمع الرجل بالمرأة بهدف التناسل وبين العلاقة المضادة للطبيعة والتي تجمع بين زوج من جنس واحد . وأفلاطون كغيره من قدماء اليونان يرجع الضرب الأخير من العلاقات الجنسية إلى الإفراط وعدم الاعتدال في المتعة . وهنا نجد بأن قدماء اليونان يبتعدون عن فكرة الحلال والحرام المباح والممنوع التي تحتكم إليها الديانات السماوية لصالح فكرة الفضيلة بين رذيلتين أي الإفراط والتفريط في المتع أو الآلام . وهذا ما يفسر به أفلاطون حب الغلمان الذي يراه إفراط وعدم اعتدال في شبقية الرجل الزائدة عن حدها . والتي تدفعه إلى مضاجعة الغلمان لكونه يفتتن بكل ما هو جميل، هذا الجمال الذي يغويه . فلا يجد بدا من التمتع به سواء في شكل ممارسة جنسية مع امرأة أو مع غلام . وهذا التفسير اليوناني للشذوذ الجنسي يختلف تمام الاختلاف مع ما قرره القرآن في ما يخص إتيان أو اشتهاء الذكور وسمي هذا الأمر ما شئت فهو يراه ظلم واعتداء وإجرام وفعل السّــيئات لأنه يحتكم لقاعدة الحلال والحرام، المباح والممنوع .

نعود ونقول بأنه حتى ولو لم يقل أفلاطون بأنه ضد الشذوذ الجنسي فإنه أيضا لا يوجد نص واحد يخبرنا بممارسة أفلاطون للممارسات الجنسية الشاذة كما يخبرنا بهذا الأمر دارسوه . كما أن القاعدة التي يحتكم إليها وهي دوما قاعدة الاعتدال والفضيلة بين رذيلتين لتوصلنا حتما إلى أن أفلاطون ومعه أرسطو الذي يدين هو الآخر الإفراط ويراه يستحق الذم لم يكونا من أنصار الشذوذ الجنسي . أما سقراط فيخبرنا بأن الإفراط هو نتيجة للجهل وهذا انطلاقا من فلسفته الشهيرة والتي تقول بأن العلم فضيلة والجهل رذيلة . والإفراط حسبه يكون لاعتقاد البعض بأن كل فعل يأتونه هو مفيد لهم حتما وجاء حكمهم هذا نتيجة لجهلهم فقط . ولهذا فاليونان القديمة كانت ستدين الجنس الشاذ بين الرجال لأنه ليس اعتدالا وإنما إفراط من قبل بعض الرجال . تماما كما أن التهور مدان عند أفلاطون لأنه يرى فيه الإفراط في الشجاعة ومعه الجبن لأنه تفريط فيها أيضا . ولذا يمكننا القول وبكل اطمئنان بأن اليونان القديمة لو كـُـتِـبَ لها الاستمرار في الزمن بشرط السير على قاعدة أفلاطون السابقة الذكر لحرمت ومنعت من تلقاء نفسها الممارسات الجنسية المثلية والشاذة بين الرجال فيها . هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن عدم الاعتدال كما يراه قدماء اليونان أنفسهم ليس من الطبيعة في شيء لكونها تطلب الاعتدال . وما دام الجنس الشاذ أو المثلي ليس من الاعتدال في شيء فهو ليس بالممارسة الطبيعية . وكل ما عارض الطبيعة فهو مدان سواء عند أصحاب الكتب السماوية أو الوضعية أو حتى عند الشواذ أنفسهم . وأرسطو نفسه يرى بأن الطبيعة قد حددت الأدوار الجنسية لكل من الرجل والمرأة، فالأول يكون فاعلا والثانية منفعلة وهذا من منطلقه والذي يخبرنا بأن المرأة ما هي إلا ذكر مبتور كما أنها لم تخلق على هيئة الآلهة . ولذلك فهي أدني منه من حيث الرجاحة العقلية ومن حيث الجوهر . كل هذا يجعلها في مرتبة أدنى من الرجل ولذلك لا يجب عليه أن يتقمص دورها الجنسي وإلا فإنه سيفقد مكانته في المجتمع ويتقهقر إلى مرتبتها .

أما أفلاطون وفي كتابه القوانين فهو يرى بأن الطبيعة قد قررت بأن ينجذب الرجل للمرأة . والغاية طبعا معروفة ألا وهي ضمان استمرار التناسل وكتحصيل حاصل فالطبيعة لم تقر انجذاب الرجال لبعضهم البعض . وهذا الموقف هو عين ما يقرره القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس وهذا حينما يخبرنا بأنه قد زُين للرجال للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة .

كما أن قدماء اليونان وبإدانتهم للشذوذ الجنسي خارج طقوس التنسيب كان لهم هدف فهم كانوا يتلذذون بجمال الفتيان والغلمان وكذلك بقدّ وقوام الرجال المتناسق . ولكن استمرار الغلمان في تخنثهم وشذوذهم كان سيحول دون وصول الغلمان إلى رجال من هذا النوع , ولذا فممارسة الرجل لدور المرأة أي الشذوذ السلبي هو أمر مدان ويلحق بصاحبه العار والفضيحة . وعليه يجب علينا أن ننظر إلى اللواط في اليونان القديمة ومن جميع الجوانب وليس فقط من الزاوية التي تشبع رغباتنا نحن . فأفلاطون يخبرنا بأن كل ما يوجد في الدولة يجب أن يصب في صالحها فالأفراد لا بد أن يصبحوا حكاما أو جنودا أو حرفيين ومزارعين . ولكن هل الشذوذ الجنسي يستطيع أن يحقق لنا هذه الغاية فالأمراض التي يتسبب فيها كفيلة بخراب الدولة . وهي لن تعطينا جنودا أقوياء ليدافعوا عن هذه الدولة أبدا وهل المصاب بالسيدا أو بغيرها من الأمراض الجنسية الأخرى يستطيع أن يكون جنديا باسلا . ومن يضمن لنا من أنه لن يبيع الدولة وما عليها لأول عشيق له من معسكر الأعداء؟ وهل من وهب جسده لرجل مثله ليستبيحه هل هو قادر على أن يكون حاكما حكيما يسوس غيره وبحكمة؟ يتساءل آخرون وكيف يكون له هذا وهو قد سلم زمام نفسه لغيره؟ وهل رجل يمتهن الدعارة المثلية الشاذة يلتفت للأعمال الشاقة التي بها عماد الدولة ويُـرهن بقاءها بها؟ .

إن أفلاطون لو كان بيننا اليوم ووقف على هذه الحقائق المرة للعن الممارسة الجنسية الشاذة لأنه وبعقله الراجح كان سيوازن بين هذا وذاك . وحتما كان سينحاز لغير صالح الشذوذ الجنسي لما فيه خير المدينة وضمان بقائها . وهو بالفعل ما كان من موقف يحسب له عندما رفض هذا الشذوذ الجنسي في نهاية حياته . ولهذا نقول لدعاة هذه الظاهرة اليوم كفوا أيديكم عن أفلاطون وكفى جناية على الرجل فهو قد عاش عصره بما له وبما عليه . ونحن اليوم مطالبون بأن نعيش عصرنا كما هو وكفى . كما لا ننسى أن أفلاطون يوافق على أن تتخلص الدولة ممن هم عبء عليها من غير الأصحاء والأسوياء فهل سنجاريه في هذا أيضا بأن نتخلص من أبنائنا المعاقين ومن كل مصاب بالأمراض الجنسية من الرجال نتيجة لشّـذوذ الجنسي؟ الإجابة نتركها لدعاة هذه الممارسة الجنسية .

كما وأن المتتبع لحياة أفلاطون يجد أن هناك أفلاطون الإنسان وأفلاطون الفيلسوف . فأما أفلاطون الإنسان فلا يمكن فصله عن مجتمعه وقيمه وأما أفلاطون الفيلسوف فهو شيء مغايرا تماما لأفلاطون المواطن الأثيني . كما أنه يجب الفصل التام بين شخصيتي أفلاطون . فأفلاطون المواطن هو الشخصية المسايرة لمجتمعه وخصوصا في مرحلة الطفولة والشباب . وأما أفلاطون الفيلسوف فهو أفلاطون الثائر على قيم مجتمعه . صحيح أنه لم يستطع أن ينفصل وبصورة كلية عن ذلك المجتمع ولكنه ثار عليه وحتى الأنبياء لم يحدثوا قطيعة جذرية مع مجتمعاتهم فكيف نطلب هذا من بشر عادي . وما يهما هنا هو تطور فكر أفلاطون حتى أننا لا نعثر على أي نص يخبرنا وبصراحة على أن أفلاطون قد كان وفيا لطقوس التنسيب الجنسي التي كانت ممارسة في مجتمعه . ولهذا لا يجب أن نأخذ أفلاطون كظاهرة مبتورة عن صيرورة تطور الفكر البشري ككل لأن اليونان ما هي إلا حلقة من حلقات المسيرة الإنسانية فهو استدلال إقصائي عنصري تجاوزه الفكر البشري . كما علينا أن نفرق بين أفلاطون الطفل وأفلاطون الشاب ثم الكهل فالشيخ الحكيم . ولا يمكن التوقف أبدا عند إحدى هذه المراحل من حياته أين مارس فيها اللواط كموضوع لمعلمه . وهو هنا لم يكن بمقدوره مخالفة أمر أوليائه أو أعراف مجتمعه وعليه فلا يجب أن نغفل عن هذا التطور الذي عرفته أفكاره .

ومن جهة أخرى هل أفلاطون بشر فوق البشر حتى ينسرب مما تعارف عليه مجتمعه ومن قوانين جسده أيضا ويحيا حياة فاضلة وأن يعانق عالم المثل . وأين يضع شهوة جسده التي تحول بينه وبين ذلك، خاصة وأننا نعلم بأنه ليس من السهل على الإنسان أن يتحرر من شهواته وبسهولة فيبقى يعانق خيالات كهفه التي اعتنقها في طفولته . وهنا نتساءل ألا يمكن القول بأن أفلاطون نفسه بقي أسير اللذة الجسدية المثلية الشاذة والتي حالت بينه وبين أن يدرك حقيقتها في مرحلة ما من حياته وإن أدركها في المراحل اللاحقة منها؟ .

إن أفلاطون قد أبطل الرأي القائل برد الخير إلي اللذة وخصوصا الحسية منها كما هو عند السفسطائيون وهذا نظرا لاستحالة التمييز بين الخير وبين الشر، ذلك أن الفعل الواحد قد يسبب لذة لفرد وألم لآخر . وهنا نقول أليس الشذوذ الجنسي يفعل هذا من خلال نتائجه المدمرة على الفاعل والمفعول فيه على حد سواء . كما يرى أفلاطون أن من اتبع أهواءه فقد غرق في عالم الرذيلة وهي عالم الشر . ولهذا يجب على الإنسان أن يعمل على تحرير نفسه وذلك باستئصال شهواته من قيود الجسد، وذلك عبر السمو في مجال المعرفة العقلية . ومن حقنا هنا أن نتساءل لماذا فقط نركز على أفلاطون الشاذ دون أفلاطون الذي كان يمجد الحكمة . والتي يراها أعلى أقسام النفس مرتبة وأرقاها منزلة . في حين أنه يدين الشهوة والتي هي أدنى مراتب النفس وأحطها . وهنا نقول ما الغاية من

النشاط الجنسي الشاذ عند أفلاطون؟ أليست الممارسة الجنسية الشاذة هي فقط وسيلة لاكتساب الحكمة وليست بغاية في حد ذاتها وإن أخطأ أفلاطون في اعتقاده هذا مثل قدماء اليونان ككل .

ولماذا الإصرار فقط على الترويج بأن أفلاطون قد كان شاذا جنسيا وإغفال موقفه المعادي لهذه الظاهرة في كتابه القوانين مثلا . ولماذا لا نأخذ ممارسته للشذوذ الجنسي في المراحل الأولى من حياته في سياقه التاريخي؟ . إن أفلاطون الطفل ثم المراهق قد كان خاضعا لأحكام مجتمعه ولم يكن أبدا يستطيع أن يفلت من أسرها وهو في أول مراحل حياته، ولذلك نراه هو ذاته éraste لأن هذه هي تقاليد مدينته أثينا وكلنا يعلم أن أسرته كانت من الأسر العريقة والنبيلة. وبالتالي فقد كان فخرا لها أن تعهد بابنها إلى رجل نبيل يكون هو مرشده في مرحلة الطقس التنسيبي أي طقس العبور من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج والرجولة . وحتى ولو أراد أفلاطون في بداية حياته أن لا يمارس هذا اللون من الجنس فإنه لن يتمكن من ذلك لما لتقاليد بلده من سلطة وسطوة عليه . ولكنه لما كبر وأصبح أفلاطون الفيلسوف ثار على هذه الممارسة الجنسية الشاذة . ولهذا فأفلاطون قد تراجع لاحقا عن موقفه من الشذوذ الجنسي حيث أصبح ينظر للجنس نظرة بيولوجية، ذلك أنه من العبث إهدار الحيوان المنوي في اللاشيء . وهنا يقترب أفلاطون من النظرة التوراتية للشذوذ الجنسي ويصبح أساس النظر إلى الجنس بيولوجي وليس اجتماعي أسطوري . وهذا ما سوف يتبناه تلميذه أرسطو في ما بعد . ولكن موقف أفلاطون هذا لم يكن له أي تأثير على المجتمع اليوناني في وقته لتجدر ظاهرة الشذوذ بين أفراده خاصة وأن شرعيته موجودة وهي المتمثلة في الآلهة الشواذ .

وإن أفلاطون ليدين وبصورة صريحة وبعبارات لا لبس فيها الشذوذ الجنسي وهذا في كتابه القوانين كما مر أعلاه وهذا في عدة مواضع منه، فهو يخبرنا بأنه: " لا ينبغي أن ننسى أن هذه اللذة – الجنسية – إنما تعتبر منحة من الطبيعة للإنسان ذكرا كان أو أنثي، عندما يقترن أحدهما من أجل النسل، وعلى ذلك فالجريمة التي يقترفها الذكر مع الذكر، أو الأنثى مع الأنثى، هي انتهاك صارخ للطبيعة، وإذعان أساسي لضراوة الشهوة " . ونحن نظن أنه ومن بعد هذا لا يحق لأي كان بأن يبرر شذوذه بالقول بأن أفلاطون كان شاذا . كما أن أفلاطون يمتدح صراحة الحياة الجنسية لإسبرطة وهذا ما نجده في كتابه القوانين دوما وهذا حينما يقول: "وأنا أرى أن موضوع اللذة مخطط في إسبرطة على نحو فيها أفضل من أي مكان آخر" .ولهذا يتفق الدارسون لأفلاطون بأنه وفي كتاباته الأخيرة قد ندد بالشذوذ الجنسي وبالحب بين الرجال وتراجع عن مقولة العلاقة السامية بين الشذوذ الجنسي والتفكير الفلسفي . بل أصبح يرى فيه فعل ضد الطبيعة . وهنا نقول لصالح من تـُغيب هذه الحقيقة؟ ولما التركيز فقط على أن أفلاطون كان شاذا أليس هذا أتى من الخوف من أن تنهار ظاهرة الشذوذ الجنسي ومن أساسها، وهذا عندما يكتشف الناس التدليس الكبير الذي مورس عليهم . إن موقف أفلاطون هذا من شأنه أن يعيد بناء المنظومة الأخلاقية في الغرب ككل .

ولكي نقف أكثر على حقيقة موقف أفلاطون من الحب والجنس نقتطف هذه الفقرة من كتاب الحب والكراهية والتي تخبرنا بأن: " حقيقة مذهبه أي أفلاطون في الحب الترفع عن شوائب المادة والسمو إلى نورانية الروح فالحب شوق يدفع إلى الحصول على المعرفة والخير والجمال ويبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ثم يرتقى إلى حب النفوس ثم إلى حب ثمرة النفس وبخاصة القوانين الإنسانية وينتهي في آخر الأمر إلى حب المعرفة لذاتها . " ولنتأمل معا إننا إذا لم نصل إلى النوع الأخير من الحب والمتمثل في حب المعرفة لذاتها فإننا هنا نكون قد خُـنّا أفلاطون . وبالتالي فنحن لسنا جديرين بأن نكون ورثته ولا جديرين بالتحدث باسمه لأننا هنا نكون نكذب على أفلاطون لكوننا قد توقفنا عند درجة بدائية من الحب الأفلاطوني كحب الأشياء الجميلة، والتي ما هي في حقيقة أمرها سوى مرحلة توصلنا إلى مرحلة متقدمة وتالية لها . وإننا إن فعلنا هذا نكون مثل الفرد البشري المعاق ذهنيا والذي يأبي نموه تجاوز مرحله الطفولة أو المراهقة . وهنا العيب فيه هو ويجب عليه تلافيه . ولهذا علينا أن نكون صريحين مع أنفسنا وأن لا نكذب عليها وعلى الآخرين لتبرير ما لا يبرر . خاصة وأننا نعلم بأن المعرفة هي الحق والخير والجمال الحقيقي عند أفلاطون وليس الجمال الحسي الزائل وملذات الأجساد الحسية الفانية، ومنها لذة الشذوذ الجنسي بين الرجال . وعليه فإننا نستنتج بأن هناك إدانة صريحة لأفلاطون لكل ما حسي ولكل ما يرتبط بالبدن من شهوة ولذة حتى ولو كانت طبيعية أي الناتجة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، فما بالك بالناتجة عن التقاء رجل برجل . ولأجل هذا علينا إعادة النظر في قراءتنا لأفلاطون من جديد حتى لا نبقى أسرى لمعتقداتنا الخاطئة والتي اكتسبناها أو تسربت لنا من هنا وهناك .

كما علينا أن ننتبه إلى التطور الفكري الذي حدث في عقلية أفلاطون سواء كان هذا التطور في الجانب السياسي أو في الجانب الاجتماعي، فمثلا كلنا يعلم أنه بدأ بمنح الحكم إلى الفيلسوف ثم سحب منه هذا الحق لصالح نظام المجلس السياسي . أما تأييده لظاهرة الشذوذ الجنسي بداية حياته الفكرية فما هو إلا لكونه كان يرى في حب الغلمان طريقا لأجل الوصول إلى عالم المثل وتخلى عن هذا الموقف في آخر حياته . ولذا علينا أن لا نستغبي الناس فنظهر لهم ما يخدم أغراضنا من آراء أفلاطون ونخفي ما لا يتماشى معها . وهي جريمة لا تغتفر، إننا هنا مثل الذي يتعامل مع الإنجيل وبصورة انتقالية . فهناك من يروج إلى مقولة المسيح اذهبوا وتلمذوا الأمم وهناك من يركز على قوله الآخر إنما بعثت لخراف بني إسرائيل الضالة . ولا بد لنا هنا ولأجل الوصول إلى الحقيقة أن نعرف متى ولمن ولماذا قال هذا القول أو ذاك . وهذا ما يجب أن ننتهجه مع أفلاطون أن نعطي للناس الحقيقة كما هي ثم نتركهم يختارون وبكل حرية لأنهم يغفرون لنا كل شيء إلا أن نكذب عليهم أو أن نضللهم عمدا . وهذا يعني أننا سرقنا منهم سنوات من أعمارهم وهذا جرم يصعب غفرانه . كما أنه وعندما نقدم للآخرين أفلاطون فعلينا أن ننبه إلى صيرورة تطور فكر أفلاطون وأن نعرفهم باللاحق من أفكاره وبالسابق عنها وبمن ينسخ منها من . وهذا حتى لا نغالط أنفسنا وغيرنا فلا أحد ينكر علاقاته مع معلمه أو مع تلاميذه شأنه شأن بقية رجالات أثينا في عصره ولكن هل جمد أفلاطون عند رؤية معينة أو تطور فكره في ما يخص المرأة والجنس والعلاقات المثلية الشاذة، ولنعرف هذا علينا أن نتتبع كيف تغيرت وتبدلت وتطورت مواقفه من كل هذه القضايا .

كما علينا أن لا نـُـزَوّرَ الحقائق أو نخفي القليل أو الكثير منها وقبل أن نخرج للناس وندعي بأن أفلاطون كان مع الشذوذ الجنسي . علينا أن نتتبع حياة الرجل من بدايتها وحتى نهايتها وكيف تطورت وعلى ما تنازل من أفكاره وعلى ما أبقي منها . فكما أنه في الأخير قد أقر بأن ما قرره في الجمهورية الفاضلة لا يمكن أن يطبق في واقع البشر ولكنه ممكن التطبيق فقط في عالم المثل . فإنه كذلك في ما يبدو من محاورة الجمهورية فهو قد بدأ يتراجع عن الشذوذ الجنسي عندما أشار إلى أنه يجب على الرجل أن يقبل الفتى كما لو كان ابنه .

نعود ونقول بأنه من الثابت بأن أفلاطون قد تراجع في الأخير وذم العلاقات الجنسية بين الرجال في آخر أيامه ورأى فيها الخطر الأكبر الذي يهدد المدن والأفراد . ولهذا فقد قرر إرجاع العمل بالقانون الذي كان سائدا قبل عهد والد أوديب لايوس والذي كان أي ذلك القانون يخطأ إشباع الشهوة الجنسية لرجل في رجل آخر . كما أنه يقر بأن من يمارس الشذوذ الجنسي من الرجال هو مندفع تحت ضغط الشهوة واللذة . ويسلك سلوك الحيوان ومع الوقت لن يخش من ممارسة سلوك منافي للطبيعة، ولكننا نجد في الكتب ما يتحدث فقط عن شذوذ أفلاطون سواء كان هذا من قبل أعدائه وأعداء الفلسفة أو من قبل المتحمسين والمناصرين له ولها . وإن استشهاد الشواذ بشذوذ أفلاطون لواضح ومنطقي ولكن ما السبب الذي يجعل أعداء الفلسفة يشنعون على أفلاطون وبهذا الشكل . إن السبب هنا لبسيط للغاية ذلك أنه نابع من كرههم للفلسفة خاصة وأنهم ومع كل أسف يرونها علم لا ينفع . ولذلك فهم يشنون ضدها حملة لتشويه سمعتها وذلك بدء بالحط من روادها الأوائل ولأن الفلسفة أساس السفه والانحلال مادة الحيرة والظلال ومن تفلسف عميت عينيه عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة ومن تلبس بها تعليما وتعلما استحوذ عليه الشيطان، وفي الأخير ينصح صاحب هذا الرأي السلطان باستعمال السيف لاستئصال شأفة كل من يثبت عليه جرم تعاطي الفلسفة ويا لها من نصيحة حكيمة كنا لا نفضل أن تخرج من فم عالم نحترمه والمقصود هنا هو أبو حامد الغزالي .

ويفسر البعض هذا الموقف المعادي للشذوذ الجنسي من قبل أفلاطون إلى أنه ضرب من عقدة الذنب التراجعية من بعد أن مارسه ولمدة طويلة . بينما يرى جورج سارتون أن أفلاطون ليس بالضرورة قد مارس الشذوذ الجنسي ممارسة فعلية ولكنه ومن جانب آخر يقول أنه قد كان فيه شذوذا جنسيا واستنتج هذا من كونه لم يتزوج طوال حياته وادخر مشاعره الرقيقة لبنى جنسه . ولكن هذا لا يقوم دليلا على شذوذه الجنسي فليس من المنطق في شيء أن كل من لم يتزوج هو بالضرورة شاذ من الناحية الجنسية وهذا رد كافي على من يضعون بين أيدينا قائمة للمشاهير وللعباقرة والتأكيد على شذوذهم الجنسي ومن هذه الزاوية، كما لو كانت حقيقة لا تقبل النقاش . ولذلك يجب دراسة كل حالة على انفراد وهذا لتقصي الحقيقة كما هو الأمر مع أفلاطون حتى لا نصل إلى أحكام خادعة ومضللة . وربما تجعلنا أضحوكة في نظر الباحثين الصارمين والعارفين، وممن لهم بضاعة علمية وافرة وحس نقدي سليم .

ولقد كان إيمان أفلاطون بعالم المثل المجرد هو من دفع به في الأخير إلى الإدانة الصريحة لظاهرة الشذوذ الجنسي . وذلك لكون المادة وكما يعتبرها هو ما هي إلا تشويه للحقيقة من جهة ومصدر لشّهوات من جهة أخرى وهذا ما يخبرنا به كتاب أفلاطون والمرأة لإمام عبد التفاح إمام . ولهذا وكما يقال فالعبرة بخواتم الأشياء لا ببداياتها، ولهذا يجب أن نتعلم من تجربة أفلاطون ونكون مع ما توصل له هو في نهاية مشواره الفلسفي . ولينتهي في الأخير إلى أن الجنس السوي والطبيعي بين رجل وامرأة هو ما يجب أن يكون . وهذا لضمان استمرار النوع البشري ويا ليت دعاة الشذوذ الجنسي يبدؤون من حيث انتهي أفلاطون ويكفون عن حماقاتهم تلك . ولنتأمل معا ألم تتحقق نبوءة أفلاطون بيومنا هذا أما يهدد اليوم الشذوذ الجنسي أوروبا بمعضلة عدم تجدد الأجيال، أمَا مصير شعوبها الانقراض ولو على المدى الطويل . أما يجدر بنا الاتعاظ أو أننا نريد برهان على الشمس في منتصف النهار كما يقال؟ .

وإننا نرى بأنه وعندما يقال للبعض منا بأن موسى أو عيسى أو محمد عليهم السلام قد قالوا كذا أو كذا ومثل ذلك على أفلاطون وابن ميمون أو توما الإكويني أو ابن رشد فهم هنا سيناقشونك ولن يسلموا لك بالأمر ولن تسقطهم بالضربة القاضية وهذا ما نلتقي به في مختلف المناظرات العلمية أو الدينية مسموعة كانت أو مقروءة أو مرئية . وما أدراهم من أنك لا تتقول على من سبق ذكرهم أو من أنك لا توظف من أقوالهم إلا ما يخدم مصالحك كما يفعل البعض وهذا عندما يقول: " ويل للمصلين "، فما بالك إن قلت لهم لقد قال أفلاطون . فهم هنا لن يناقشوك فقط بل سيُشَرّحون ما تقوله فوق طاولة النقد لأنه لا أحد يضمن لهم من أنك لا تخفي عليهم جزء من الحقيقة أو الحقيقة كلها وهذا ما نجده أيضا في مختلف الدراسات الفكرية التي ينسخ اللاحق منها الســابق عنها . أو أنك لا تقوم بلي أعناق النصوص لتتلاءم مع ما تريد أنت تقريره والوصول إليه . هذا ليس سوء نية منا تجاه الآخرين ولكن في العلم لا عواطف ولا تسليم إلا للحقائق الثابتة . وإلا ما نفع المنهج الشكي الديكارتي أليس هو من أوصلنا إلى هذه الثورة العلمية ولذلك الكم الهائل من هذا التراكم المعرفي .

إن أفلاطون وكما يقول شراحه يعتبر بأن الجسد وكما جاء في أسطورة الكهف الشهيرة ما هو إلا الأغلال التي تكبل الإنسان وتمنعه بالقوة عبر الشهوات المركبة فيه من معانقة عالم المثل . وهذه الأغلال التي تأسر الإنسان وتتركه أسير العالم المحسوس، تمنعه أيضا من الوصول إلى ذلك العالم، عالم الحقيقة، ومن هذه الزاوية فقط يمكن لنا قراءة عداء أفلاطون للجسد وللمتعة الحسية . ومن نظرته السابقة جاء موقفه السلبي من المرأة لا لشيء إلا لأن الجسد عنده يمنع من الوصول إلى أرقى الفضائل . ولهذا نقول بأنه ومع كل احترامنا لأفلاطون العظيم إلا أننا لا نوافقه الرأي في أن الجسد يحول بين المرء وبين الفضائل والتاريخ يكذب هذا، ولنا في ابن سينا خير مثال هنا وكذلك في الغزالي صاحب الإحياء وفي ابن رشد أيضا وكلها نماذج تكذب اعتقاده ذاك . كما أن وجهة نظر أفلاطون السابقة تتصادم مع ما قررته النصوص التأسيسية للإسلام مثلا والتي وفقت بين الناحية الجنسية للإنسان وبين غايته من الوجود . وكيف ومتى كان الجنس يحول بين المرء والفضيلة ومحمد الرسول ص نبي المسلمين كان هو الفضيلة ذاتها تمشي بين الناس، ومع ذلك فهو يخبر أتباعه بأن النساء قد حببن إليه وأنه يتزوجهن أيضا . ونظرة أفلاطون هذه متطرفة ولا تختلف عن نظرة الكنيسة من الجنس . ولهذا لم يكتب لها النجاح ولا أن تكون منهاج حياة للبشرية . ومنه نقول لئن كان هذا ما يبرر حب أفلاطون للغلمان كإجابة منه مباشرة لنداء الطبيعة المركب فيه . على الرغم من كونه قد كان مكبلا بمنظومة قيم بلاده الجنسية وبالنظرة السلبية للمرأة . ولهذا فموقفه هذا - أي أفلاطون - لا يعني أبدا أن البشرية ملزمة بما ألزم هو به ذاته , لأنه لا دليل يخبرنا بأن توجه أفلاطون هذا كان صائبا . ونفس هذا الحكم يصدق على أستاذه سقراط والذي كان يعتبر أن الموت هي الدواء الشافي من الحياة التي كان يراها مرضا وداء . والموت هي شفاء من داء هذا الجسد، ولكن الحياة ما كانت أبدا بالمرض كما هي عند سقراط هنا . وإنما هي نعمة منحت للإنسان ولا يوجد دليلا واحد على صحة كلامه هذا . وانطلاقا من نظرتهم السابقة أي سقراط وأفلاطون فقد كان يجب عليهم الابتعاد على كل ما يوحي بأنه شهوة ولكن هذا الأمر سيجعل من حياة الإنسان حياة كئيبة مملة حزينة تدفعه إلى التصادم مع ذاته والتطرف الذي يولد الانفجار والذي يكون بالرهبنة المطلقة أو بالانحلال المطلق . والتاريخ أثبت فشل هذه الرؤية وتجاوزها اليوم لأنها هي الطبعة الوثنية للنظرة المسيحية للجنس، ولأنها لا تحقق أبدا الأمن النفسي والاجتماعي والجسدي والعقلي للإنسان .

وينطلق أفلاطون من فكرة أن الإنسان في اعتقاده يهدف في حياته إلى أن يكون شبيها بالآلهة تلك الآلهة التي تمارس الشذوذ الجنسي وعلى رأسها زيوس . ولهذا فحتى لو أن أفلاطون قد مارس الشذوذ الجنسي، فما كنا لنحمله أكثر مما لا يطيق فلا هو ربا حتى ينفلت كما قلنا سابقا من تقاليد أثينا ولا هو رسولا يوحي له حتى يتبع ما يؤمر به و يوحى به إليه . ولكنه بشر كان يعيش في مجتمع تعارف على تلك الآلهة واتبعها . ونحن اليوم نعلم أنه لا وجود لا لزيوس ولا لغيره من تلك الآلهة الأسطورية والخرافية . وعليه فهل نبقي نبرر شذوذنا بشذوذ أفلاطون من بعد أن عرفنا إفلاس المبررات والأيديولوجيا التي يستند عليها هو وقومه في ممارسة شذوذهم الجنسي ذاك؟ .

 

الجزائر / الطارف

في المثقف اليوم