قضايا

تونس قبل وبعد ظهور الاسلام السياسي

alarabi benhamadiفي فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان السكان، بقريتي ومسقط راسي، متدينين بقدر ما هم متسامحون. كلهم يصومون شهر رمضان، فيما تكتفي أقلية، جلها من الشيوخ، القيام بالصلاة. وعلى العموم فهناك احترام لافت للحياة الخاصة، في بلدة مرمية في أحضان النخيل بقلب الصحراء التونسية، جل سكانها، في ذلك الوقت، من ألامّيين.

والواقع أن حياة السكان بكامل القطر التونسي، في الفترة المذكورة أو قبلها، سواء أكانوا في المدن ام في البوادي، سواء كانوا اميين ام متعلمين، كانت تسير على هذا المنوال، من حيث روح التسامح وعدم التدخل في الحياة الخاصة. ما يعكس، في اعتقادي، الصورة الأقرب والأصدق لروح الحضارة العربية الإسلامية، في مسيرتها الطويلة التي استوعب خلالها شعوبا وقبائل ومللا.

ولعل وقوف حركات التحرر العربية، موحدة، في وجه المستعمر الغربي، في شكل جبهات صماء، جمعت حولها كل أفراد الشعب بمختلف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم الجهوية والقبلية والعقائدية، لدليل ملموس على ان الاسلام الفطري هو وريث الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات اللاحقة والسابقة، التي توحد أكثر مما تفرق.

والجميع يذكر انه بعد خروج المستعمر والشروع في بناء الدول الوطنية، لم يكن الإسلام حجر عثرة أمام التحولات التي عاشتها المجتمعات العربية والاسلامية. فعلى سبيل الذكر، فلقد تمكنت الفتاة المسلمة، الخروج من العزلة التي فرضتها عليها عصور التخلف والانحطاط، والالتحاق بمقاعد الدراسة، ما مكنها، تدريجيا، من منافسة الرجل، دون ان يكون لتفاصيل اللباس وغيره أهمية تذكر.

لكن بحلول السبعينات من القرن الماضي، بدأت الأوضاع تتغير، بصفة تدريجية،وذلك بدخول الاسلام السياسي على الخط.

كيف تم ذلك وما الذي تغير؟

قبل الخوض في هذا السؤال، اشير الى اننا سوف نكتفي بالنظر الى ظاهرة الاسلام السياسي من الخارج. اي سأكتفي بتسجيل ما شاهدته ولاحظته، من خلال التلاميذ، كأستاذ بالتعليم الثانوي، وكناشط بالمجتمع المدني، من خلال النوادي والجمعيات... وذلك، في حدود منطقتي المذكورة. و سوف لا نخوض في الاسباب المعروفة التي ساهمت في الصعود المدوي للإسلام السياسي والتي اهمها : انكسار الناصرية في بداية السبعينات وانتصار الثورة الإيرانية في نهايتها، الانغلاق السياسي للبورقيبية الرافضة للتعددية، والتي كرست الجهوية أكثر مما كرست روح المواطنة.

دخل، الإسلام السياسي، في البداية، كما فعلت التيارات اليسارية وغيرها، من خلال اكبر واهم البوابات: المعاهد الثانوية، منبع الشباب، مستقبل البلاد. وكانت المعاهد والمدارس الثانوية تضم، في الغالب، في تلك الفترة، مبيتات للفتيان والفتيات، يعدون بالمئات ان لم يكن بالآلاف، ما ساعد على انتشار ظاهرة الإسلام السياسي. فلقد ذكر لي قيم بأحد مبيتات السبعينات من القرن الماضي، انه في افتتاح السنة الدراسية، يكون عدد المصلين بقاعة المراجعة، العائدة له بالنظر، لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، لكن لا يمر شهر حتى يتضاعف العدد، ليشمل جل تلاميذ القاعة. وبذلك يضيق بهم مسجد المعهد المخصص لهم حديثا، فيضطرون للصلاة خارجه، يتقدمهم في الصفوف الأمامية أساتذتهم وما يترتب عن ذلك من تأثير أدبي ومعنوي. وقبل الصلاة او بعدها، تنظم حلقات نقاش، قصد مزيد التمكن. ويكون هذا مقدمة لتداول الأدبيات الاخوانية التقليدية المعروفة فيما بعد: : السيد قطب واخوه محمد، حسن البنا، فتحي يكن، المودودي وغيرهم.

وما يحسب للحركة الاسلامية، بالخصوص، هو جدية وفاعلية انصارها، الذين استطاعوا الاقتراب من جل التلاميذ، قصد تاطيرهم والإحاطة بهم ومساعدتهم دراسيا وماديا، كلما أمكن ذلك. لكن هناك من يواصل المشوار وينتمي للحركة وهناك من يقف عند حد اداء فريضة الصلاة وهناك من يعود لحياته العادية، ومن يتمرد حد مناصبة الحركة العداء ليلتحق بخصومهما من اليساريين وغيرهم.

ولم تمر السبعينات من القرن الماضي حتى اكتسحت الحركة الاسلامية المعاهد والمساجد، لتتفوق عدديا وتنظيميا على غيرها من الحركات القومية واليسارية. وهكذا اشتد عودها فاصبحت تقيم اعراسا خاصة تحت عنوان (اسلامية)، يغيب عنها الرقص والصخب ويكون فيها الفرح بمقدار. ثم التفت الاسلاميون الى النوادي المدرسية والهيئات الثقافية والجمعيات وغيرها، فاكتسحوا بعضها وتواجدوا في البعض الاخر، كما كونوا نوادي جديدة. اما الزي المسمى (اسلامي) فلقد انتشر في المدارس وفي المجتمع بصفة لافتة. واستطاعوا التسرب حتى داخل الاحزاب بما فيها الحزب الحاكم، ما بفسر التقارب الحاصل اليوم بين قيادة النهضة مع الجناح الدستوري والتجمعي بنداء تونس. وبعد تمكنهم وانتشارهم، عمد انصار التيار الاسلامي تحدي السلطة القائمة، آنذاك، وغالبية الشعب، بالاحتفال بعيد الفطر قبل الاعلان الرسمي عن مقدمه.

وقد لقي نشاط الجماعة في البداية، ترحيبا ضمنيا من طرف الحزب الاشتراكي الدستوري(الحزب الواحد آنذاك، الى حدود السبعينات) الذي وجد في الحركة الاسلامية سندا في مواجهة اليسار المهيمن وقتئذ. ولعل تمتع الاسلاميين بنشرية حائطية دورية، داخل بعض المعاهد الثانوية، لدليل على تسامح سلطة الحزب الواحد مع انشطتهم في ذلك الوقت.

وحسب ما حصل لي من انطباع، فان تحركات الاسلاميين لم تكن عفوية، فهي منظمة، منذ بداية دعوتهم. فطريقة انسحابهم و تواجدهم في النشاط العام و داخل الجمعيات، تتم، غالب الاحيان، بصفة جماعية ومنظمة، مما يوحي ان وراء ذلك تنظيم شبه علني بقياده امير. و كان لادبيات المفكرين الاخوانيين بالغ التأثير على عموم التلاميذ، نظرا لمثاليتها وبساطة طرحها المفرطة،التي تختزل الدين والتاريخ الاسلامين في قوالب جاهزه، مجردة من السياق التاريخي ومن الصراعات الفكرية والسياسية وغيرها التي تمخضت عنها الحضارة العربية الاسلامية الزاهرة. تقدم الادبيات الاخوانية حلولا، صالحة لكل زمان ومكان، لعموم المسلمين و للانسانية جمعاء، جاهزة للاستعمال، فيجد فيها التلميذ المراهق، بالخصوص، الشفاء الضافي الشافي لحيرته. فالاسلام عائد، لا محالة، حسب هذه الادبيات، منطلقا من جذوره الاولى، كما تم ذلك في بداية الدعوة النبوية، وان الغرب المادي في طريقه الى زوال. هكذا يبشر الدعاة الجدد:"فما لقيصر، وقيصر ذاته، في العقيدة الاسلامية، كله لله"(سيد قطب). "الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا...والجهاد في سبيل الله اسمى امانينا"(حسن البنا). " الاسلام دين ودولة، مصحف وسيف"(حسن البنا)

لقد ترسخت هذه المبادئ الاصولية في عقول الناشئة وكثير من المواطنين، فاصبحوا يتبنون شعارا غامضا فضفاضا تحت اسم الدولة الاسلامية و التي عبر عنها السيد قطب قائلا: "انها لا تتولى الانسان فردا وتهمله جماعة، ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه او علاقات دولته ومجتمعه بسائر الدول والمجتمعات".

وهكذا لم يعد التعبد قضية شخصية كما كان الحال قبل تمدد الاسلام السياسي .لقد اصبح المجتمع مقسما،الى حد ما، بين اسلاميين وغير اسلاميين او بين علمانيين واسلاميين. وهو تقسيم اعتباطي يهم النشطاء السياسيين، حسب تقديري. اعتباطي لان غالبية التونسيين غير معنيين بهذا التصنيف. فهم يعتبرون انفسهم مسلمين لا اكثر. وبالفعل، فالمواطنون العاديون، غالبية السكان، لا يستعملون هذه الاصطلاحات كما لم تكن في معجم جامع الزيتونة منارة الفكر الاسلامي، طوال قرون.

زيادة علة ذلك، فغالب الممواطنين الممارسين للشعائر الدينية وغير الممارسين لها، يعتبرون الصلاة واجبا دينيا. و انه يوجد من غير الممارسين للشعائر الدينية، من هم اقوى واشد ايمانا من بعض الممارسين لها. وقد لمست هذا من خلال معاشرتي لفئات متنوعة من مجتمعنا . اذن فتصنيف المجتمع لا يخلو من مغالطات.

فالاسلام السياسي اوجد كائنا جديدا يمكن ان نطلق عليه اسم المسلم السياسي او الناشط الاسلامي، الذي يحمل ايديولجية متكاملة تعتمد على تاويل معين للفكر والتاريخ الاسلاميين . فمن حق كل انسان ان يتبنى الايديولوجيا التي يشاء، لكن بشرط قبول الاخر اي للجميع نفس الحقوق ونفس الواجبات. انها امنية قد تكون صعبة المنال، لكن لا يمكن بناء مجتمع سليم، قوي ومهاب، بدون ان يكون مواطنوه احرارا. فالحر هو الذي يقرا اصله وفصله وحاضره وماضيه بطريقة سليمة غير منحرفه تعود على امته والانسانية بالنفع والخير.

 

العربي بنحمادي

باحث - تونس

في المثقف اليوم