قضايا

اشكالية الأدب والنقد والمتلقي

qassim salihyاثار شعار (الأدب يبني الانسان) الذي تبناه المؤتمر الثاني لأتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف(19 – 20ايلول /2015) جدلا، اذ رأي بعض النخبة الذين حضروا .. ان الأدب لا يبني الانسان بل يبني ادبيته، وان الايديولوجيا هي التي تبني الانسان او تهدمه، بمعنى ان الدولة هي التي تبني الانسان وليس الأدب، فيما رأى آخرون ان الأدب يبني الانسان حين يضيف جديدا يتيح للغد ان يكون افضل، ولعناصر الثقافة ومفرداتها ان تكون انسانية جديدة وشاملة .. بحسب وصفهم .. وانتهوا الى ان (الأدب يبني الانسان) يبقى عنوانا اشكاليا يتوافر على اسئلة كثيرة.

ان السبب الرئيس في هذه الاشكالية الجدلية يعود الى عدم وجود وضوح في مفاهيم (الأدب، النقد الادبي، تمثل المتلقي لمعنى النص الادبي، وتاثير معنى النص في الفكر والمشاعر والسلوك).

ولدى مراجعتنا لتعريف (الأدب) .. لم نجد له تعريفا متفقا عليه.وبعيدا عن مراجع وتفاصيل متعبة للقاريء فان الشائع عنه ان الأدب يعني:جميع انواع المعرفة، النظم والثقافات الضرورية، رياضة النفس على ما يستحسن من سيرة وخلق، الكلام الجيد من النظم والنثر والقصص، الكلام الجيد الذي يحدث لمتلقيه لذة فنية إلى جانب المعنى الخلقي، التعبير الإنساني عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية.

ويبدو ان ظهور الاسلام احدث تغييرا جوهريا لمعنى الأدب، اذ صار يعني التهذيب الأخلاقي معتمدا حديث النبي " أدبني ربي فأحسن تأديبي".ثم تعدى ذلك الى التعليم يوم استخدم الخلفاء الامويون "المؤدبين" لتلقين اولادهم الشعر والخطابة، واستمر الجمع في العصر العباسي بين معنيي التهذيب والتعليم، ثم تعداهما وصار الادب يعني، بمفهوم اخوان الصفا، كل المعارف غير الدينية التي ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعي والثقافي.ولم يختلف التعريف الغربي للادب كثيرا عن التعريف العربي باستثناء انه اضاف له "التذوق الجمالي " بعد ظهور علم الجمال.

تلك مقدمة موجزة تلقي الضوء على اشكالية يبدو انها مستحدثة لأن وظيفة الأدب عبر تاريخه الاسلامي تحديدا، كانت المعرفة والتهذيب والتعليم، وبهذا المعنى فان الأدب يبني الانسان .. او يسهم في بنائه باحداث تغيير في تفكير الفرد وسلوكه بلغة علم النفس.

وحديثا .. يشير "فولكيس" في كتابه (الادب والدعاية) الى انه لا يجوز تعريف "الادب" استنادا الى واحد من من جوانبه المتعددة حسب .. وانه على الرغم من وجود اتفاق عام على ان مجموعة معينة من النصوص تشكل "ادبا" فان النظرية الادبية منذ ارسطو حتى الوقت الحاضر قد اعترفت بان المصطلح لا يدل على النصوص فقط، بل يدل ايضا على شبكة من العلاقات التي تضع النصوص في سلسلة من المسببات والنوايا والتاثيرات والتصرفات الوسيطة. ولقد نال الادب في القرن العشرين موقعا مستقلا ومحترما في المناهج التربوية في كثير من المجتمعات، وجرت محاولات لتحديد الاهداف التربوية المناسبة للدراسة الادبية، وتحديد طبيعة التصرفات الوسيطة التي تحدد تلك الاهداف.

على ان الاشكالية الاعقد تتعلق بمهمة النقد الادبي وعلاقة النص بالكاتب و"موت المؤلف". مثال ذلك ان الناقدة "بيلزي" ترفض الاساليب النقدية القائلة بان المؤلف هو الذي يحدد معاني ما يكتبه، وترى انه ما ان ينطلق النص من قيود القراءة الواحدة ذات الصوت الواحد حتى يصبح متاحا لانتاج متعدد ومتناقض وقابلا للتغيير، فيما يرى "بينت" ان مهمة النقد هي تسيس النص باحداث موقع جديد للنص في ميدان العلاقات الثقافية بحيث تظهر استعمالات وتاثيرات جديدة لذلك النص في العمليات الاجتماعية الاوسع .. منطلقا من مقولة مفادها (ان النص ليس مصدر المعنى) .. ليكشف عن قدرة النقد الادبي على ان يغدو عملية تسيطر على الكيفية التي تنسب بها المعاني الى الاشارات والرموز.فلو كانت الاعمال الادبية نفسها تتحدى اساليب الادراك المستقرة ما كانت هنالك حاجة للنقد التنويري الذي يتعدى قدرة المتلقي لمعطيات النص الادبي. والملاحظ على النقد الادبي العراقي انه انشغل باشكاليات النص الادبي الفنية والبنائية واللغوية واغفل ما يمكن ان يحدثه النص في المتلقي.

ان التبرير الشائع للادب بوصفه فعالية ترويحية او جزءا من النظام التربوي هو انه "يوسع الافق ويجلي البصيرة".ومع ان اعمالا ادبية تفعل ذلك فان اعمالا ادبية اخرى تعمل على تضييق الافق.وتشير الادبيات الى ان ادب الاطفال شكل احد العناصر المهمة في عملية التنشئة الاجتماعية.فقد قام "كرامنك " بدراسة عميقة لادب الاطفال والايديولوجية البورجوازية، وبيّن طريقة تقديم اساطير الادماج الصناعية الراسمالية في ادب الاطفال اواخر القرن الثامن عشر.مثال ذلك قصة "جاك الصغير" و "الماكنة التي استطاعت " التي بيع منها خمسة ملايين نسخة منذ صدورها عام 1927.كلتا القصتين تبشر بالنجاح الذي ينجم عن قبول الروح الفردية والايمان بالعمل الجاد والرغبة في التقدم والاستقلال العنيد للفرد، واشاعتها تلك لمفاهيم جديدة عن الطفولة والامومة.ولقد تخلت القصص التي جاءت بعد الثورة عن النصح والارشاد ليحل محلهما ادب يقدم النظام الاجتماعي الجديد بوصفه الطريقة الطبيعية والدائمة لتنظيم المجتمع الصناعي بطرحها متطلبات الراسمالية الصناعية والقدسية المطلقة للملكية الخاصة بوصفها السمات الاساسية للوجود الانساني.

وشاهد آخر ان "برخت" عمد الى طرح نظريته في الاغتراب ومفهومه عن المسرح الملحمي بوصفه وسيلة تنوير وظفها بصورة جمالية، اذ كتب يقول "يتأتى تاثير الاغتراب من تدوير الشيء الذي نريد من المرء الانتباه اليه والاحساس به، وتحويله من شيء اعتيادي ومالوف وفي متناول اليد الى شيء غريب ومدهش وغير متوقع".ومن يقرأ تاريخ الأدب والنقد الأدبي( الالماني، الأمريكي، السوفييتي، الفرنسي) يخرج بنتيجة ان كليهما اسهما في جلاء الوعي عند الانسان.

ومن منطلق تخصصنا وخبرتنا الثقافية لثلاثين عاما في الصحافة والاذاعة والتلفزيون، فاننا نرى ان وظيفة الأدب تختلف باختلاف الفئة الاجتماعية المستهدفة .. فهو يشكل متعة فنية او جمالية او ترويحا للنفس في واقع افتراضي بديل عن واقع خشن وذلك لجيل الكبار الذين تاسست لديهم منظومات قيمية اتخذت صفة الثبات النسبي، فيما هو يسهم في تشكيل سلوك الأطفال والشباب.

ان الثقافة العراقية شهدت بعد التغيير انهيارات، وان المزاج النفسي للفرد العراقي شهد انكسارات، وان واقع المؤسسات الثقافية يشير الى انها بعيدة عن مهمة توظيف الادب في بناء الانسان، وانها اقامت مؤتمرات ومهرجانات بهدف الدعاية اكثر منها تقديم فعل ادبي حقيقي له تاثير ايجابي في الفرد او المجتمع، وان الاديب العراقي الحقيقي ما كان له دور فاعل في بناء الانسان، فضلا عن شيوع ثقافة "أدب" الكراهية والعنف والانتقام .. ما يستدعي عقد مؤتمرات نوعية كالذي اقامه اتحاد ادباء النجف تستهدف ان يكون للادب دور في اشاعة ثقافة التسامح والحب والسلام، وتلك انبل مهمة .. في بناء الانسان والوطن ايضا.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم