قضايا

الوردي (36): قبل اللاذقاني بخمسين عاما .. آراء الوردي في الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي

husan sarmakللسيّد (محيي الدين اللاذقاني) كتاب عنوانه (آباء الحداثة العربية) صدر في التسعينات وطبع، لأهميته، أكثر من مرة. في هذا الكتاب يعتبر اللاذقاني أن (الجاحظ والتوحيدي والحلاج) هم آباء الحداثة العربية بما حققوه من انجازات إبداعية هائلة في حقل الثقافة العربية، مبنى ومعنى. لقد حقّق هؤلاء الثلاثة نقلة هائلة في الأسلوبية العربية فنفخوا فيها الحياة بعد أن كادت تموت اختناقا تحت أثقال المحسنات البديعية وترهلت بفعل المراوحة النثرية والشعرية التقليدية لقرون طويلة. لكن قبل أكثر من خمسين عاما كان للوردي قصب السبق في تناول منجزي الجاحظ وأبي حيان التوحيدي ومراجعتهما بصورة نقدية دقيقة.

بالنسبة للجاحظ، يرى الوردي أنه أمير النثر العربي بلا منازع، لكن من سلبياته الأسلوبية هو أنه اقتبس أسلوب (عبد الحميد الكاتب) في الكتابة، فقلّما تقرأ في كتبه عبارة دون أن تجد وراءها عبارة أخرى مرادفة لها . ومن أكبر سلبيات الجاحظ الفكرية التي لم يشر إليها اللاذقاني وأخذ الجاحظ بإيجابياته فقط، هو إيمان الجاحظ بمنطق علم الكلام الذي يعتمد في مجادلاته على أقيسة المنطق الأرسطوطاليسي. يقول الوردي:

(كان الجاحظ يؤمن بهذا المنطق ويتبع قواعده في أمور دينه ودنياه . ومن طريف ما يُحكى في هذا الصدد أن الجاحظ اجتمع ذات يوم مع ابن ماسويه الطبيب على مائدة أحد الوزراء، فقُدّمت الأطعمة، وكان فيها سمك ومضيرة . والمضيرة طعام يُطبخ باللبن الحامض . وكان المعروف عند أطباء ذلك الزمان أن أكل المضيرة مع السمك مضر بالبدن . فنصح ابن ماسويه الجاحظ بأن لا يجمع بينهما في الأكل . فلم يسمع الجاحظ نصيحته وأخذ يجادله جدلا منطقيا إذ قال: لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضافا له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له . وإن كانا من طبع واحد فلنحسب أنّا أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا . فقال له ماسويه: والله مالي خبرة بالكلام ولكن كُلْ يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد . فأكل الجاحظ عنادا، فأصيب بالفالج في ليلته وقال: هذه والله نتيجة القياس المُحال) (252) .

ويعلّق الوردي على هذه الحادثة بالقول:

(نحن لا يهمنا أن يكون الجاحظ قد أصيب بالفالج من تلك الأكلة أم لا، ولكن الذي يهمنا هذا القياس المنطقي الذي استخدمه الجاحظ في الدفاع عن رأيه وأصرّ عليه . فهو يمثل لنا طريقة التفكير عند الجاحظ، وهي الطريقة التي سيطرت على عقول الأدباء والمفكرين طيلة القرون التالية . فأنت لا تكاد تجادل أحدا منهم في رأي حتى يشهر في وجهك سيف القياس المنطقي على الطريقة الجاحظية . إنه يقول لك أن الأمر لا يعدو أن يكون كذا أو كذا، ثم يأخذ بتفنيد كلا الوجهين كما يشاء . وليس لك إزاء ذلك إلّا أن تسكت) (253) .    

ومن الغريب أن نقطة ضعف الجاحظ الكبرى هذه من وجهة نظر الوردي لم يمسك بها الكثيرون . بل من الغريب أيضا أن بعض النقاد كان يعتبر الجاحظ سفسطائيا يتبع منهج السفسطائيين الإغريق . إن الجاحظ كان معتزليا يؤمن بالمنطق الأرسطوطاليسي القائم على الإيمان بالحقيقة المطلقة، ويعد العقل الوسيلة الوحيدة للوصول إليها في حين أن السفسطائيين يؤمنون بنسبية الحقيقة . يقول الوردي:

(برغم إيمان الجاحظ بالحقيقة المطلقة لكنه كان من الجانب الآخر كغيره من علماء الكلام يناقض نفسه من حيث لا يشعر . فهو يكتب كما تمليه عليه العاطفة أو المصلحة الآنية، ويستخرج المحاسن والمساويء كما يشتهي، ثم لا يستحي بعد ذلك أن ينادي بالحقيقة المطلقة ويدعو الناس إليها . كان الجاحظ يكتب في الشيء ونقيضه ببساطة ويسر . كان يكتب في أي شيء ذمّا ومدحا) (254) .

لكن الوردي يختلف عن اللاذقاني الذي لم يحدد بدقة وحصريا جوانب الثورة الجاحظية الحداثية رغم أنه يقدم الأمثلة والاقتباسات الكثيرة من أدب الجاحظ عليها، في أنّه – اي الوردي - حدّد إيجابيات الجاحظ التجديدية، وهي حسب رأيه تتمثل في ما يأتي:

(1- إنه كان كثير المطالعة شديد الدأب في تحصيل المعرفة . ولهذا صارت كتبه ورسائله أشبه ما تكون بدائرة معارف وتراه يتقلب بها من موضوع إلى آخر فيدفع القاريء إلى متابعته بشوق ولهفة .

2 – امتاز الجاحظ بالنزول إلى المجتمع والبحث في عاداته وأساطيره . فهو لم يحتكر الأدب على قصور المترفين وما يجري فيها، بل وجد في العامة ومعاملاتهم مصدرا غنيّا للأدب . ومن الممكن اعتبار الجاحظ أول كاتب اجتماعي في تاريخ العرب .

3 – كان الجاحظ من دعاة الأدب الواقعي أو المكشوف . فهو لا يتستر في ذكر الواقع مهما كان مُعيبا وكأنه كان يرى أن يذكر الحقائق عارية، ويعد المداجاة فيها نوعا من الرياء أو النفاق .

4 – وكان يكره العناية البالغة باللفظ فإن ذلك في نظره يؤدي إلى عبودية الكاتب .يقول الجاحظ: " شر البلغاء من هيّأ رسم المعنى . عشقا لذلك اللفظ وشغفا بذلك الإسم، حتى صار يجر إليه المعنى جرّا ويلزقه به إلزاقا حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسما غيره ") (255) .

أما أبي حيان التوحيدي فإنه كان يكره علماء الكلام ويقول عنهم:

(جذّ الله عروقهم واستأصل شأفتهم وأراح البلاد والعباد منهم . فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم، ودبّ داؤهم وعسر دواؤهم) (257) .

ولعل أخطر ما طرحه التوحيدي في هذا المجال هو أن علماء الكلام قد أفسدوا الدين وذلك من خلال جمعهم لنقيضين: الدين الذي يقوم على الإيمان والتسليم، والفلسفة التي تقوم على التشكيك . والذي يمزج بين الدين والفلسفة إنما هو يفسدهما معا . يقول أبو حيان:

(من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التديّن فعليه أن يعرض بعنايته عن الفلسفة) (258) .

ويقول أيضا:

(ما دام الدين قائما على التسليم والخشوع، فإن المتكلّمين من أبعد الناس عنه، لأنهم يتكلمون بعقولهم في المسائل ويوردون الحجج، ثم لا ترى عندهم خشوعا ولا رِقّة ولا تقوى ولا دمعة . هم يزعمون بأنهم بأدلّتهم المتكافئة ينصرون الدين، بينما هم يبعدون الناس بها عن الطمأنينة واليقين) (259).

وإذا كان الجاحظ يتلاعب بالمعاني بخفة واستهانة فإن التوحيدي كان مؤمنا بكل شيء يقوله حيث تشعر بحرارة الإيمان التي تُعلي الفكرة على اللفظة. ويستعين الوردي بقول لـ (اسعاف النشاشيبي) يقول فيه:

(لو أقام كل عربي تمثالا في بيته لأبي حيان كوفاء على جميل ما أسدى للأمة العربية في موضوعه هذا، لما كان هناك إسراف في التقدير) (260) ..

لكن الوردي لا يفوّت الفرصة بفعل روحه الناقدة المسمومة فيقول إن النشاشيبي وغيره لم يكونوا ليبالغوا في تمجيد أبي حيان مثل هذه المبالغة لو لم يفتح المستشرق السويسري (آدم متز) في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع) الطريق إليه ويكتشف ألمعيته بعد أن نسيته أمة العرب .

وارتباطا بفرضيته حول ازدواجية شخصية الفرد العراقي لا ينسى الوردي أن يشير إلى أن أبا حيان هو أول من اكتشف ظاهرة ازدواج الشخصية في أهل زمانه:

(استمع إليه يقول في وصف أهل بغداد: "والحكمة على ألسنتهم أظهر منها على أفعالهم، ومطالبتهم بالواجب لهم أكثر من بذلهم الواجب عليهم " .. ويعود أبو حيان فيقول: "إن هذا خلق فاشٍ في جميع الناس .. وكأنه في أصحابنا أفشى، ومن جهتهم أعدى) (261).

ويعلق الوردي على ذلك متسائلا:

(والقاريء قد يعجب حين يرى ازدواج الشخصية ظاهرا على أهل العراق في أيام أبي حيان على منوال ماهو ظاهر في أيامنا) (262).        

 

د. حسين سرمك حسن

 

في المثقف اليوم