قضايا

تناقض الأضداد في الشخصية العراقية

qassim salihyمات سيبويه وبنفسه شيء من (حتى)، ومات علي الوردي وبنفسه أكثر من شيء عن (الشخصية العراقية)، وقضيت ربع قرن أدرّس (علم نفس الشخصية) في جامعات عراقية وعربية، وسأموت وبنفسي أشياء عن هذه الشخصية العجيبة في بلد العجائب والغرائب .. العراق الذي وصفه الجواهري: (أبا الفرسان لا عجب فانّا .. نؤدي فدية البلد العجيب).

فمن عجائبها أن الطب النفسي يقرّ بوجود حد لطاقة الناس على التحمل اذا ما تجاوزها أحدهم فأنه ينهار نفسيا أويصبح مجنونا أو ينتحر .. فيما تحمّل العراقي ثلاثة عقود ونصف من حروب كارثية متصلة(باستثناء سنة واحدة التقط بها أنفاسه، 89) وحصار أكل فيه الخبز الأسود ثلاثة عشر عاما تفضي بالأنسان السوي الى ان يجزع من الحياة أو تزهق روحه .. غير أن العراقيين كانوا، مع كل هذه المصائب، يحمدون الله ويشكرونه، بل أنهم وصلوا الى الحال الذي يذهبون في الصباح الى مجلس فاتحة يعزّون صديقا تطايرت أشلاء أخيه بانفجار، ويذهبون بمساء اليوم ذاته الى حفلة عرس صديق آخر يغنون ويرقصون.

ومع أن الموت صار يمشي مع العراقي كظلّه، فانه ما عاد أحد مكترثا به، فهذا يذهب لعمله معللا النفس بسيكولوجية (كل واحد يموت بساعته)، وذاك الى المقهى يشرب النرجيله(ويلعن أبو الدنيا)، وذاك الى الجامع حاملا مسبحته ومرددا (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) .. والكل متعلق بالحياة بطريقته في تعاملهم مع الأفراح والفواجع التي صارت تأتيهم على رأس الساعة!

وتناقض الأضداد كان أعمق في علاقة العراقيين بالسلطة .. فنحن هتفنا للحاكم الدكتاتوري بفداء أرواحنا له، وحين نغادر ساحات الاعلان نلعنه وندعو الله في صلواتنا أن يخلصّنا منه، تحولت في زمن الحاكم الديمقراطي الى الرياء والهجاء .. نمتدحه امامه ونسخر منه حين نختلي مع من نأتمنهم.ونحن نتباهى بأنفسنا حين نكون مع بعضنا حتى ليبدو أحدنا وكأنه مركز الكون، فيما " يفش" ورمنا وننزوي بآخر الكون في حضرة السلطان.وحين نتحاور مع بعضنا لا نعطي الفرصة للآخر للتعبير عن رأيه، وحين يعلّي صوته نعلّي أكثر، ونقاطع .. الا الحاكم، فاننا نصمت أمامه ان كان دكتاتورا ونمتدحه بما ليس فيه ان كان ديمقراطيا .. يجزل العطاء!.

ولقد تحرينا أسباب تناقض الأضداد الذي تكاد الشخصية العراقية تنفرد بحدتّه وتأصله فوجدنا أن العراق قبل الآف السنين كان سهلا استهوى الغزاة، وأن الصراع فيما بينهم أفضى الى نتيجة حتمية هي أن البقاء يكون لأقوى المحاربين وأشدّهم بأسا، وأن من طبيعة الأقوى أن يشيع بين الناس ثقافة الخوف والرعب، فيمجدّونه في حضوره ويلعنوه في سرّهم.وكان الغالب في تاريخ العراق أن الحكّام كانوا يقطفون رؤوس الخصوم ويعلقونها في مداخل الجسور والساحات .. وحين يدور الزمن ويأتي حكّام جدد فأنهم يفعلون الشيء ذاته .. وهكذا الى يومنا هذا.وحين يواجه الناس حكّاما لهم سلطة (أنا أحيي وأنا أميت)على مدى قرون، تشيع بينهم ثقافة ألأضداد لتصبح سلوكا عاما .. فصرنا نتعامل حتى مع أرق العواطف الأنسانية وأجملها بنقيضها الضد.فلا شيء أجمل وأرق من (الحب) .. فبه نفرح ونتعلق بالحياة ونحب الناس والطبيعة، لكنك تجد العكس في أغانينا .. أحزان، مآتم، خيانه، دموع .. والحان مدوزنه على ايقاع (اللطميات) الحسينية!

وحين تختلي بفكرك لتتأمل تخرج بنتيجة أن السبب الرئيس لتناقض الأضداد في الشخصية العراقية هو انه ناجم عن ثقافة خوف تراكم عبر مئات السنين.والمفارقة أن التحرر من الخوف يفضي، وفق المنطق، الى فض اشكالية تناقض الأضداد.لكن ما حصل أنه ظلّ ثابتا في الشخصية العراقية مع تغيير في الأتجاه مصحوب بفوضى.فمع أن العراقي صار الآن يلعن الحاكم علنا دون خوف الا أنه صار يفرّغ فيه ما كان مكبوتا.والأوجع أن العراقيين صاروا أضدادا فيما بينهم، يلعنون بعضهم بعضا في السرّ والعلن .. وتلك مصيبة ستظل قائمة ما دامت سلطة الحكم أضدادا .. يشيع كل ضد فيها ثقافة الضد.

خلاصة ما نريد الوصول اليه، اننا دفعنا في سنوات ما بعد التغيير اكثر من مليون ضحية بسبب ثقافة الضد وضده المذهبي او القومي، والسبب في ذلك ان ثقافة المواطنة تعرضت لضربتين موجعتين .. الأولى .. في حفرة صدام الذي ساوى بينه والعراق(صدام حسين هو العراق) .. وانتهى بفاجعة مخزية، والثانية .. يوم دق (بريمر) مسمار التثليث في شاصي العملية السياسية العراقية .. وهي العقبة التي يواجهها الآن السيد حيدر العبادي في ادراكه ان الاصلاحات التي تتعدى عملية الترشيق الحكومي وتمس حياة المواطن، لن يمكن تحقيقها دون مصالحة وطنية تحيى الشعور بالانتماء الى العراق الذي (حصحصه) بريمر .. وتلك مهمة لن يستطيع السياسي انجازها بمفرده دون الاستعانة بخبراء أكاديميين في علم النفس والاجتماع .. شرط ان يكونوا مستقلين .. ذلك ان سيكولوجيا السلطة في العراق علمت الحاكم في الزمن الدكتاتوري ان يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه، وعلمته في الزمن الديمقراطي ان يحيط نفسه بمستشارين من حزبه يحملون نفس الأفكار .. فيما مهمة المستشار ان يأتي بأفكار جديدة على الحاكم ورؤى انضج من رؤاه .. أليس هذا هو أحد أسباب المحنة فيما الخلاص منها على بعد امتار!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم