قضايا

التظاهرات .. هل أحيت قيما ماتت؟ .. تحليل سيكولوجي

qassim salihyالمعيار الشائع للحكم على نجاح التظاهرات العراقية هو قدرتها على تحقيق اهدافها المتمثلة بالقضاء على الفساد ومحاكمة الفاسدين واصلاح القضاء وتأمين كرامة واحتياجات المواطن واقامة دولة مدنية حديثة.غير ان هنالك معيارا من منظور سيكولوجي يتعلق باحيائها لقيم وسلوكيات اخلاقية ظننا انها ماتت.

ولأن كثرة تداولنا لمفهوم (القيم) افقدنا جوهر معناها واهميتها، عليه سنوجز ما تعنيه ليتبين للقاريء الكريم ان للقيم الدور الاول في حياة الفرد والمجتمع.

شغلت (القيم Values) اهتمام الفلاسفه وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين وعلم النفس، لدورها الرئيس في صناعة الانسان وتحديد سلوكه. ومع انهم تنوعوا في تحديد مفهومها الا انهم اتفقوا على ان القيم تعمل على التحكّم بالسلوك وتوجيهه نحو اهداف معينة:مادية، علمية، اجتماعية، اخلاقية، دينية، معرفية، وجمالية. ولك ان تشبه القيم بـ (داينمو) السيارة .. فكما انك ترى السيارة تتحرك (وحركتها سلوك) ولا ترى الذي حرّكها (الداينمو) كذلك فانت لا ترى (المنظومة القيمية) التي تحرّك سلوك الانسان.

والأهمية الثانية للقيم، انها نظام متكامل من الاحكام والقواعد الاخلاقية والمعايير يخلقه النظام السياسي والمجتمع في نسق مميز ويعمل على اعطائه اساسا عقليا يستقر في اذهان افراده، ويزودهم بمعنى الحياة والهدف الذي يجمعهم من أجل البقاء، وتكون أشبه بـ" الاسمنت" الذي يربط "طابوق" العمارة.

والذي حدث بعد التغيير أن هذا (الأسمنت) تفتت .. وحصل الآتي:

• تهرؤ الضمير الأخلاقي

• تراجع قيمة الحياة واستسهال قتل الآخر

• صيرورة الفساد من خزي وعار الى شطارة

• عدم الالتزام بالقيم الدينية

• شيوع النفاق والكذب والانحرافات السلوكية والتصرفات البذيئة.

 

استطلاع رأي

في مثل هذه الموضوعات، ينبغي على الباحث ان يكون موضوعيا، وهذا ما قمنا به بأن استطلعنا اراء نخبة من الاكاديميين والمثقفين، نوجز اهم ما شخصّوه من ايجابيات التظاهرات بالآتي:

( اكدت صحوة الشعب العراقي من غفوته من 2003، نشرت الوعي ووحدت بعض الشيء، كشفت خداع البرلمانيين والحكومة للشعب، عززت ثقة الشعب بنفسه وقدرته على التاثير في الحكم، وفّرت فرصة التعبير عن الراي وكسرت قيود الخضوع والاستسلام، فتحت بابا لبداية مرحلة جديدة، كسرت حاجز الخوف عند المواطن وخرجته عن صمته الذي كلف الوطن الكثير، خففت من التوتر الطائفي وجمعت كافة الطوائف والاديان تحت راية العراق، اظهرت ان الاغلبية من العراقيين ما عادت تؤمن بحزب الدعوة او الاحزاب الاسلامية، عملت على اظهار النزاعات الخفية بين الاحزاب الشيعية، كشفت ضعف التيارات السياسية الحاكمة، واسهمت بمشاركة الشباب بحجم اكبر ..).

من جانب آخر، كانت لهم سلبيات ومخاوف على التظاهرات تحددت بالآتي:

(وفرت فرصة للتنفيس الانفعالي لا أكثر، بسببها زادت نسبة الاحباط والياس لأنها لم تقدم شيئا، ان فشلت فسوف لن يتظاهر الشعب مستقبلا وستكون وبالا عليه، التظاهرات هي من صنع احزاب السلطة، وارادات خارجية ..).

الحقيقة المؤكدة ان تظاهرات ما بعد 31 تموز 2015 أحيت قيما كنا ظننا انها ماتت يوم فشلت تظاهرات 25 شباط 2011. وما فعلته الآن هو انها ايقظت الضمير العراقي بان ينتصر للقيم، وانها كانت في موقفها من القيم اشبه بالمرأة المنهوبة التي استصرخت النخوة العراقية .. فانتصرت لها. وفضلا عن الايجابيات التي شخصّها الاستطلاع فان اهم انجاز اخلاقي حققته التظاهرات هو انها اسقطت هيبة الحاكم الفاسد .. وفضحته، وكشفت زيف الحاكم الذي يوظف (الدين) لمصلحته ومصلحة حزبه وطائفته.وعملت اهزوجة العراقيين التاريخية (باسم الدين باكونه الحراميه) بأن قدحت في الضمير الاخلاقي احياء قيمتين كبيرتين:النزاهة والأمانة في الحكم، وكشفت ان الاسلام السياسي مشوه للدين وضد قيمه الأخلاقية المتمثلة بنظافة اليد والضمير .. فضلا عن انها ازالت الشعور بالخوف عند المواطن واذكت لديه دافع التحدي، واوصلته الى الشعور بان سكوته عما يجري يعد خيانة للدين والوطن وجبنا في استرداد حق اغتصب.

والخشية .. ان الشخصية العراقية انفعالية .. استعجالية .. تهب بسرعة وتخفت بسرعة، فيما نفس السياسة طويل، .ولهذا فان حجم التظاهرات سيقل تباعا لأن الشخصية الانفعالية يتحكم بها قانون سيكولوجي هو الملل من التكرار الذي يؤدي الى الكف ..(التوقف). غير ان ديمومتها ستكون مضمونة لأن بين المتظاهرين نخبة يوحّدهم يقين ثابت أن المستقبل لهم .. لصدقهم ولمشروعية مطالب تهم الشعب والوطن .. وأن الجماهير ستزيدهم زخما ما ان يعلن عن تحقيق مطلب يشيع الأمل في تحقيق مطلب اكبر.ذلك ان الشخصية الانفعالية ما ان ترى الفرصة قد جاءت لتوجيه الضربة القاضية بمن اذلّها فانها تصفع بها من اذلّها ولن ترحمه .. وتشير التنبؤات السيكولوجية الى ان هذا سيحدث!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم