قضايا

جائزة نوبل والمجتمع المدني

abdulhusan shaabanبعد أن أعلنت لجنة جائزة نوبل للسلام منحها الجائزة هذا العام 2015 لمنظمات المجتمع المدني التونسية، لم يعد أدنى مبرر لتجاهل الدور الذي لعبته مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، لاسيّما في تونس، في الدعوة إلى الإصلاح والتقدّم والتنمية وفي تعبئة الجهود والطاقات من أجل ذلك، بل أصبح لزاماً على الحكومات العربية تعاملاً مختلفاً عن تعاملها في الفترة السابقة التي اتسمت بالتشكيك والريبة، بل والاتهام، كما أصبحت مسؤولية المجتمع المدني أكبر من السابق، لاسيّما التعاطي من موقع القانون والمهنية إزاء القضايا التنموية والمجتمعية.

الأمر يحتاج إلى إعادة النظر بدور مؤسسات المجتمع المدني ومشاركتها في اتخاذ القرار، خصوصاً عندما تسعى لتصبح قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، لتقديم حلول ومعالجات ومشاريع قوانين وأنظمة، للمساهمة في عملية التنمية والعمل على رصد ومراقبة تنفيذ الخطط والبرامج الحكومية في إطار حكم القانون والشفافية واحترام التنوّع والتعدّدية، بحكم دورها الرصدي والرقابي.

ويعود سبب منح جائزة نوبل لمؤسسات المجتمع المدني، وهي تمنح لأول مرّة، إلى الدور الذي لعبته أربع منظمات فاعلة في التوصّل إلى حلول للأزمة التونسية التي تفاقمت، بين حزب النهضة الإسلامي ومن معه، وتيار ليبرالي أخذ بالاتساع، خصوصاً في ما يتعلّق بمدنية الدولة، وذلك حين نجحت المنظمات الأربع، برعاية حوار وطني، توصّل في نهاية المطاف إلى نزع فتيل الأزمة، وأسهم في إرساء التوجّه الديمقراطي بعد الاستعصاء الذي كادت أن تصله ثورة الياسمين المنتصرة في العام 2011.

لقد واجهت عملية الانتقال الديمقراطي في تونس تحدّيات مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية ودينية وإرهابية، داخلية وخارجية، كادت أن تعصف بها، خصوصاً بالتوترات الاجتماعية والفوضى المتشعّبة، والاغتيالات السياسية التي شملت قادة ورموزاً مثل شكري بلعيد ومحمد البراهيمي وهو ما أدركت خطورته مؤسسات المجتمع المدني فبادرت أربع منظمات أساسية للتقدم بوساطة في العام 2013، وعلى أساس هذه الوساطة تم تنظيم حوار وطني طويل وصعب، أطلق عليه البعض «الحوار الماراثوني المضني»، ولكنه في نهاية المطاف مَنَعَ الشلل الذي كادت أن تصاب به مؤسسات الدولة، وأفضى إلى توافق، قاد إلى تفاهم بشأن استكمال مسار العملية السياسية سلمياً وبسلاسة، حتى إجراء الانتخابات البرلمانية.

ونجح حزب نداء تونس الجديد، الذي ضم خليطاً من قوى ليبرالية ويسارية وبعض المحسوبين على النظام السابق، بمن فيهم موظفون رفيعو المستوى، بقيادة القائد السبسي رئيس الوزراء الأسبق، الذي أصبح رئيساً للجمهورية في الانتخابات، ولم يعترض حزب النهضة على نتائجها كما جرت العادة، بل بادر إلى تهنئة الحزب الفائز بفوزه، مؤكداً حرصه على نجاح العملية السياسية الديمقراطية، الأمر الذي جنّب البلاد مخاطر الاحتراب الداخلي وقلّص من استغلال الجماعات الإرهابية والمتطرّفة، الانقسام السياسي، وحالة الفوضى الناجمة عنها وشلل مؤسسات الدولة، لكي تقوم بتنفيذ خططها الإجرامية.

وبغض النظر عن الرأي السلبي إزاء الأحزاب الإسلامية، فإن حزب النهضة، تحلّى بالحكمة والواقعية السياسية، سواءً بضغوط مجتمعية ومدنية واجهها أو لقناعة تولّدت لديه أو حساب دقيق لتوازن القوى، فإن النتيجة كانت إيجابية للشعب التونسي ولمسار العملية السياسية،

ولم يتشبّث حزب النهضة برأيه بخصوص تطبيقات الشريعة الإسلامية، التي حاول التيار السلفي إحراجه بها بمزاوداته ضد التيار العلماني، الديمقراطي الليبرالي، كما لم يتقدّم بمرشح لرئيس الجمهورية، وترك لأعضائه حرّية اختيار من يرونه مناسباً، وذلك إيثاراً منه وبُعد نظر، خصوصاً وهو يرى ما حصل للاخوان المسلمين في مصر من جرّاء محاولتهم «أخونة» المؤسسات، فتحرّك الجيش حينها، وحسم الموقف بعد حركة احتجاج شعبية عارمة، فألغى الدستور ونتائج الانتخابات.

لو اختارت حركة الإخوان في مصر وحزب الدعوة الإسلامي والجماعات الإسلامية الأخرى في العراق، شيعية وسنّية، مثل هذا التوجّه لجعلت البلاد في مسار آخر وفي مشهد سياسي مختلف، وأقل ما يقال عنه إنه سيعيق الجماعات الإرهابية، إذْ كلّما تعزّزت الوحدة الوطنية ضاقت دائرة الإرهاب، وبالعكس، فكلّما ضعفت الوحدة الوطنية، فإن الإرهاب يجد فرصته المناسبة وبيئته الخصبة والحاضنة، لكي ينفّذ عملياته الإرهابية مستغلّاً مثل تلك الثغرات الخطيرة، التي يسبّبها الاحتراب الوطني.

إن منح جائزة نوبل لمؤسسات المجتمع المدني التونسية، هو اعتراف صريح وواضح من المجتمع الدولي، ومن مؤسسة عريقة بالدور الذي قامت به هذه المنظمات لحفظ السلام والأمن وفي مواجهة الإرهاب، وفي التوصّل إلى حلول لحماية الوحدة الوطنية والحفاظ على العملية التعدّدية السياسية الديمقراطية، وجائزة نوبل التي تأسست 1901 تمنح للشخصيات المتميزة في 10 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام في العاصمة النرويجية (أوسلو).

إن جائزة نوبل التي مُنحت بجدارة لمؤسسات المجتمع المدني التونسية الأربع، هي استحقاق لتاريخ نضالي عريق ومساهمة فعّالة بدور مجتمعي معترف به، ولذلك فإن منح الجائزة هو تشريف للدور التاريخي الذي لعبته هذه المنظمات.

المنظمات هي: الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبر من أعرق المنظمات النقابية وقد تأسس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (العام 1946) أي قبل استقلال تونس العام 1956، وكان قائده الشخصية الوطنية فرحات حشّاد، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وهو منظمة مهنية تأسس العام 1947، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، التي تعتبر من أولى منظمات حقوق الإنسان في العام العربي، إذا استثنينا جمعية حقوق الإنسان في العراق التي تأسست في العام 1960، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، وهي منظمة تضم المحامين ولعبت دوراً كبيراً ما بعد الثورة.

وبالاشارة إلى العمل الحقوقي، فإن المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي تأسست في العام 1983، ساهمت مع اتحاد المحامين العرب، في تأسيس المعهد العربي لحقوق الإنسان العام 1989 برئاسة حسيب بن عمار، ولعب هذا المعهد دوراً كبيراً في تخريج آلاف النخب التونسية والعربية وتدريبها للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم العربي، وكان رئيسه حتى الثورة وزير الخارجية الحالي الطيب البكوش ورئيسه الحالي الحقوقي الضليع عبد الباسط بن حسن.

إن منح جائزة نوبل لمنظمات المجتمع المدني التونسية، إنما هو إقرار بدورها المجتمعي والوفاقي والتنموي، إضافة إلى دورها الحقوقي واعتراف بقدرات المجتمع المدني في إدارة حوار وطني بعيداً عن الانحيازات المسبقة، مثلما هو دعم للثورة التونسية التي كانت المفتتح لاندلاع ثورات الربيع العربي، على الرغم من تعرّض بعضها للتراجع والارتداد، الأمر الذي أصاب جمهوراً واسعاً بالخيبة والخذلان.

في 15 أغسطس/ آب العام 2013 التقى القائد السبسي بالشيخ راشد الغنوشي في باريس، قال الأول للثاني: إذا أردت مصيراً ديمقراطياً للبلد «تتوَنس»، أي كن تونسياً، وذلك في إشارة إلى فشل التجربة المصرية الإخوانية. فهم راشد الغنوشي بذكائه مضمون الرسالة التي وجهها السبسي، وهي تعبير عن أوساط تونسية واسعة وجهات عربية متنوّعة وقوى دولية نافذة، وقرّر أن يحوّل «هزيمة الإخوان» إلى «نصر تونسي»، له ولمنافسيه، سواء كان ذلك اختياراً أو اضطراراً. والعبرة دائماً هي أن الحوار واللّا عنف يأتيان بالنتائج ولو بعد حين.

ليست الجائزة بحد ذاتها ذات قيمة، بقدر تعبيرها عن الاعتراف بانتصار المجتمع المدني التونسي، وتمكّنه من إدارة حوار مسؤول وجاد، وإيصال الأطراف المختلفة والبلاد عموماً إلى شاطئ الأمان، وتجاوز العقبات الجسيمة التي كانت تهدّد مسار الثورة، وقد آن الأوان لكي يتم تكريم مؤسسات المجتمع المدني العربية، وهذه الأخيرة عليها الابتعاد عن الانخراط في العمل السياسي أو الانحياز الإيديولوجي، مثلما عليها أن تضع مسافة واحدة بينها وبين السلطات والمعارضات، وأن تتعامل بمهنية وموضوعية وشفافية وتكون عامل تقارب وتوحيد، وليس عامل تباعد وفرقة.

 

عبد الحسين شعبان

 

في المثقف اليوم