قضايا

عباس فرحات مسيرة كفاح .. من جزائر المقاطعة الفرنسية إلى جزائر الجمهورية الجزائرية المستقلة (2)

كما أن الرجل وفي كل مراحل نضاله قد كان يأمل في مؤازرة بعض الأصوات المعتدلة لمشروعه وهذا ما يخبرنا به محمد حربي في كتابه الثورة الجزائرية سنوات المخاض وكمثال على هؤلاء نجد محافظ الشرطة في برج بوعريريج والذي قال: طال الزمان أو قصر يجب أن نشركهم في إدارة شؤون البلاد ولهذا فقد كانت مشاريع فرحات عباس كلها إدماجية إصلاحية وإلى العام 1946 ولكنه ومن بعد أن تجاوز الزمن المطالب الإدماجية فقد تبنى فكرة الأمة في طور التكوين والتي استقاها من الفرنسيين أنفسهم حيث كان من بينهم عقلاء وقفوا ضد النظام الاستعماري مثلما هو السيد شارل جيد رئيس الاتحاد الفرنسي الأهلي والذي طالب في العام 1913 بضرورة تكوين أمة جزائرية مكونة من المجموعتين الجزائرية والفرنسية وهذا الكلام نقتبسه من كتاب أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية وهكذا ينتقل عباس فرحات من المطالبة بالإدماج إلى المطالبة بجمهورية جزائرية متحدة فيدراليا مع فرنسا .

ولنفهم عباس فرحات أكثر علينا أن نعرف الخلفية العقائدية التي تحركه فسلوك الإنسان ما هو إلا ترجمة لتك البنية الفكرية التي يعتنقها فها هو يوقع مثلا مقالاته والتي كان يكتبها في مرحلة الشباب باسم كمال أبو سراج، الشطر الأول كمال اقتبسه من مصطفي كمال أتاتورك والشطر الثاني هو اسم لأشهر عائلة في مملكة غرناطة بنو الأحمر وعليه فالرجل كان يعيش بين عالمين العالم الفرنسي بأنواره الساحرة وببنيته الفكرية المتينة وعالم شعبه التعيس وكما هي خطة مصطفي كمال أتاتورك قد قطعت صلتها بماضي تركيا العثماني واتخذت من نموذج الدولة الغربية منهجا لها لبناء دولة قوية كاليابان وفرنسا مثلا ورأى فيها الدواء الشافي لكل علل وأمراض تركيا فكذلك فرحات عباس فقد رأي أنه ومن الممكن تحقيق نفس الهدف للشعب الجزائري إن هو اتخذ من مثال الطبقات البورجوازية الفرنسية خاصة مثالا له في كفاحها ضد الطبقات الرجعية والإقطاعية والتي انتصرت عليها ونفس الأمر في الجزائر حيث توجد إقطاعية الكولون وكذلك الأمر كان في تركيا الرجعية حسب كمال أتاتورك طبعا رجعية وإقطاعية الأتراك العثمانيين وعليه فعمليا ليس هناك فرق بين الشعبين فالشعب الجزائري محتل من الخارج والشعب التركي محتل من الداخل وكما وضع كما أتاتورك حدا للحواجز التي كانت تفصل مختلف طبقات المجتمع التركي فكذلك أراد هو القضاء على كل الحواجز المصطنعة والتي تحول دون تعايش وتآخي مختلف سكان الجزائر ودون تحقيق العدالة والمساواة بينهم وهذا هو الإطار الذي قد كان يتحرك فيه عباس فرحات فلئن كان للعلماء مثلا مرجعيتهم الدينية المشرقية وللشيوعيين مرجعيتهم السوفياتية فللرجل مرجعيته الليبرالية الغربية المتعايشة مع هوية الشعب الجزائري ولبعده الحضاري العربي البربري الإسلامي والتي لم يتنكر لهما عباس فرحات مطلقا ومرجعيته هذه كانت وسيلة للنضال ولم تكن أبدا وسيلة أيديولوجية لمحاربة مقومات الشخصية الوطنية الجزائرية وفي كتابه ليل الاستعمار يعطينا فرحات عباس سبب تبنيه لفكر عصر الأنوار وهذا ما نجده في قوله: " لنفهم لماذا جيلي، والذي سبقه ركضوا وراء فرنسا الجمهورية الليبرالية، ضد فرنسا المحتلة الظالمة اعتقدنا بأننا نحتاج فقط لإنارة الأولى لتضع حدا للمآسي التي خلقتها فرنسا المحتلة ". ولكنه فشل في تحقيق هدفه هذا والسبب نجده في قوله: " الرأسمالية والاحتلال شيء واحد مرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا، الأول فاعل في باريس، والآخر فاعل في الجزائر، ولا يمكننا أن نكافح ضد ذلك، دون أن نهاجم الآخر " من كتاب ليل الاستعمار .

 

ومن بعد كل ما سبق نصل إلى محطة انضمامه إلى الثورة الجزائرية المجيدة هذا الانضمام الذي قد أثار الكثير من الجدل وإن كان الرائج والمتعارف عليه بين عموم من يعرف الرجل أو يسمع به من أنه قد انضم إلى الثورة الجزائرية نتيجة لعامل الخوف من جبهة التحرير الوطني وهذا خاصة من بعد مقتل ابن أخيه علاوة عباس وإننا وفي ما سوف يأتي من مقالنا هذا سنحاول استجلاء الأسباب الحقيقية الواقفة خلف انضمامه لثورة أو نوفمبر .

 

بداية نقول بأن الحقيقة التي لا يمكن أبدا القفز عليها هي أن عباس فرحات قد كان موقفه رافضا للثورة الجزائرية في السنتين الأولتين منها ذلك أنه كان يري فيها عملا انتحاريا يمكن أن ينتهي كما انتهت به حوادث 08 ماي 1945 وهو هنا لا يدرك أن وضعية ومكانة فرسنا الاستعمارية قد تغيرت إقليميا ودوليا ونحن هنا لا نورد مجرد استنتاجات بل نحن نرتكز على ما جاء في كتاب محمد حربي الثورة الجزائرية سنوات المخاض فهو يخبرنا بأن البورجوازية المسلمة في المدن قد تعودت وألفت النظام الاستعماري إلى درجة أنها لم تعد تدرك هشاشته وهذه القراءة الخاطئة لِـمَا هي عليه فرنسا في العام 1954 هي من دفعت به إلى معادة الثورة في أعوامها الأولى بل نراه ومن خلال زياراته لباريس أو في لقاءاته المختلفة مع المسؤولين الفرنسيين في الجزائر يترجاهم ويطلب منهم تطبيق حزمة من الإصلاحات اللازمة قبل فوات الأوان ولكنهم خيبوا أماله لكونهم أصبحوا على اقتناع تام بأن زمن الإصلاحات قد ولى ولم يبق أمامهم سوى خيار الحرب وهم هنا يكذبون لأنهم يعتقدون بأنهم سيحققون نصرا عسكرا في الجزائر يمسحون به عار هزيمتهم في ديان بيان فو ويفرضون به شروطهم إذا ما اضطروا يوما ما للتفاوض مع الثوار الذين لم يعترف الجانب الفرنسي بهم بعد .

 

وهناك من يفسر موقفه السابق بأنه نتيجة لجبنه وخوفه من فرنسا الاستعمارية وهذا حكم قاس على الرجل ونراه غير موضوعي ذلك أن رده على الحاكم العام الفرنسي للجزائر إيف لاكوست وقال له: سيدي الحاكم الشجعان في الجبل والجبناء أمامك لهي حجة غير كافية لإدانة الرجل كما أن هذا الكلام ليس اعترافا منه بالجبن وإنما علينا قراءته قراءة أخرى لوضعه في سياقه التاريخي فالرجل ونظرا لهضمه لفكر عصر الأنوار قد أصبح مسالما وهذا ليس عيبا أبدا خاصة وإنه مثقف ومن العيار الثقيل مما جعله يمتلك نظرة مستقبلية متبصرة ثم إن الرجل ينطلق من الواقع فهو يعرف تاريخ فرنسا الهمجي والدموي في الجزائر والرجل في ذمته وحسبه طبعا شعب كامل لا يمكن المغامرة به فهو يعرف ما يمكن أن تفعل فرنسا الاستعمارية . كما أن الظروف الدولية كانت هي الأخرى عنصرا هاما في صياغة تحركاته فالرجل قبل 1939 كان يعيش في ظل فرنسا استعمارية متغطرسة لا تراعي حرمة للدماء فكَـيَّــفَ مشروعه وفق هذا الواقع ولكنه ومع تبدل الظروف الدولية مع الحرب العالمية الثانية ونزول الحلفاء بالجزائر لم تبق فرنسا هي اللاعب الوحيد وعليه فهنا خرج من مطلب الإدماج كحل كان يراه لتحقيق حق المواطنة الكاملة للجزائريين لصالح دولة متحدة لجميع الأعراق مع فرنسا ولكن الظروف والواقع سيتغيران مع بروز الكتلة الشرقية واندحار فرنسا في الهند الصينية وتعاظم الحركات التحررية وبالتالي فقد أصبح من الممكن عمليا تحقيق الاستقلال للجزائر وفي نفس الوقت فشل مشروعه الإدماجي الذي قـُـبِـر ومعه مشروع الاتحاد الفيدرالي كما أن الرجل قد شعر بخيانة فرنسا عصر الأنوار له نظرا للتحالف الوثيق بين سلطات باريس وسلطات الكولون في الجزائر كما أنه اقتنع باستحالة دعم فرنسا البروليتاريا لمشاريعه وهنا نقصد فرنسا غير الرسمية وفرنسا الثورية وهذا ما يخبرنا به في كتابه ليل الاستعمار حيث يقول: " بالعكس ما كنت أعتقده لمدة طويلة أن وجود البروليتاريا الثورية، والليبراليين بفرنسا سوف يدعم مطالبنا، لقد خيبت آمالنا " . وهنا لم يُبق الاستعمار ومعه فرنسا الجمهورية للرجل من خيار ثالث سوى الالتحاق بالعمل الثوري المسلح كخيار استراتيجي لاسترجاع السيادة الجزائرية المسلوبة وما يترتب عنها من حقوق طبيعية للوطن ومن عليه .

 

كما يمكن تفسير موقفه المعادي للثورة في بداياتها إلى تكوين الرجل فهو قد كان ضد العنف وأي كان مصدره وهذا ما يصرح به في كتابه ليل الاستعمار فهو يقول فيه: " أكره العنف، وأكره الظلم أكثر، وأنبذ الأقلية المسيطرة، في الجزائر الظلم هو السائد، وجذوره عميقة، فمن العبث أن نحمل المسؤولية لهؤلاء المحتلين السيئين، ونبعد الفرنسيين الآخرين، إنهما متكاملان، المحتلون هم نتيجة ثمار نظام سيئ " وعليه فلا يمكن تفسير تردده في إلى الانضمام إلى الثورة على أنه نتيجة الخوف من فرنسا فقط وإنما كذلك وإضافة إلى العوامل الأخرى المذكورة في هذا المقال نجد أيضا الإحساس المرهف للرجل وكرهه الشديد لكل أشكال العنف وهذا ما يقوله وبشكل صريح في مقاله أعلاه . كما أن المستعمر والمحتل والغازي عنده: " قوة بلا فكر، وجسم بلا روح، جاء بالسيف في يده وبالمدفع والخنجر استقر وأصبحت البلاد له " وهذا الكلام نقتبسه من كتابه الشباب الجزائري ولذلك فالرجل لا يريد أن يتماهى معه في هذا الجانب ولكنه دفعه صوب هذا الاتجاه دفعا وكلنا يعلم بأن عباس فرحات فكر وروح وليس كالكولون جسد بلا روح وبطون منتفخة كما يصفهم بذلك الرئيس الفرنسي فانسان اوريول Vincent Auriol 1884 - 1966 .

 

ويمكننا القول وبكل اطمئنان بأن انضمام الرجل إلى الثورة التحريرية الكبرى قد جاء وهذا من بعد أن أحدث قطيعة كاملة مع معتقداته السياسية السابقة والتي عول عليها قبل العام 1956 فحتى الأصوات المعتدلة في فرنسا قد خذلته ولذا فها هو يصرح بأن: " صفحة من حياتي قد طويت، وانتهت لغة الحوار بين الفرنسيين والمسلمين، ولم يبق إلا الجهاد مع إخواننا في جبهة التحرير الوطني من أجل شرف وطننا " ولهذا فالرجل قد طلق أفكاره الإدماجية والفيدرالية وبصورة نهائية ودلينا هنا ما جاء في كتاب عز الدين معزة المذكور أعلاه وهذا في معرض تعليق عباس فرحان على المفاوضات مع فرنسا فها هو يقول: " إن مطالب المجاهدين في الجبال كثيرة، فهؤلاء عانوا كثيرا، أتريدون مني أن أخدعهم ؟ و أجري مفاوضات بدون ضمانات كافية، لكي يقولوا علي هناك: انتهى عباس العجوز، ها هو قد عاد إلى أفكاره الأولى، وهي الوفاق مع فرنسا بأي ثمن. " .

 

نعم إن الرجل قد تغير وبصورة جذرية على الأقل في المجال السياسي فحتى نصائحه للنظام الاستعماري لم يعرها هذا الأخير أدنى اهتمام فعباس فرحات ومن خلال دراسته للتاريخ الروماني في الجزائر واستنتاجه بأنه قد فشل وأفلس وانهار في الأخير وهذا على عكس الفتح الإسلامي والذي يراه ناجحا ولذا فقد نصح فرنسا الاستعمارية بضرورة تقليد العرب لا الرومان وما دامت فرنسا لم تستمع لنصيحته فهذا جعله يبتعد عنها لصالح النموذج الآخر نموذج الثورة لأنه لا يمكن له أن يبقي يسير خلف نموذج ظالم وفاشل وهذا الكلام يخبرنا به هو ذاته في كتابه الشباب الجزائري .

 

نعم إن فشل كل مظاهر سياسة الإدماج والمقترحة من الجانبين الجزائري والفرنسي وعلى رأسها إصلاحات 1919 ومشروع بلوم فيوليت 1936 ومن قبرها هم الكولون دوما والذين يفتخرون بوقاحة وبصلافة من أنهم استطاعوا قبر إصلاحات بلوم فيوليت وهذا ما يخبرنا به أبو القاسم سعد الله في كتابه الحركة الوطنیة الجزائریة حيث جاء فيه: " كان مصير المشروعين الفشل، نتيجة تحرك المعمرين وضغطهم الممارس على الإدارة رافضين أي تغيير للواقع القائم، هذا الواقع الذي جعل منهم سادة في الجزائر ... " ولهذا فهم لم يتركوا أمام عباس فرحات من منفذ لإنقاذ شعبه سوى الالتحاق بالثورة وبالثوار . والحق يقال بأن الرجل قد حاول عبثا إقناع فرنسي الجزائر بعدالة مطالبه ومشروعية تطلعاته إلى الانضمام إلى العائلة الفرنسية وهذا كما جاء في كتابه ليل الاستعمار وفي كتاب أبو القاسم سعد الله السابق الذكر ولكنه فشل فلم يجد من مخرج سوى الانضمام للتيار الاستقلالي بزعامة جبهة التحرير الوطني وليصبح بذلك أحد ابرز رجالاتها .

 

كما أن المؤرخ محمد حربي يخبرنا بأن الشباب الجزائري يئس من فرنسا ومنهم فرحات عباس - ونحن هنا وصلنا إلى محطة الثورة الجزائرية أين لم يعد عباس فرحات شابا - وعلى الرغم من سقوطهم أي الشباب الجزائري في أحابيل الاستعمار إلى حد التشكيك في تاريخ بلادهم إلا أن هذا لم يجردهم من صفة الانتماء إلى شق المنهزمين وبالرغم من رفعهم لمبادئ ثورة 1789 إلا أنه كان من المستحيل التوفيق بينها وبين القهر والتعسف والميز العنصري ؟ فهذا التناقض سيرتد والكلام دوما لمحمد حربي ضد الاستعمار وسيكشف القناع عن وجهه الحقيقي . وهو نفس العامل الذي سيسرع عملية تغير قناعات عباس فرحات مع صدمته في فرنسا الجهورية وفرنسا الطبقات الكادحة وفرنسا المقاومة وهذا ما نجده في قوله من أنه ولمدة طويلة كان يعتقد: " أن وجود البروليتاريا الثورية، والليبراليين بفرنسا سوف يدعم مطالبنا، لقد خيبت آمالنا . " . ولهذا فانضمامه للثورة ليس بالأمر المستغرب أبدا .

وهناك من يتساءل كيف استطاع فرحات عباس أن يحل حزبه " الاتحاد الشعبي الجزائري" في أقل من 24 ساعة ويلتحق بالجيش الفرنسي ليدافع عن فرنسا وهذا عقب اندلاع ح ع 2 في حين أنه بقي يفكر عاما ونصف العام حتى التحق بالثورة الجزائرية وتفسير هذا نجده في ما يخبرنا به الرجل نفسه فهو يقول بأنه قد تطوع في الحرب ليدافع عن القيم الديمقراطية والجمهورية التي يؤمن بها وتلك الأفكار أصبحت لتلك النخبة المتفرنسة ومنهم عباس فرحان بمثابة الدين وهذا الكلام نقتبسه من كتاب محمد حربي الثورة الجزائرية سنوات المخاض وعليه فلم يكن من السهل عليه أن يتخلي عن قناعاته بسهولة والهجرة صوب جبهة التحرير الوطني وعقيدتها الاستقلالية فمن طبع الإنسان التمسك بعقائده حتى ولو اقتنع بخطئها وعدم صدقيدتها ومن الصعب عليه التنازل عنها بسهولة فهو كان لا يؤمن بالعمل العسكري كحل للقضية الجزائرية وإنما الحل يراه في أسلوب البروليتاريا الأوروبية ضد همجية الرأسمالية الجبارة والكلام الأخير ننقله دوما من كتاب محمد حربي المذكور أعلاه .

إن مسألة قتل ابن أخيه عباس علاوة عباس في قسنطينة على إثر هجومات 20 أوت 1955 قد تجاوزها عباس فرحات حيث اعترفت قيادات الثورة سواء في القاهرة أو الجزائر وعلى رأسهم عبان رمضان والذي أقر له وجه لوجه بذلك الخطأ وعليه فهو قد تجاوز أصلا تلك الحادثة وأصحاب هذا الطرح يزيفون الحقائق ويظهرون للقارئ كأنه كان متخفيا وتحت الحماية الفرنسية خوفا من اغتيال الثورة له وهو كلام ينافى الواقع فالرجل كان يزوره قادة الثورة في بيته قبل انضمامه لها وقدم لعبان رمضان مبلغ 2 مليون فرنك فرنسي وهو مبلغ ليس بالهين في تلك الفترة ومعه حقيبة أدوية . وكذلك الحال في فرنسا فالرجل كان على اتصال مباشر بالثورة وهذه الأخيرة ليست من مصلحتها أصلا خسارة عباس فرحان لأن انضمامه لها سيعطي لها شرعية كبرى وسوف يوسع قاعدتها وقاعدة المتعاطفين معها داخليا وخارجيا فالرجل وزنه ليس بالقليل وهذا ما تحقق لها فعلا ومن يروج لهذا الطرح فهو ليس على دراية كافية بالمسار النضالي للرجل قبل انضمامه للثورة .

 

ولو كان الخوف هو من جعله يلتحق بجبهة التحرير الوطني وبالثورة الجزائرية أو أن قتل ابن أخيه من قبل الثورة هو العامل الحاسم في التحاقه بها فهذا ظلم للرجل فمن هُـدِّدَ أكثر من قبل الثورة الجزائرية أعباس فرحات أم الباشاغا بوعلام والذي فقد 17 فردا من أفرد أسرته ومع ذلك لم يلتحق بالثورة الجزائرية وبقي أسيرا لأفكاره الخاطئة والتي مفادها أنه لا يمكن هزم فرنسا عسكريا أبدا مع رغبته في أن يكون فرنسيا . في حين أن عباس فرحات كانت تحركه عوامل أخرى جعلته يهاجر صوب معسكر الثورة وهي إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه فالرجل قد أصبح على اقتناع تام باستحالة إصلاح أو تغيير الأوضاع في الجزائر المستعمرة لكونها نتاج نظام سياسي سيء يجب القضاء عليه وإحلال محله نظاما بديلا له . نظام ديمقراطي ليبرالي يراعي الحقوق الأساسية للإنسان وبالتالي فهو قد اقتنع بأن لا حل للمعضلة الجزائرية إلا بالعنف الثوري النظيف لأنه يستحيل شفاء هؤلاء الغزاة من الفكر الاستعماري في حين يمكن شفاء مريض من مرض السرطان وهذا كما جاء في كتابه ليل الاستعمار خاصة وأنه قد راهن على أن: " السلام والإخاء، هما المستقبل الذي يجمع الجزائريين المسلمين، والأوروبيين المحتلين وهذا كما جاء في كتابه الشباب الجزائري ولكن الكولون كانوا وعلى الدوام يجهضون كل محاولة في هذا الاتجاه . وعليه فبقدر ما كان عباس فرحات يبتعد عن المجموعة الفرنسية في الجزائر بقدر ما كان يقترب من التيارات الوطنية الجزائرية فهو يشترك مع كلا الطرفين في أرضية مشتركة تقلصت وانكمشت تلك التي تجمعه بالجزائر الفرنسية لحساب تلك التي تجمعه مع الجزائر الجزائرية خاصة وأنه لا مشكلة له مع أهداف التيارات الوطنية والإصلاحية الجزائرية والتي انصهرت كلها تقريبا في جبهة التحرير الوطني فلما يأس الرجل من الجزائر الفرنسية كان سهلا عليه الارتباط بالجزائر الجزائرية والانضمام إليها والتي يلتقي معها في جل الأهداف كوضع حد للنظام الاستعماري كأولوية الأولويات ثم إخراج الشعب الجزائري من بؤسه المفروض عليه وهو الذي ربط مصيره به حتى أنه رفض التجنيس - مع أن كل الشروط متوفرة فيه - ولكن ومن دون شعبه البائس فهو لا يريده وكان له ما أراده وهذا عقب انضمامه إلى الثورة التحريرية المباركة .

 

كما أن الرجل قد اعتذر وتخلي عن مقولاته السابقة ومن دون أي ضغط أو إكراه وكان يمكن أن يستقر في فرنسا مع زوجته الفرنسية أو يرحل مع المحتل بعد استعادة السيادة الوطنية المغتصبة . كما أنه لو تراجع عن معتقداته بعد الاستقلال لقلنا بأنه قد غير جلده تماشيا مع ظروف المرحلة لكونه انتهازيا ولكنه كان ضحية مغالطة مفادها أن الجزائر امتداد جغرافي طبيعي لفرنسا . وهنا علينا أن نفرق بين عباس فرحات التلميذ والطفل الصغير المنبهر بأضواء فرنسا الاستعمارية وعباس فرحات الشاب ثم الكهل الناضج المتعقل فالشيخ الحكيم فها هو يعلنها صراحة بأنه قد كان مخطئا في العام 1936 وهذا حينما نفي وجود الوطن الجزائري ولذلك فها هو يتوب ويتراجع عن هذه الخطيئة وهذا عندما يقول: " إن الوطن الجزائري الذي لم أجده سنة 1936 في أوساط العامة من المسلمين وجدته اليوم " ولذلك فقد أسس إتحاد الشعب الجزائري واسم هذا الحزب هو ترجمة حرفية لقناعات الرجل الجديدة ولهذا فهو قد بدأ وبصورة تدريجية يتخلص من قناعاته السابقة لصالح قناعات جديدة ستتوج بالانضمام إلي الثورة التحريرية المباركة وبالتالي فحصر سبب انضمامه للثورة التحريرية المجيدة في خوفه منها لهو قول مضلل وغير مقبول وهو يعبر عن جهل أصحابه بتاريخ الرجل النضالي الممتد لأكثر من 30 سنة قبل الثورة أو هو بغية تحقيق أهداف مغرضة كما هو الحال مع ديغول فيما بعد والذي حاول الحط من قيمة الرجل بقوله: " لم أتكلم بلغة عدوي، ولم أتزوج بعدوتي، ولم أبحث عن تاريخ أجدادي في المقابر " .

 

وإننا نجد بأن الرجل ومع الزمن بدأ وبقدر ما يبتعد عن أطروحة الإدماج بقدر ما أصبح يقترب من الجزائر الجزائرية والحركة الوطنية الجزائرية ليصل إلى آخر محطة ألا وهي الطلاق التام بينه وبين مقولة الإدماج لصالح فكرة الاستقلال التام والذين يلومون عباس فرحات على حماسه لفكرة الإدماج يقفزون على الواقع فالرجل وبشهادته هو وجيله قد كانوا ضحايا أسطورة وسحاب من الدخان المظلل ومن المستحيل أن ما غرسه الاستعمار طوال قرن من الزمن يمحى في لمح البصر فلسنا في زمن المعجزات زمن بولس الرسول والذي انتقل من عدو المسيحية الأول إلى رسولها الأول فهذا العصر قد ولى وإلى الأبد إن كان قد وجد أصلا ولكننا في زمن كان يحكمه الواقع المادي والمصلحي البراغماتي لا في العالم السحري عالم الغيبيات والروحانيات .

 

ومن جهة أخرى فإن تعنت الكولون ووقوفهم في وجه أدني الإصلاحات التي يمكن أن تقدم للجزائريين قد كان هو الديناميت الذي سيفجر سياسة عباس فرحات الإدماجية ويجعله يهاجر وبصورة نهائية وبلا رجعة لصالح ضفة المطالب الاستقلالية وهذا ما نجده في قوله في كتاب ليل الاستعمار من أن: " الطريقة التي ترتكزون عليها ستؤدي بدون شك إلى زوال الأمل وسينتج عنها الطلاق، وعلى الحكومة الفرنسية أن تكون مسؤولة أمام التاريخ " . وما زاد من تسريع وتيرة إجراءات الطلاق بينه وبين فرنسا هو خيبة أمله وخروجه صفر اليدين من الحرب العالمية الثانية بل إن نتائجها قد كانت عكس ما أمل من إنهاء للنظام الاستعماري وزادت مجازر 08 ماي 1945 من تعميق الهوة بين الطرفين في ظل وجود الكولون الضعاف سياسيا والمنحطين أخلاقيا بتعبيره هو شخصيا فكان انضمامه للثورة التحريرية أمر مفروغا منه وهو مسألة وقت لا أكثر .

 

ولذلك لا يجب أن نتجه صوب التفسير الأسهل لسلوكيات الرجل فهو لم يكن خائفا على نفسه بل كان مرعوبا مما يمكن أن يفعله الاستعمار الفرنسي بشعبه خصوصا وأن ذكريات القرن التاسع عشر المليئة الدماء والجروح النازفة قرن الأحزان كان من نصيب الجزائريين وهذا كما جاء في كتابه الشباب الجزائري فهو يقول: " إن القرن الذي مات كان قرن الدموع والدماء ونحن الأهالي بالخصوص من بكى ومن نزف وعليه فإننا ندفنها بلا أسف ولا فرح " ولذلك فهو لا يريد أن تمر أيام جديدة عصيبة على شعبه كتلك الأيام وهو الرجل المثقف وذو الإحساس المرهف والمصقول بفعل فلسفة عصر الأنوار والتي من يعتنقها لا بد أن يكون إلا على شاكلة عباس فرحات ولذلك فهو قد أراد أن يعيد لشعبه الحرية المسلوبة ويسترد له حقوقه المصادرة وبأقل الخسائر الممكنة ولذلك فقد كافح وناضل قرابة الثلاثين عاما لأجل تحقيق تلك الأهداف . ولكن فرنسا الاستعمارية قد خيبت آماله فزيادة على التقتيل الهمجي والوحشي لشعبه مع غطرسة الكولون فها هي تقطع أي طريق سلمي أمامه وأمام الشعب الجزائري وذلك عبر تزوير الانتخابات ومنها انتخابات 1948 ثم انتخابات جوان 1951 فلم يبقي للرجل من طريق يسلكه سوى الانضمام للثورة التحريرية الكبرى . وهذا ما نجده في قوله: " إن تنازلت باريس أمام الأوليغارشيات المالية، وأظهرت ضعفها ووهنها بخصوص وعد فرنسا واحترام القانون الفرنسي و تطبيقه، فانه لن يبقى أمام الجزائريين سوى الاختيار بين السجن أو الجيل " وهذا الكلام نقتبس من كتابه ليل الاستعمار وبالفعل فقد صعد الجزائريون إلى الجبل لأن كل الطرق قد سُـدّتْ أمامهم ونحن كلنا نعرف تلك التصريحات الرعناء والتي أطلقها مسئولو فرنسا الرسمية عشية اندلاع ثورة أول نوفمبر ولعل أبرزها ما صرح به فرانسوا ميتران وزير الداخلية حيث قال بأن المفاوضات الوحيدة هي الحرب فماذا بقي للرجل غير الانضمام إلى الحرب والتي فرضوها عليه فرضا .

 

كما أنه ليس من حقنا أن نبنى استنتاجاتنا اعتمادا على قراءتنا الذاتية للرجل وإنما الرجل كَـتَـبَ بما فيه الكفاية وبشكل صريح لنعرف مواقفه وكيف تطورت ولا داعي لكي نبني مجدنا الشخصي فهذا ليس من النبالة في شيء على حساب الرجل فعملنا هذا وشاية ونميمة ودعاية مغرضة وحديث مقاهي حتى ولو ألبسناه لباس العلمية وعليه فليس من حق من يختلفون مع الرجل عقائديا من اشتراكيين وشيوعيين وممن ينتمون إلى الإسلام السياسي أن يقيموا للرجل محاكمات وبأثر رجعي معتمدين مرحلة ما من حياته دون النظر إلى مسيرته ككل وكأن الرجل ما زال يعيش بيننا وينادي بضرورة تطبيق برنامجه . ولذالك وجب علينا إحياء ماضيه لنقطع عليه الطريق هذا هو عين العبث لأن برنامج الرجل قد طواه التاريخ وإلى الأبد وهو لا يهم اليوم إلا الدراسات الأكاديمية المتخصصة . ومهما انتقدنا الرجل ومهما عددنا سلبياته فلا يمكن لأي أحد منا أن يطعن في ولائه لوطنه ولشعبه ولدينه وللغته العربية هذه الأخيرة والتي لم يكن يحسنها لفرض اللغة الفرنسية عليه فرضا من قبل النظام الاستعماري والذي كان عباس فرحات عدوا له وفي نفس مستوى عداء مصالي الحاج والعلماء وإن اختلفوا في كيفية التعاطي معه وفي الآلية التي يجب اتخاذها للقضاء عليه .

 

وهناك تيار آخر كما لو أن أصحابه لا يحلو لهم إلا النبش في القمامة كما يقال وكأن هناك ثأر بينهم وبين الرجل فمنهم مثلا من يدعي بأنه كان له قدرة عجيبة على التلون وبالتالي فهو كالحرباء يغير لونه وجلده حسب الظرف والطلب والحاجة وهذا طعن صريح في وطنية الرجل وفي شخصه فهو حسبهم رجل انتهازي يركب الموجة ليحقق مصالحه وهي نظرة قاصرة سببها عدم الاطلاع الكافي على قناعات الرجل وأسلوبه في النضال فتلك الاتهامات أي الانتهازية والتلون المصلحي يرفضها عباس فرحات ويمقتها ويحتقرها ويزدري أصحابها وهذا ما نجده في معرض حديثه في كتابه ليل الاستعمار عن المعمر موريل ومن معه ممن شكلوا اللواء الفاشي في الجزائر على عهد حكومة فيشي ثم سرعان ما قلبوا لها ظهر المجن بعد نزول الحلفاء بالجزائر في نوفمبر 1942 كما أن الرجل كان يحتقر الجبن والخوف وهذا ما يظهر جليا عند حديثه عن بني وي وي والذين يصفهم بالإذناب المارقين الذين استحوذ عليهم الخوف والجبن ألا يعلم عباس فرحات بأنه ومتى انتهج أسلوبهم ذاك كان سقوطه الحر وأن في هذا الأسلوب انتحاره هو وتياره وعليه فمصلحته تفرض عليه أن لا يكون من ذلك الصنف .

إن الرجل وإلى غاية 1954 كان يأمل في أن تلبى فرنسا الجمهورية مطالب الجزائريين العادلة فها هو في العام السابق الذكر يخبرنا بأنه وأثناء زيارته لباريس قد التقى بالجنرال جوان وتفهم هذا الأخير مطلب قيام جمهورية جزائرية ولكنه أخبره بأنه ولكي ترى النور فلا بد من أن يوافق عليها الكولون وهكذا وصل الرجل من جديد إلى طريق مسدود ورجع إلى أول مربع مرة أخرى وما كان له أن يتقبل هذا العبث الغير منتهي وهنا تأكد الرجل من استحالة قيام الجمهورية الجزائرية من دون عنف ثوري نظيف وفي مقابل أهداف فرحات عباس هذه فإننا نجد برنامج مضاد للكولون وفيه يكفرون بالمبادئ التي يناضل في إطارها الرجل كالديمقراطية والانتخابات والتي هم يريدونها متى خدمت مصالحهم وفقط لا تلك التي يتساوون فيها مع 07 ملايين من الراطون هؤلاء الكولون الذين يتفاخرون بانتهاكهم للقانون وبتمييع للمطالب المشروعة للجزائريين فمطلب المساواة عندهم قد تحقق من خلال التمثيل النيابي وهذا كذب واستخفاف بنضال الجزائريين واحتقار لهم وأي مساواة هذه والتي يتساوى فيها 10 ملايين جزائري بكمشه من الكولون وأي مساواة هذه في برلمان يقوم على الفصل العنصري في غرفتين وأي مساواة في ظل تلك الترسانة من القوانين الاستثنائية ؟ وكيف التعامل مع نظام استعماري لا يخضع إلا للعنف ولا يستسلم إلا للقوة كما يخبرنا بذلك في كتابه ليل الاستعمار .

وها هو الرجل يستفيق من أحلام الشباب كما يقول تلك الأحلام التي ارتطمت بصخرة الحقائق المرة أين فولتير Voltaire ومونتيسكيو Montesquieu وديدور Diodore ؟ أين مبادئ ثورة 1789 ؟ وأين , وأين لقد كنس الجميع النظام الاستعماري وداس القانون ليحافظ على مصالحه ولهذا فقد اقتنع الرجل بأنه من العبث أن نكون نحن حزبا تقدميا يحترم القوانين التي كانوا هم أول من داسها . ولذا وحسبه دوما فالجزائر قد كانت تقف فوق فوهة بركان وأن ساعة القيام بعمل إيجابي قد دقت . ذلك أن الرجل لم تعد له ثقة في رشد الفكر الفرنسي نفسه ذلك الفكر الذي أصبح في نظره عاجزا ومفلسا مما أدى إلى تدابر الجزائر وفرنسا منذ العام 1948 وطبعا عباس فرحات مرتبط وبصورة عضوية بشعبه وحيثما كان الأخير فسوف ينحاز له وللجزائر وما دام شعبه قد انحاز إلى صف الثورة التحريرية فقد انضم هو الآخر إليها بسبب كل ما تقدم ذكره وبهذا كان الطلاق البائن بينه وبين فرنسا .

 

وفي هذا الجزء الأخير من مقالنا هذا فنحن نأمل بأن تكون نظرتنا للرجل موضوعية ولو بشكل نسبي بعيدا عن النظرة العاطفية والتي كثيرا ما توصلنا إلى أحكام مظللة وخاطئة حوله لست حتما من مصلحة الوطن والشعب اللذين نذر فرحات عباس حياته لهما .

 

فهو يخبرنا في تصديره الخاص بكتابه الشباب الجزائري بما يلي: " إن ما بين زمن شبابنا الأول والزمن الذي نعيش فيه اليوم عالم قد انهار وآخر مختلف قد برز أمام أعيننا لقد كسح التاريخ المخططات الكئيبة لأوروبا الاستعمارية ... " والرجل في الفترة ما بين الحربين قد كان مكبلا بسطوة ذلك النظام القائم وبتلك المخططات الاستعمارية الكئيبة والتي لم يكن هناك صوت يعلو على صوتها ولذا وكنتيجة لعجزه التام عن مواجهتهما فقد تكيف مع هذا الواقع ولذالك فهو قد كان يرغب في أن يحصل من المستعمر الغاصب على إصلاحات عميقة كفيلة بعلاج حالة اليأس لدى شعبه والكلام الأخير لعباس فرحات . وعليه لا يمكن قراءته بأدوات حقبة ما بعد الاستقلال أي ما بعد 1962 وخصوصا من قبل ما سيعرف بالإسلام السياسي الخانق على الرجل والمعادي له وهو تيار معاق ذهنيا وفكريا ومفلس أيديولوجيا وثقافيا ولا من قبل ممن يجرون وراء أوهام وطوباويات ماركس بل يجب قراءته وفق معطيات عصره ونحن هنا لا ندافع عن الرجل فتاريخه هو خير مدافع عنه ولكننا ضد النظرة القاصرة أو النظرة الغائية والمغرضة للأمور بهدف تحقيق مكاسب ذاتية وآنية عبر الإساءة للآخرين فهذا منهج غير أخلاقي يعبر ويخبر عن إفلاس صاحبه وعن عهر سياسي وفكري فهو ليس لديه ما يعرضه على الناس من مشاريع فيغطي هذا العجز بانتقاص وشتم الآخرين والتعريض بهم وعليه فنحن نقول بأنه لمن الظلم له عندما نقرأه قراءة خاطئة تخرجه عن سياقه الطبيعي فها هو الرجل يتفهم في تقديم كتابه الشباب الجزائري تلك التهم التي تكال إليه ويرد عليها ردا نراه موضوعيا لمن يريد الاطلاع على الموضوع أكثر .

 

ولعل تفسير هذا نجده فيما يخبرنا به الفقرة التالية: " إن مدلول التاريخ الجزائري منذ الاستقلال، ترك البعض يشككون في معظم المثقفين الجزائريين، الذين تلقوا تكوينهم في المدارس الفرنسية وجامعاتها حيث اتهمهم الجزائريون المعربون بأنهم كانوا خطرين ومنافقين لأنهم قاموا بتغطية حقد فرنسا على الجزائريين، إنه اتهام خادع لجأ إليه هؤلاء الأتقياء الذين يشبهون الجزويت، أصحاب النظرة الضيقة … كان ذلك مستبعدا لدى معظم الطلبة المتخرجين من الجامعات الفرنسية … لم يحمل هؤلاء الشباب الجزائري الإحساس بأنهم فرنسيون إلا للضرورة من أجل الدفاع عن الحقوق والمساواة " . ونحن نقتبس هذا الكلام من كتاب عز الدين معزة المذكور أعلاه .

 

كما أننا وبأحكامنا السابقة نظلم عباس فرحات وننسب له تهما هو بريء منها ولنا المثال التالي جمعية العلماء المسلمين اهتمت بتعليم الجزائريين ولذا فقد أولت في مشروعها الإصلاحي أهمية كبرى للجانب التعليمي لماذا لأن التعليم هو من سوف يحرر الفرد من سيطرة الخرافات والشعوذة ومن قبول الاستعباد والرضوخ له وهذا لعدم معرفة الفرد لحقوقه وواجباته والتعليم هو الرهان الوحيد الذي كان سينهض بالشعب الجزائري ويخرجه مما يعاني منه من بؤس ومن حياة لا فرق بينها وبين حياة البهائم بتعبير عباس فرحات نفسه وعليه فلا مكان في الجزائر لغالب ومغلوب ولا لسيد وعبد أو لخماس وهذا في ظل وجود التعليم وتلك الأهداف التي سطرتها جمعية العلماء المسلمين والسابقة الذكر هي نفسها التي سطرها وناضل لأجلها عباس فرحات وراهن على عنصر التعليم في تحقيقها ولكن الاختلاف بينه وبين العلماء هو أن الشيخ ابن باديس قد كان اتجاهه عربي إسلامي في حين اتجاه عباس فرحات قد كان ليبرالي مفرنس ولكن في الحقيقة فإنه لا يوجد حد فاصل بينهما في هذا الأمر ولكن الاستنتاج المظلل هو من دفع صوب هذه النظرة الخاطئة للرجل فالجمعية لا تتخذ موقفا معاديا من العلوم المدنية الحديثة ولا عباس فرحات يتخذ موقفا معاديا من حضارة الشعب الجزائري ودينه ولغته العربية والدليل أنه وضمن برنامجه يطالب دوما بأن تكون العربية لغة رسمية ولغة للتدريس في الجزائر جنبا إلى جنب مع اللغة الفرنسية وهذا ما نجده في بيان الشعب الجزائري لشهر فيفري 1943 والذي كان قائما على صياغته ومن أبرز مطالبه الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية بجانب اللغة الفرنسية وهو نفس مطلب الجمعية ومصالي الحاج فلماذا التجني فقط على فرحات عباس والكل يلتقي في أرضية مشتركة واحدة مفادها ضرورة احترام حضارة وهوية الشعب الجزائري مع ضرورة الأخذ بالمعارف الحديثة . نحن نعتقد أن الموقف من الرجل تغذيه خصومة سياسية وأيديولوجية تهدف لتحقيق مكاسب ومنافع اقتصادية وأمجاد اجتماعية والقراءة الموضوعية للرجل قد كانت وتكون كفيلة بتجاوز أحكامنا المسبقة حوله .

 

ثم لمَا نبقي فقط نلوم الرجل وكأنه قد ارتكب جريمة وننظر له وكأنه مدان وإلى الأبد ولذا وجب عليه أن يعتذر إلى ما لا نهاية وعليه دوما أن لا يظهر في الصورة وأن يبقى على الدوام في الخلفية كالعاهرة التي جلبت لأهلها العار الأبدي والأمر خلاف هذا تماما فالرجل ظلم حيا وميتا ونحن هنا لا ندافع عن عباس فرحات بقدر ما نحن ندافع عن حق الاختلاف والتنوع في التواجد على الساحة لأن الذي ينزع شرعية التواجد ويقصي فرحات عباس سينزع عني وعنك وعنا وعنكم شرعية التواجد أيضا ويقصي الجميع . إن الساحة الجزائرية وخلال الربع الأول من القرن العشرين قد كانت غنية وثرية جدا ففيها المحافظ كعبد الحليم بن سماية وفيها نواة ما سيعرف بالتيار الإصلاحي كابن باديس وجماعته وفيها الشيوعي الماركسي من أمثال عمار أزقان وفيها التيار الاستقلالي مع مصالي الحاج وهنا علينا أن نتساءل هل الجزائر قد كانت في تلك الحقبة بدعا ؟ إن الجواب الأكيد هو لا فالعالم في تلك الحقبة كان في حالة مخاض وغليان فالثورة البلشفية وما أفرزته والحركات الفاشية وصراخها وضجيجها اللذان يملأن الدنيا ونظام استعماري يصارع لأجل البقاء نحن في عالم حي يتحرك عالم تحكمه الأفكار المتجددة في مقابل تقاليد مورثة عالم فيه الهجرة تتم يوميا من ضفة هذه الفكرة إلى ضفة الفكرة المقابلة أو المعارضة لها وهذا تدافع يمتدحه ويستحسنه حتى القرآن الكريم ذاته ولكن المشكلة هنا تكمن في أن ننظر دوما إلى الآخر من زاوية التكفير الديني أو التخوين باسم الوطن والوطنية أو من زاوية الفسق والعهر والقبح باسم الموروث الأخلاقي وهي كلها معايير نسبية غير ثابتة وكلها وللأسف الشديد كان ضحيتها عباس فرحات مجتمعة أو منفردة وهذا حسب الظرف التاريخي الذي يستدعيها في لحظة ما كلها أو بعضها والجزائر وعباس فرحات لم يكونا بدعا في هذا فكل دول العالم قد عرفت في تلك الفترة كم هائل من الأفكار المتصارعة وكلها تريد اكتساب قاعدة شعبية عريضة تضمن بها الانتشار الواسع مما يجعلها تجسد مشاريعها على أرض الواقع .

 

والذين يحاسبون عباس فرحات وينتقدونه ممن يعاصرونه في الفترة ما قبل 1956 يظلمون الرجل ويطلبون منه أن يكون بشرا فوق البشر . وربما يرجع هذا لعدة أسباب فالرجل كان عملاقا وجبارا وأوسع انتشارا في فترة ما حتى من ابن باديس ذاته وبالتالي فالكل كان يطمع ويأمل في أن يجذبه إلى صفه وهذا ما سيجعله يستقوي به على أعدائه وخصومه ويعطيه شرعية أكبر ودلينا هنا هو أن الثورة التحريرية المباركة ذاتها قد استنجدت به في مرحلة عصيبة من حياتها وعينته أول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة ثم هو من أشرف على وضع مسودة أول دستور للجزائر المستقلة وبالتالي فالرجل لم يكن عاديا والكثير كان ينظر له نظرة غيرة وحسد ممزوجة بحلم امتلاكه وامتلاك ميراثه النضالي الثري ومهما اختلف أو اتفق معه . هذا من جهة ومن جهة أخرى فهم يفصلون الرجل وبصورة فضة ومتعسفة عن الواقع المعاش وكأنه حي بن يقضان أو نبيا وكان يجب عليه أن ينسرب من ذلك الواقع والذي كان في لحظة ما يبدو وكأنه قدر العالم وسيبقي هكذا وإلى أن ينزل المسيح مرة ثانية في نهاية التاريخ وهذا ظلم للرجل ونحن ربما لا نلوم أصاحبه عليه وهذا نظرا للاختلاف في الخلفية الفكرية والتربوية والأيديولوجية والتي يحتكم إليها كل طرف من الأطراف .

 

كما أن المسألة معقدة جدا ومن السذاجة حصرها في مقولة تفوه بها عباس فرحات في لحظة غاب فيها الوعي وعدم القدرة على التمييز وهذا نظرا لقوة سطوع الأنوار الآتية من الضفة الفرنسية خاصة وأن فرنسا عنده هي شعلة الحضارة في فترة ما مما حجب عنه وهو الشاب الطري والغير محصن معرفيا وفكريا بما فيه الكفاية وهو أيضا الشاب المقبل على مفاتن المدنية الفرنسية والتي لم يشعر فيها مطلقا بالغربة والمورث الجزائري من حوله حطام ورماد فالرجل ولا نشك في هذا أبدا قد كان يريد الخير للجزائر وللجزائريين فهو لم يتخل مطلقا عن قيم شعبه الروحية والحضارية ولكنه كان يريد أن ينتشل شعبه من الوضع المزري الذي آل إليه وهذا من بوابة الثقافة الفرنسية في شقها العلمي وفي إطار مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وهي كلها مفقودة أو عاجزة عن التعبير عن ذاتها في مجالنا المدروس اليوم في مجتمعه ونظرة الرجل هذه صائبة مئة بالمائة فعلينا أن نفرق بين الجانب المادي والروحي في موروثنا وموروث الآخر فهذا شأن ديني والشق الآخر أي الجانب العلمي التقني شأن دنيوي مشاع وملك مشترك لجميع العائلة الإنسانية وموجز القول أنه يجب علينا أن نأخذ الأمور في سياقها التاريخي فنحن لسنا في 2015 بل في النصف الأول من القرن العشرين .

 

وهذا التوجه من عباس فرحات كان ينظر إليه من قبل المحافظين على أنه انحراف خطير وخيانة وتلويث للموروث الحضاري للشعب الجزائري لأن هذا الأخير هو آخر طوق نجاة له وآخر خط وحصن دفاع يمكن به وعبره أن يسترجع هويته التي كاد الاستعمار أن يمحوها ومعها يسترجع سيادته التي صودرت منه وما يتبعها من حقوق مشروعة سلبت واغتصب هي الأخرى منه بالقوة ونحن هنا نتحدث عن جزئية من مشروع فرحات عباس وليس عن مشروعه ككل خاصة وأن هذه الفترة تمثل حقبة انبعاث الحركة الوطنية الجزائرية وما صاحبها من مشاريع متناقضة أحيانا نظر للاختلاف الجوهري في منابعها فهذا مرجعيته إسلامية والآخر ماركسية والآخر ليبرالية علمانية فمن الطبيعي أن يحدث مثل هذا التراشق ومثل تلك المعارك بين كل تلك الاتجاهات المختلفة والرجل قد كان ينطلق من فلسفة عصر الأنوار ومن الواقع المعاش في الفترة ما بين الحربين وقبل العام 1956 ولذلك فقد كانت أهدافه وكما يخبرنا أبو القاسم سعد الله في تقديمه لكتاب الشباب الجزائري هي تكوين دولة قوية على غرار اليابان وفرنسا وربما المعطيات التي توفرت له كانت غائبة عن زعماء بعض التيارات الأخرى وربما هذه المنطلقات هي سبب سوء فهمنا للرجل ولئن كانت حقا هذه هي أهدافه فأنى أن يفقهها أن يعتنقها بعض خصومه وهم من يتطلع إلى الماضي إلى دولة دينية غلى غرار دول العصور الوسطي والعهود العثمانية وحتى مفهومهم لما يصبون له ونتيجة لسياسة التجهيل فهو مفهوم مشوه وطوباوي جاء كرد فعل على الواقع المعاش المزري والمر في حين هو كان يتطلع إلى دولة المستقبل دولة حديثة ليبرالية وعصرية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان يكون فكر الثورة الفرنسية وفكر عصر الأنوار هما ركائزها مع احترام هوية الشعب الجزائري وحضارته ونحن وإلى غاية يومنا هذا نرى بأن رؤية فرحات عباس هذه هي رؤية لا تزال صالحة وهي لم تهضم بعد من قبل البعض منا على الرغم من صوابها وثوريتها على بعض الأفكار المتحجرة .

 

وانطلاقا من فكره ذاك فخصومه قد كانوا يرونه عميل للمحتل وذراع له بينما هو ولظروفه الخاصة ولظروف الجزائر عامة في الفترة ما بين الحربين قد كان يرى أن مشاريعهم ليست واقعية وهذا لاستحالة إنزالها في أرض الواقع وهذا نظرا للظّـروف المحلية والإقليمية والدولية وكان لزاما أن ننتظر تغير كل تلك الظروف لكي تتغير وجهة نظره من القضية الجزائرية فالرجل كان ينطلق من الواقع ومما هو كائن ولذلك فهو قد كان وفي مرحلة ما من حياته لا يؤمن لا بالدولة ولا بالأمة الجزائرية وإنما هو فرنسا كما قال وهي وطنه ولهذا فقد تزوج الرجل بفرنسية وكأنه يريد نفيسا أن يرتبط وإلى الأبد بفرنسا وبثقافتها وبكل ما يرمز لها من دون التخلي عن مقومات شخصيته فهو فرنسي عربي بربري مسلم وهو الواقع الذي فتح عليه عينيه وتعلمه في المدرسة وهو الذي يريده على أرض الواقع من مستعمرة إلى مقاطعة ثم إلى جمهورية متحدة مع فرنسا وعلينا أن ننتظر إلى ما بعد استقلال الجزائر حتى يكتشف عباس فرحات زيف ما كان يلقن له في المدرسة الفرنسية ولولا الثورة المباركة لكان قد أنهى حياته على تلك المعتقدات الزائفة .

 

تلك المعتقدات والتي بموجبها قد كان ينكر وجود الأمة والوطن الجزائري حتى أنه بحث عنه في المقابر وسأل عنه الأموات والأحياء ولكنه لم يجده وكان هذا طبعا في العام 1936 ولكن الرجل قد تاب قبل موته من هذا التجديف في حق الوطن فها هو يقول بأن: " الوطن الجزائري الذي لم أجده سنة 1936 في أوساط العامة من المسلمين، وجدته اليوم " صحيح أنه قد وجده وبصورة متأخرة نسبيا ولمنه في الأخير قد وجده . كما أن الرجل قد تاب من مقولة الجزائر الفرنسية وهذا ما نجده في كتابه ليل الاستعمار وأصبح يعتبرها كفرا بالمنطق السليم حيث يقول بأن الكولون قد اغتصبوا ثروات بلاد عربية أي الجزائر وهي الصورة الناطقة لما يسمونه بالجزائر الفرنسية هذه العبارة التي أصبح يعتبرها من المفتريات الملفقة وهو يتعجب كيف أصبح الجزائريون جزء من الشعب الفرنسي وهم عرب ومتى مارسوا حبة خردل من السيادة الفرنسية ؟ . أما النظام الاستعماري فالرجل كان يعادينه وهذا منذ أن فتح عينيه عليه ويعتبره شظايا دنسة من ماضي قذر ونحن هنا نقتبس دوما من كتابه ليل الاستعمار . ولماذا غير الرجل موقفه من الوجود الفرنسي في الجزائر هذا ما نجده في اعترافه وإقراره في آخر أيامه أي في العام 1981 من أنه قد: " كان واهما في هذه الفترة، لقد أدرك بأن الاحتلال لا يقوم إلا على السيطرة والاستغلال تلك قاعدته وركيزته الأساسية، وأن الطبقة الحاكمة في فرنسا كانت متفقة مع ساسة المحتلين في الجزائر " هذا ما جاء في كتابه الشباب الجزائري والذي لا يزال موجودا بين أيدينا ويمكن الرجوع له متى شئنا .

 

كما أن الرجل قد كان ضحية لكل من اختلف معهم ففضلا عن أبناء جلدته فها هم الكولون وكما يخبرنا هو في كتابه ليل الاستعمار قد كانوا يتهمونه بالمكر وبقلة الإيمان بما يدافع عنه ولكن أقوال الرجل تدحض هذا الهراء . إن الرجل في كتابه ليل الاستعمار ليخبرنا بأن المواطن الجزائري العربي والبربري لهو وارث لحارة رائعة وللغة قيمة ولتقاليد محترمة أما الإسلام فيقول عنه في كتابه الشباب المسلم بأنه: " وطن روحي بلا حدود يوجهنا من المهد ... وعليه فقد بقيت مسلما وجزائريا بكل شعيرات روحي " ولولا الخوف من الإطناب لأتينا على كل ما قاله من كلام يمتدح فيه هوية ولغة وميراث شعبه

 

ونحن نضمن بأن الكل قد كان يخاف من الرجل الأعداء والأصدقاء على حد سواء ولذا فهو قد نال من التشهير والتجريح والسب والشتم والطعن أكثر مما يجب حتى بدت الهجمة عليه وكأنها عملية تصفية حسابات ومعارك لا تزال جارية بين معسكرات فكرية وعقائدية ومصالح اقتصادية وسياسية وأداتها عباس فرحات أما يكفيه وصف المفكر الكبير مالك بن نبي له بالمهرج وتصنيفه ضمن فئة الدراويش ومع الطرقية حتى أنه أنزله من درجة المثقف إلى درجة المتثيقف وهنا نحن نقول كفى هجوما عليه فالرجل قد أقرَّ وأعترف بأنه قد كان مخطئا ليس مرة واحدة وإنما عدة مرات وماذا كنا نفعل لو كان بعضنا مكانه لما كنا تفوهنا بكلمة واحدة أمام وحوش بشرية تسمى المعمرين وهي قطع حقيقية من الجحيم . كما أنه قد تاب من خطيئة وكبيرة الجزائر الفرنسية ومن سياسة الإدماج ومع هذا فلا زلنا نحاسبه على نضاله في حقبة الشباب ونتغاضى عمدا عن نضاله في حقبة الكهولة والشيخوخة وهو الذي زار العالم كله تقريبا إبان الثورة التحريرية المباركة وحقق لها انتصارات سياسية أشبه بالمعجزات ألا يشفع له كل هذا ؟ كما أننا نرى بأنه من الظلم اختزال فرحات عباس في مقولة تحتمل عدة قراءات قالها الرجل في ظروف خاصة ولا تتجاوزها لغيرها أبدا .

 

ونحن هنا لا نرافع لحساب فرحات عباس لأن مشاريع الرجل قد عفا عليها الزمن وقبرها التاريخ وإلى الأبد ولكن البعض منا لا يزل يتعامل مع الرجل بانتقائية كمن يستدل بالشطر الأول من الآية الكريمة: " ويل للمصلين ... " وكذلك نحن ونتناسى بأن تاريخ الرجل الثوري وجهاده البطولي أثناء الثورة التحريرية وعلى الرغم من كبر سنه يَجِـبُّ كل ما قبله من تاريخه . وإننا هنا كمن يطلب اليوم من المسيحيين بأن يحاسبوا القديس بولس على أخطائه في حق المسيحية والمسيحيين قبل تنصره ونفس الأمر مع القديس أوغسطين أو كمن يطلب من المسلمين بأن يتوقفوا بعمر بن الخطاب عند جاهليته ووأده لابنته الصغيرة وهذا هو الجنون عينه واللاموضوعية مجسدة أمامنا .

 

أحببنا أم كرهنا فعباس فرحات شخصية رفيعة ومن العيار الثقيل ومع كل أسف فهو قد حمل فكرا متعاليا عن الشعب البسيط والذي جَهَّـلـَهُ الاستعمار عبر عمل إجرامي متكامل الأركان والفكر الذي نقصده هنا هو فكر عصر الأنوار والذي رأى فيه سلاحا حادا للوقوف في وجه الاستعمار الفرنسي البغيض وذو الوجه البشع والقبيح . نعود ونقول بأن الرجل قامة كبيرة سرقته السياسة ويتضح هذا من عمق تحليله للواقع الجزائري ومن أسلوبه الراقي والرفيع هذا الأسلوب الذي يكتب به وهو لا يزال شابا وهذا ما نصادفه في كتابه الشباب الجزائري أو في كتابة الأشهر ليل الاستعمار والذي كتبه في مرحلة النضج وعليه فالرجل لو تفرغ للدراسة والبحث لتفوق ومن دون منازع على أطول القامات الفكرية الجزائرية والعربية والإسلامية ولحاز مكانة بين مبدعي العائلة الإنسانية ككل ولقدمت الجزائر للعالم عَـلـَما ومفكرا تفتخر به أو في أقل الظروف والحالات فالرجل يقف الند للند لكل من العلامة محمد ابن أبي شنب مثلا أو حتى للأمير عبد القادر المفكر وللشّيخين ابن باديس والإبراهيمي وعليه فالاختلاف مع الرجل فكريا وعقائديا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون دافعا لنا للانتقاص من مكانته وظلمه أو للتجني عليه .

 

وفي خاتمة مقالنا هذا يمكن القول بأن عباس فرحات في مرحلة ما من حياته النضالية كان يتمنى ويأمل في أن تستمر الجزائر الفرنسية في الوجود مقامة على أسس الثورة الفرنسية الكبرى جزائر فرنسية لكل سكانها ولكن فرنسا الاستعمارية هي من أجهضت حلمه هذا ودفعته إلى الانضمام إلى جزائر الثورة الكبرى .

ولذلك فهو قد ناضل من أجل هدف مستحيل التحقيق على أرض الواقع وهنا نقصد مطلب الإدماج هذا المطلب الذي كان الفرنسيون أنفسهم يرفضونه وهذا ما يذكره هو نفسه في كتابه ليل الاستعمار وهذا حينما يتحدث عن العائق الذي يراه الفرنسيون يحول بينهم وبين جعل الجزائر فرنسية ألا وهو صعوبة إدماج العنصر العربي أو إبادته . والعنصر الجزائري كان يرفض سياسة الإدماج أيضا وخير من عبر عن هذا الموقف هو الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه ولذلك فقد وصل عباس فرحات إلى طريق مسدود وهذا خاصة في ظل رفض الكولون لأي نوع من أنواع الحكم يمكن للأهالي أن يشاركوا فيه فما كان على الرجل مرغما إلا الانضمام إلى معسكر دعاة الاستقلال .

 

الجزائر / الطارف

 

المراجع:

 

- أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية الجزائرية الجزء الأول والثاني الطبعة الرابعة دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان 1992

- محمد العربي الزبيري تاريخ الجزائر المعاصر ج 1 منشورات إتحاد الكتاب العرب 1999

- محمد حربي الثورة الجزائرية سنوات المخاض ترجمة صالح المثلوتي دار هومة 1994

- فرحات عباس الجزائر من المستعمرة إلى الإقليم الشباب الجزائري ترجمة أحمد منور منشورات وزارة الثقافة 2007

- فرحات عباس ليل الاستعمار ترجمة أبو بكر رحال وزارة الثقافة الجزائر 2009

- عباس محمد الصغیر فرحات عباس من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية ( 1927 (1963- مذكرة مقدمة لنیل شھادة الماجستیر في تاریخ الحركة الوطنیة جامعة منتوري قسنطینة كلیة العلوم الإنسانیة والعلوم الإجتماعیة السنة الجامعیة 2007/2006

- عز الدين معزة فرحات عباس ودوره في الحركة الوطنية ومرحلة الاستقلال 1985-1899 مذكرة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر تاريخ المناقشة: 16 فيفري 2005

 

في المثقف اليوم