قضايا

الحسين .. ثقافة لكل العصور

ali almomenفي البدء .. كلمة: ككل المنعطفات التاريخية الكبرى التي شهدتها مسيرة البشرية؛ منذ بدء الخليقة وحتى الآن؛ بقيت نهضة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) إحدى أهم أحداث التاريخ الإسلامي؛ بل الإنساني عموماً. ولعل هذا الحدث يشكل ثاني اوثالث حدث مصيري بعد وفاة الرسول الأعظم محمد (ص)؛ لأنه أدخل تحولاً شاملاً في حاضر الأمة ومستقبلها، وعلى أكثر من صعيد؛ ما جعلها رمزاً ومفهوماً ومدرسة متكاملة.

إن النهضة الحسينية لم تكن مجرد حدث سياسي عبّر عن نشاط معارض لجماعة سياسية ضد السلطة الحاكمة، أو حدث اجتماعي يمثل صراعاً بين أسرتين، أو معركة عسكرية بين فئة ثائرة وجيش الحكومة؛ وإنما هي قضية دخلت في صنعها مسارات متنوعة، وحملت أبعادأ متعددة، تدخل في أطر إنسانية وعقائدية وفقهية وفكرية وثقافية واجتماعية وتاريخية وسياسية.

ومن هنا؛ فان الكتب والدراسات التي تخصصت في موضوع نهضة الإمام الحسين (ع) أو تناولتها، عالج كل منها بعداً أو امساراً معيناً، او عدداً من الأبعاد فيها.

والدراسة التي أضعها بين أيدي القراء؛ نظرت الى موضوع النهضة الحسينية من زاويتين:

الاولى: زاوية السنن التاريخية، أو الإلهية بكلمة أدق، عبر تطبيقها على موضوع نهضة الحسين، واستخلاص البعد السنني فيها.

الثانية: زاوية العقيدة، وذلك من خلال مقارنتها مع نقيضها، من خلال التحليل الثقافي للحدث.

وجاء اعتماد الدراسة ـ في الزاوية الثانية ـ المنهج المقارن؛ انطلاقاً من مقدمة علمية أثبتتها الدراسة، تتلخص في كون طرفي الحدث (نهضة الحسين وسلطة يزيد) يمثلان مدرستين وثقافتين متضادتين في جذورهما ورموزهما وأفكارهما وايديولوجيتهما وامتداداتهما؛ الأمر الذي يجعلهما في صراع دائم؛ لايحده زمان أو مكان.

واختيار الدراسة لمفردة (الثقافة) في عنوانها، وسياقاتها عند الحديث عن عاشوراء وكربلاء؛ يأتي من خلال التعريف الانثروبولوجي الشامل للثقافة من جهة، وكون الحدث العاشورائي قد تحول الى ثقافة متكاملة، تمثل أحد أبرز مكونات الثقافة الإسلامية الاصيلة؛ حتى وإن لم تتم الإشارة الى الحدث العاشورائي بالإسم عند الحديث عن هذه المكونات؛ لأنه حاضر في عمقها من جهة اخرى.

ونعني بالثقافة هنا؛ مفهومها الشائع؛ باعتبارها مجموع الافكار والسلوكيات والاساليب التي تحدد نمط حياة المجتمع.

لقد عالجت الدراسة موضوع التفسير العاشورائي للتاريخ ومعادلاته وثوابته وقواعده؛ باعتباره أحد أبرز تجسيدات التفسير الإسلامي للتاريخ. كما عقدت مقارنة تحليلية بين جذور الثقافتين الحسينية واليزيدية، وعمقهما التاريخي، ورمزي الثقافتين: يزيد بن معاوية بن ابي سفيان والحسين بن علي بن ابي طالب. وقارنت بين ثقافة الحسين وثقافة يزيد من خلال ثلاثة معايير أساس: العلاقة بالله تعالى، الاهداف والشرعية الدينية.

 

التفسير الحسيني للتاريخ

سنن الله تعالى في خلقه، سنن ثابتة لا تتبدل، أفرزت عناصر ومعادلات ومباني محسوسة؛ هي التي يتم التعبير عنها بالتفسير الاسلامي للتاريخ. وهذا التفسير له تجسيدات ومصاديق في تاريخ الاسلام وواقعه. ويقف التفسير العاشورائي للتاريخ في مقدمه هذه التجسيدات؛ إذ بقيت معادلاته تحكم مساحات كبيرة من الواقع الاسلامي، منذ ثورة الامام الحسين(ع) وحتى الآن.

فبين عاشوراء 61 هـ ؛ اليوم الذي شهد الفصل الأكثر دموية ومأساوية في نهضة الامام الحسين، وعاشوراء اليوم الذي نعيشه، ثلاثة عششر قرناً ونصف القن من الزمن، استمرت خلالها نهضة الحسين بجميع عناصرها ومعادلاتها وأهدافها، على الرغم من تغير الأشخاص واختلاف المشاهد، وكأن ذلك الزمن الطويل يشكل يوماً واحداً. فنهضة الامام الحسين(ع)، على وفق التفسير العاشورائي للتاريخ، لاتخضع لظروف الزمان والمكان، أي انها عالمية على المستوى الجغرافي، وممتدة على المستوى التاريخي.

لقد تشربت نهضة الحسين الفكر التوحيدى، وجسدته واقعاً عملياً خالداً؛ فأبقت مكة رمزاً للتوحيد، وجعلت من كربلاء مركزاً يحمي التوحيد الخالص، ومركزاً للتضحية من أجله. فعلى مر القرون ظلت كربلاء تضحي، لتزداد مكة شموخاً.

النهضة الحسينية لم تأت بشرعة جديدة أو سنة مبتدعة، وانما بلورت مفاهيم الصراع التاريخي بين الحق والباطل. هذه الثنائية الممتدة منذ عصر آدم (ع)، بين هابيل وقابيل، بين نوح وقومه، ابراهيم ونمرود، الأنبياء وبني اسرائيل، موسى وفرعون، رسول الله وقريش، علي و معاوية، وصولاً الى الحسين ويزيد. فهي ـ في حقيقة الأمر ـ سنة الله في خلقه:

(سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).

و تمثل كربلاء فی المعادلة الحسینیة البعد المكاني في نهضة الحسين، فهي الأرض التي نقف عليها، ويمثل عاشوراء البعد الزماني، فهو الزمن الذي نعيشه. أي ان كربلاء هي كل أرض المسلمين على امتداد ثلاث قارات، وكل أرض يوجد فيها المسلمون. إذ لازالت هذه الأرض تنزف ، كل جزء منها ينزف، تنزف دماً ودمعاً ومداداً ، دون أن تجف دماؤها أو يجف دمعها ومدادها، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن؛ لأن الدماء والدموع والمداد هي ارث المسلمين من عاشوراء وكربلاء، وهو إرث المقاومة الأكثر تأثيراً في واقع الحياة، حتى يرث المستضعفون الأرض وما عليها.

ولكي نكون أكثر اقتراباً من الواقع، نشير الى بعض الثوابت الأساسية في المعادلة العاشورائية، لتبرز المصاديق من خلال ذلك بسهولة:

1- في كل زمان ومكان هناك من يمثل الرمز والمشهد في النهضة الحسينية، أي كلا طرفي المعادلة، سواء تمثل الرمز في شخص أو جماعة أو سلطة، وسواء كان المشهد في بضعة أمتار من الأرض ـ زنزانة مثلاً ـ أو في دولة بأكملها.

2- ان طرفي المعادلة العاشورائية يمثل أحدهما الحق والشرعية، ويمثل الآخر الباطل واللاشرعية، وحولهما يلتف الأتباع والأنصار، وبينهما يقف المتفرجون والمحايدون ـ سلباً ـ والمستفيدون.

3- تقف كربلاء دائماً خارج أطار اللعبة الدولية؛ فلا تصلها ـ على سبيل المثال ـ شرعة حقوق الانسان، ولا كل القوانين التي يتشدق بها بنو البشر، أي انها تعيش حالات المظلومية والمقاومة والاستشهاد بكل أبعادها.

فبقاء كربلاء ـ أرض المسلمين ـ نازفة، هو إنجاز توارثته الأنظمة الطاغوتية، المحلية منها والعالمية. فالاستكبار العالمي، ومعه عملاؤه في منطقتنا الإسلامية، يمثلان أحد طرفي المعادلة العاشورائية. أما الطرف الآخر، فهم أتباع محمد (ص).. من موريتانيا الى اندونيسيا، ومن البوسنة وحتى موزمبيق.

و اذا أردنا أن نعيش قضايانا في هذه المرحلة، ونحللها في ضوء عاشوراء، فسنرى ان الثوابت ـ التي ذكرناها ـ حاضرة في تلك القضايا بكل وضوح.

ان الشعارات أو التهم التي يرددها المستكبرون وعملاؤهم في هذه المرحلة هي انتاج متكرر، أفرزته العقلية الاستكبارية الغربية منذ قرون بعيدة، وبلورته المنظومات الاستشراقية في صيغ معروفة، وأبرزها: ان المسلمين ارهابيون، متوحشون، متمردون، لاعقلانيون، متخلفون، شهوانيون؛ يسعون للحصول علي أسلحة الدمار الشامل، ويطمحون لبناء قوة عالمية مستقلة. ومن هنا فلابد من محاصرتهم سياسياً واقتصادياً وتعويق مشاريعهم التنموية، واستلابهم عقائدياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وتجويعهم وإذلالهم وإركاعهم، وبث الفرقة والشقاق والنفاق بينهم، وضربهم بقوة ، وإعمال السيف فيهم:

(ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا).

الحسین یقارن بین ثقافته وثقافة يزيد

أفرزت ثورة الامام الحسين (ع) ثقافة ومدرسة متكاملة في معالمها ورموزها وعناصرها وأساليبها وأهدافها، وهي ثقافة اسلامية أصيلة، تشكل القاعدة التي يقف عليها التفسير العاشورائي للتاريخ.

يقول الامام الحسين بن علي (ع):

« إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحط الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد رجل فاسق، ومثلي لايبايع مثله».

بهذا الحزم العقائدي، رد الامام الحسين (ع) على الوليد بن عتبة، والي يزيد على مكة؛ حين طلب منه مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، فقد أوضح من خلال كلمته انه ويزيد مدرستان وثقافتان متضادتان، لايمكن أن تلتقيا، كما بيّن المعالم الرئيسية لكلتا المدرستين.

فالمدرسة الحسينية أو الثقافة الحسينية ـ كما ورد في كلمة الامام الحسين ـ تتميز بأنها مدرسة:

1- أهل بيت النبوة.

2- معدن الرسالة.

3- مختلف الملائكة.

4- بها فتح الله وبها ختم.

اما المدرسة اليزيدية فان أهم معالمها:

1- الفسق والتجاهر بالفسق.

2- شرب الخمر.

3- قتل النفس المحرمة.

فهما ـ اذن ـ تياران حضاريان مختلفان ومتضادان، الأول ولد في رحم الرسالة، ونما وترعرع في أحضان النبوة، ثم تجسدت فيه مدرسة الاسلام الأصيل؛ اذ أفرزت المدرسة الحسينية ثقافة عاشوراء التي هي خلاصة لثقافة الاسلام.

أما التيار الثاني، فقد انبثق من بين ركام الكفر والجاهلية، وترعرع في أحضان الانحراف، وتبلور في أبناء الطلقاء ومن أباح الرسول (ص) دماءهم، ويمثل الاتجاه الأكثر عداءَ للاسلام، والأكثر شراسة ضده وضد رموز، قبل وفاة الرسول (ص) وبعده.

ثم أعطى الامام الحسين (ع) بقوله: « ومثلي لايبايع مثله »؛ قاعدة عقائدية وفقهية ثابتة، وهي ان المدرسة الاولى ( الحسينية ) لايمكن أن تبايع المدرسة الثانية (اليزيدية) أو تقدم لها فروض الطاعة أو تنصاع لأوامرها، بل تعمل وفق ما تمليه عليها الشريعة الالهية.

بيد ان المفارقة الكبري تكمن في ان المدرسة اليزيدية استولت علي السلطة باسم الاسلام، وعزلت المدرسة الحسينية عن موقعها الشرعي، وصوّرتها بأنها خارجة على الخلافة!.

جذور الثقافتين الحسينية واليزيدية

اذا تأملنا في جذور الثقافتين أو المدرستين الحسينية واليزيدية، فسندهش لطبيعة التضاد بينهما، وهو التضاد العقائدي السابق لا نبثاق المدرستين، ثم ورثتاه، وأورثتاه عبر الأجيال، لتبقي لكل ثقافة رموز واتباع وامتدادات. فأبو سفيان، المشرك، الذي شن أشرس الحملات العسكرية والإقتصادية والاجتماعية والاعلامية، وحملات الاضطهاد والتعذيب والتشريد والتنكيل، ضد الاسلام والمسلمين، وضد رسول الاسلام (ص) هو المؤسس الأصلي لهذه الثقافة. وقد كان مستوى إيمان أبي سفيان بعد أن أجبرته مصالحه على التظاهر بالاسلام، هو ما أعلنه بعيد وفاة الرسول الأعظم (ص)، حين قال للامام علي (ع) بعد اعلان خلافة أبي بكر:

« والله اني لأرى عجاجة لايطفئها الاّ دم».

فأجابه أميرالمؤمنين (ع):

« انك والله ما أردت بهذا الا الفتنة، وانك والله طالما بغيت بالاسلام شراً ».

و أبوسفيان هذا هو جد يزيد. اما جدته، فهي هند، أبرز المؤلبات ضد الاسلام، وآكلة كبد حمزة عم النبي (ص). وأبوه هو معاوية الذي خرج على إمام المسلمين وخليفة رسول الله علي بن أبي طالب (ع)، ومجيش الجيوش ضد معسكر الاسلام في عهد الامام علي (ع)، وقاتل الصحابة والاخيار، وأول من أبتدع الملك الوراثي في الاسلام.

و قد استمد يزيد جذور العقائدية والثقافية والاجتماعية من هذا البيت، الذي رفع شعار الكفر والنفاق والردة والفسق، والعداء الكامل للاسلام.

اما مدرسة الحسين (ع)، فهي امتداد للنبوة، وخلاصة الاسلام الأصيل، فجد الحسين هو محمد (ص) ، رسول الله وخيرة خلقه، وخاتم المرسلين والأنبياء. وجدته خديجة الكبرى، التي كان عطاؤها أحد الأركان التي شيد محمد (ص) عليها الاسلام، وأبوه هو علي بن أبي طالب (ع)، أول القوم إسلاماً، وحبيب رسول الله وابن عمه وصهره ووصيه وخليفته، وأول أئمة الهدى بعد رسول الله (ص)، والذي قال فيه:

«علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض»،

و« يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ».

وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وبضعة رسول الله، التي قال فيها نبي الهدى (ص):

« يا فاطمة ان الله عزوجل ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك ».

مظاهر الثقافة اليزيدية

يصف المؤرخون يزيد بأنه: « صاحب طرب وجوارح وكلاب وقردة وفهود ومنادمة على الشراب. وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه عبيدالله بن زياد، وذلك بعد قتل الحسين (ع)؛ فأقبل على ساقيه فقال:

(اسقني شربة تروي مشاشي       ثم مل فاسق مثلها بن زياد

صاحب السر والأمانة عندي     ولتسديد مغنمي وجهادي)

ثم أمر المغنين فغنوا، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب.

و في سنوات حكمه الثلاث فقط، قام يزيد بن معاوية بأبشع ثلاث جرائم عرفها تاريخ الاسلام، وهي:

1- وقعة كربلاء عام 61 هـ :

وفيها قتل يزيد الإمام الحسين بن علي (ع)، ثالث أئمة آل البيت (ع)، وسبط رسول الله (ص) وريحانته؛ الذي قال فيه:

«حسين مني وأنا من حسين »،

و قتل أهل بيت النبوة من الطالبيين والعلويين، وجمع من الصحابة والتابعين، بشكل مروع، وقتل الأطفال أيضاً، وبينهم الرضيع الذي لايزيد عمره علي ستة أشهر. ثم هجوم جيش يزيد علي مخيم النساء وحرقه، وتشريدهن وسبيهن مع الأطفال، وتأسير الامام علي بن الحسين (زين العالدين)، رابع أئمة آل البيت، وكان حينها في مرض شديد.

ثم حملت السبايا الى الكوفة، ومنها الى شام، حيث دخلت على يزيد، الذي أخذ يشتم آل البيت (ع)، ويضرب رأس الحسين بالسوط، بل كاد أن يقدم على اعطاء بعض بنات بيت الوحي (من بنات الامام علي والامام الحسين) جواري وخادمات لبعض ندمائه.

2- استباحة المدينة المنورة ووقعة الحرة عام 63 هـ :

يقول المؤرخون:

« لما شمل الناس جور يزيد وعماله، وعمهم ظلمه وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول الله (ص) وأنصاره، وما أظهر من شرب الخمر، وسيره سير فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان... وسائر بني أمية ».

وعلى اثرها سيّر يزيد جيشاً جراراً الى المدينة، على رأسه مسلم بن عقبة، الذي هجم علي مدينة رسول الله (ص) ـ بعد وقعة الحرة ـ هجوم الكواسر الجائعة، فاستباحها بالكامل ثلاثة أيام بلياليها، إذ قتل أهلها، ونهبها، وسرق ما فيها من مال أو رقة أو سلاح أو طعام ، واغتصب العساكر نساءها. ثم أجبر من تبقي من أهلها علي مبايعة يزيد عبيداً وليسوا رعية، كما سمّي بن عقبة المدينة بـ « نتنة »، خلافاً لقول الرسول (ص) الذي أسماها « طيبة ».

اما وقعة الحرة التي التقى فيها جيش يزيد بقيادة مسلم بالمدافعين عن المدينة المنورة، ومعظمهم من بين هاشم؛ فقد ذكر المؤرخون ان قتلى أهل المدينة بلغ حوالي (420) شخصاً من بني هاشم وقريش وسائر الناس.

3- انتهاك حرمة بيت الله ورجم الكعبة بالمنجنيق عام 64 هـ :

حادث رجم الكعبة سبقتة مقدمات مهمة، انتهكت خلالها حرمة البيت الحرام؛ فحين أراد يزيد اجبار المسلمين على البيعة بقوة السيف، لجأ عبدالله بن الزبير الى المسجد الحرام، فأرسل اليه يزيد عشرة من أعوانه، بينهم عبدالله بن عضاة الأشعري والنعمان بن بشير الأنصاري، وألح هؤلاء على ابن الزبير بالبيعة ليزيد، لكنه رفض. وحينها هموا بقتله وهو في المسجد الحرام. فقال عبدالله بن الزبير لأحدهم:

« اتستحل قتالي في هذا الحرم؟!»،

فأجاب:

« نعم، إن أنت لم تجب طاعة أميرالمؤمنين»،

فأشار ابن الزبير الى حمامة كانت في المسجد قائلاً:

« وتستحل قتل هذه الحمامة؟»،

فقام أحد رسل يزيد وصوب سهمه نحوها قائلاً:

« يا حمامة أتعصين أميرالمؤمنين؟».

ثم التفت الي ابن الزبير قائلاً:

« أما لو أنها قالت نعم لقتلتها ».

و بقي عبد الله بن الزبير متحصناً في المسجد الحرام، حتى حل عام64 هـ ، ففي أوائل شهر محرم الحرام من هذه السنة، حوصر المسجد الحرام من قبل جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير، فنصب العربات والمجانيق على جبل « أبوقبيس »، وأخذ يقصف الكعبة والمسجد بالمنجنيق، حتى تهدم بناء الكعبة، واحترقت نتيجة ذلك. ويصف أحدهم ضرب جيش يزيد الكعبة:

« رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء وترتج من أعلاها الى أسفلها ».

و بعد عودة الحصين بن نمير، وفك الحصار عن عبدالله بن الزبير، دخل عبيد الله بن سعد المسجد الحرام والكعبة محترقة، فخاطب الناس:

«... فقد والله فعلتم؛ لقد قتلتم ابن بنت نبيكم ، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة ».

وهو بذلك يصف أكبر جريمتين وقعتا بعد بزوغ فجر الاسلام.

الحسین حجّة على الناس

الحسين (ع)، تجسيد لمعنى القربة في آية المودة:

(( قل لا أسألكم عليه أجراً الّا المودة في القربى))،

و أحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، في آية التطهير، كما انه تجسيد لمعنى أبناء الرسول (ص)، في آية المباهلة:

(( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين))،

و هو الذي قال عنه رسول الله (ص):

«حسين مني وأنا من الحسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط »،

وهو وارث مسيرة التوحيد منذ عهد آدم (ع)، برموزها وخطها العقائدي، كما تصفه « زيارة وارث » المأثورة عن الامام الصادق (ع). وأخيراً توج الامام الحسين (ع) حياته وجهاده بالشهادة في سبيل الأهداف الربانية، ليحمل لقب « سيدالشهداء » حتى تقوم الساعة.

يقول الرسول الأعظم (ص):

«الحسن والحسين ابناي، من أحبهما أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحب الله أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار على وجهه ».

العلاقة بالله في الثقافة الحسينية

المدرسة الحسينية هي مدرسة الحب والعشق الالهيين. فالحسين (ع) وهو في ذروة المحنة، حين يقف وحيداً في عرصات كربلاء مثخناً بالجراح، والخيل تدوس صدره، يجسد أروع مشاهد وآيات العرفان والحب، وهو يقول:

« بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، الهي انك أتعلم انهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، هوّن علي ما نزل بي انه بعين الله ».

كما ان مراسيم الصلاة التي أقامها في ظهيرة عاشوراء والجيش الاموي يحيط به من كل جانب، ويرميه بالسهام والرماح، انما يشير الي عمق صلته بالله تعالى. وهناك أبيات من الشعر قيلت علي لسانه (ع) وهو يودع الحياة في واقعة الطف، مخاطباً خالقه تعالى:

(( تركت الخلق طراً في هواكا   وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني بالحب اربا       لما مال الفؤاد الى سواكا ))

و كان الامام الحسين (ع) يردد هذا الدعاء في الشدة والفرج:

«اللهم ارزقني الرغبة في الآخرة، حتى أعرف صدق ذلك في قلبي بالزهادة مني في دنياي. اللهم ارزقني بصراً في أمر الآخرة حتى أطلب الحسنات شوقاً، وأفر من السيئات خوفاً».

وأبناء ثقافة عاشوراء من أصحاب الحسين (ع) جسدوا أروع مشاهد القرب من الله تعالى، فالمؤرخون يصفونهم في ليلة عاشوراء بأنهم:

«مقبلين على الله بكل مشاعرهم وأفكارهم، فهم بين راكع وساجد، قائم وقاعد، وبين تال للقرآن ومستغفر، ولهم دوي كدوي النحل ».

وأتباع هذه المدرسة ينتسبون اليها بدافع الايمان بالله تعالى وقربهم منه؛ فبواعثهم عقائدية وأخروية، وجهادهم في صفوفها هو من أجل العقيدة والفكرة والرمز الشرعي. وهو ما يتضح من سلوكهم وأقوالهم قبل الواقعة وأثناءها. فالمعلّا ( أحد أصحاب الحسين) ارتجز يوم عاشوارء بهذه الأبيات:

(أنا المعلّا حافظاّ لأجلي        ديني علي دين النبي وعلي

أرجو ثواب خالقي الأزلي     ليختم الله بخيرٍ عملي)

و يقول برير بن خضير الهمداني، مخاطباً الامام الحسين (ع) قبل بدء القتال:

« والله يا ابن رسول الله، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة».

ويعقبه نافع بن هلال الجملي يخاطب امامه:

« من نكث عهده، وخلع بيعته، فلن يضر الّا نفسه، والله مغن عنه؛ فسر بنا راشداً معافي، مشرّقاً ان شئت أو مغرّباً، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا ».

فنرى من خلال ذلك مقدار وضوح الرؤية العقائدية، والاستقرار النفسي المطلق لاتباع ثقافة عاشوراء، فكلمة الله (تعالي) لا تزول من ألسنتهم، وهو في قلوبهم، يموتون في سبيله ومن أجل أهدافه.

العلاقة بالله في الثقافة اليزيدية

تعبِّر المدرسة اليزيدية تعبر عن مستوى سحيق جداً من الابتعاد عن الله تعالى، والذي يصل الى حد الشرك والكفر. فيزيد (رمز المدرسة) اتخذ سلوكاً وتفكيراً هما الكفر بعينه. فيذكر المؤرخون ان مجموعة من وجهاء المدينة المنورة رجعوا من ؤيارة يزيد، فقالوا عنه:

«انا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الحراب والفتيان ».

فهل يمكن اطلاق صفة الاسلام أو التوحيد على جريء يردد أبيات الشعر هذه بعد قتله الحسين؟:

(( ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا     جزع الخزرج من وقع الأسل

لو رأوه لا ستهلّوا فرحاً       ثم قالوا يا يزيد لاتشل

لست من خندف ان لم أنتقم     من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا             خبرُ جاء ولا وحيً نزل

قد أخذنا من علي ثأرنا       وقتلنا الفارس الليث البطل

وقتلنا القرم من ساداتها           وعدلناه ببدرٍ فاعتدل ))

اما اختيارعمر بن سعد قتال الحسين (ع)، بعد أن وضعه عبيد الله بن زياد أمام خيارين: بين قتل الحسين (ع) وولاية الري، فهو يعبر بهدا الاختيار عن ضحالة ايمانه، بل عن شركه بالله، وتشكيكه بما جاء به الرسول (ص). ويتضح ذلك من خلال الأبيات التي رددها:

(( أأترك ملك الري والري منيتي       أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

يقولون ان الله خالق جنة          ونار وتعذيب وغل يدين

فان صدقوا فيما يقولون انني     أتوب الى الرحمن من سنتين

وإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمة       وملك عقيم دائم الحجلين).

هذه الأبيات تجسد الواقع النفسي والعقيدي المنهار لمعظم أصحاب الثقافة اليزيدية، والفاصلة الشاسعة بينهم وبين الله تعالى وشرعته ودينه، وحقيقة دوافع انتسابهم لمدرستهم، والتي اما تكون اغراءً بالمال والجاه، أو خوفاً من الموت والفقر، واما تكون انسجاماً مع مكامن الكفر والشرك والجاهلية والانحراف الفكري والسلوكي في أعماق أنفسهم.

فهذا شمر بن ذي الجوشن يقف بكله الي جانب الباطل، ويمثله، مع علمه الكامل بالحق، كما هو الحال مع يزيد وعمر بن سعد. فعندما ركب الشمر صدرالحسين؛ يريد حز رأسه، دار بينهما الحوار التالي:

الامام الحسين (ع) مخاطباً الشمر: أما تعرفني؟!

الشمر: بل أنت الحسين وأبوك المرتضي وامك الزهراء وجدك المصطفي وجدتك خديجة الكبري.

الامام (ع): ويحك، اذا عرفتني فلم تقتلني؟

الشمر: أطلب بقتلك الجائزة من يزيد.

الامام (ع): ايما أحب اليك، شفاعة رسول الله (ص) أم جائزة يزيد؟

الشمر: دانق من جائزة يزيد أحب الي منك ومن شفاعة جدك وأبيك.

وبعد أن كشف الشمر عن لثامه ورأه الامام الحسين (ع)، قال: صدق جدي رسول الله (ص).

الامام (ع): سمعته يقول لأبي، يا علي يقتل ولدك هذا أبرص أعور، له بوز كبوز الكلب وشعر كشعر الخنزير.

الشمر: يشبّهني جدك رسول الله بالكلاب!. والله لأذبحنك من القفاء جزاءً لما شبّهني جدك.

ثم ان الشمر أكب الامام الحسين (ع) على وجهه، وجعل يجز أوداجه بالسيف، وهو يقول:

أقتلك اليوم ونفسي تعلم          علماً يقيناً ليس فيه مغرم

ان أباك خير من يكلّم            بعد النبي المصطفي المعظم

أقتلك اليوم وسوف أندم                  وان مثواي غداً جهنم

و شمر بن ذي الجوشن يعبر هنا عن موقف الذين اشتركوا في الحرب ضد الحسين (ع). فحين توجه الامام الحسين (ع) الى جيش يزيد يحاججه، قائلاً:

« يا ويلكم علام تقاتلوني؟!، على حق تركته، أم على سنّة غيّرتها، أم على شريعة بدّلتها؟!».

أجابوه:

« بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين ».

وذكر المؤرخون موقفاً آخر لشمر بن ذي الجوشن. فعندما دخل على يزيد بن معاوية وبيده رأس الامام الحسين (ع) قال ليزيد:

(املأ ركابي فضة أو ذهبا               اني قتلت السيد المهذبا

قتلت خير الناس أماً وأباً               وأكرم الناس جميعاً حسبا

سيد أهل الحرمين و الوري           ومن على الخلق معاً منتصبا)

فقال له يزيد: اذا علمت انه خير الناس فلم قتلته؟!.

فأجابه الشمر: أطلب منك الجائزة.

و هذه العقلية السقيمة، يصفها أحد الهاشميين من الذين استشهدوا مع الحسين (ع)، وهو محمد بن عبد الله بن جعفر الطيار، بأرجوزته:

(أشكو الى الله من العدوان             قتال قوم في الردى عميان

قد تركوا معالم القرآن                   ومحكم التنزيل والتبيان

و أظهروا الكفر مع الطغيان)

أهداف النهضة الحسينية

تهدف المدرسة الحسينية في حركتها وثقافتها الى تحكيم الشرع المقدس، واحقاق الحق، وازهاق الباطل، ونشر العدل بين الرعية، وصلاح دين الامة ودنياها. وليس في حسابها أية مغانم شخصية.

فالامام الحسين (ع) أوضح هدفه من الثورة على نظام يزيد في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية:

« واني لم أخرج أشراً ولابطراً ولامفسداً ولاظالماً، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص)، اريد أن أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب».

و ليس للحسين (ع) في الثورة على النظام الأموي أي مطمح خاص في سلطة أوجاه أو مال، كجده رسول الله (ص)، الذي أجاب مشركي قريش:

« لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه؛ ما تركته ».

و كأبيه الامام علي (ع)، بقوله حين وافق على الخلافة:

« اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك ».

أهداف السلطة اليزيدية

الثقافة اليزيدية تعمل ـ أولاً ـ تعمل للدنيا ومن أجلها، وكل أهدافها شخصية ومادية صرفة، وعلى حساب كل القيم والمبادئ الانسانية والىينية والأخلاقية. وهي ـ ثانياً ـ تحاول في سبيل ذلك، تخريب المجتمع فكرياً وسلوكياً. وقد نجحت في تحقيق قسم من أهدافها هذه في فترات مختلفة من التاريخ، كان أبرزها الفترة الاولى، أي الفترة التي تزامنت مع حركة الامام الحسين (ع).

ان العلاقة بين نمو الثقافة اليزيدية وبقائها، والمجتمع المنحرف واستشراء أمراضه، هي علاقة تفاعل متبادل ، اذ يساعد المجتمع المنحرف على نشر هذه الثقافة وتغذيتها، في حين تكرس الثقافة اليزيدية ـ في المقابل ـ أمراض المجتمع وانحرافاته، وتخلق فيه أمراضاً اخرى. حيث يصف الامام الحسين (ع) الواقع السياسي والاجتماعي في عهد يزيد وأبيه في مجموعة من كلماته؛ منها قوله مخاطباً أهل البصره:

«أنا أدعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه (ص)، فان السنة قد أميتت وان البدعة قد أحييت ».

و قوله مخاطباً كتيبة الحر بن يزيد الرياحي التي جعجعت به في كربلاء:

«ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله ».

و قوله في أصحابه:

«ألاترون الى الحق لايعمل به، والى الباطل لايتناهي عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لا أرى الموت الّا سعادة، والحياة مع الظالمين الّا برما ».

 

شرعیة الثورة الحسينية

المدرسة الحسينية هي مدرسة الامامة والولاية الشرعية؛ المنصوص عليها من قبل الله تعالى. وقد ورد النص على لسان رسول الله (ص) في أكثر من موضع، ومنه:

« الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا »،

وان «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » ،

و انهما « سبطا هذه الامة ».

كما ان الرسول (ص) أمر بنصرة الحسين بقوله: «ان ابني هذا يقتل في أرض من أرض العراق، فمن أدركه فلينصره ».

فورث الحسين (ع) إمامة الأمة عن جده النبي الأكرم (ص)، وتصدى لها بعد وفاة أخيه الحسن (ع). يقول الامام الحسن (ع):

«ان الحسين بن علي، بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي، امامٌ من بعدي، وعند الله (جل اسمه) في الكتاب، وراثة من النبي (ص)... فاصطفى منكم محمداً (ص) واختار محمدٌ علياً، واختارني علي بالامامة، واخترت أنا الحسين».

و لذلك فان شرعية وجود المدرسة الحسينية، وأصالة ثقافتها، وتحركها على مختلف المستويات، تنبع من شرعية جذورها ورموزها وخصائصها وأهدافها، وانها القيادة الشرعية الدينية والزمنية للامة الاسلامية.

و بقدر تجاهل المدرسة اليزيدية الأموية للشرعية، ورفع راية الحرب ضدها، نرى الوعي العميق لأتباع المدرسة الحسينية لتلك الحقيقة، فهذا يزيد بن مسعود (زعيم البصرة) يخاطب الامام الحسين (ع)، بعد أن دعاه لنصرة، بقوله:

«ان الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها ».

كما يتجسد هذا الوعي بوضوح في ارجوزة العباس بن علي بن أبي طالب (ع)، بعد أن قطعوا يده اليمني خلال الواقعة، حيث يقول:

(والله ان قطعتموا يميني             اني احامي أبداً عن ديني

و عن امامٍ صادق اليقين             سبط النبي الطاهر الأمين )

 

شرعية سلطة يزيد بن معاوية

أتباع المدرسة اليزيدية يصفون يزيد بـ « الخليفة الشرعي »!. أو « أميرالمؤمنين »!؛ برغم كل أفكار الكفر والشرك التي يحملها وينادي بها علناً، وكل سلوك الانحراف والفسق وسفك الدماء والظلم والاستبداد، فضلاً عن أصل تولية العهد، وشرعية خلافة أبيه معاوية، الذي ولّاه العهد من بعده.

و قد أجمع الصحابة ومعظم التابعين على عدم شرعية ولاية يزيد للعهد وخلافته، وكان ذلك سبياً في دس معاوية السم للامام الحسن بن علي (ع) ولسعد بن أبي وقاص، ثم خروج الامام لحسين بن علي (ع) وعبد الله بن الزبير على يزيد، وخلع فقهاء المدينة وأشرافها يزيد، بعد أن زاروه ورأوا منه الأعاجيب من أعمال الكفر والفسق، وكان بينهم عبد الله بن خنظلة (غسيل الملائكة) وعبد الله بن أبي عمر المخزومي والمنذز بن الزبير، فأعلنوا لأهل المدينة:

« إنّا نشهدكم انّا قد خلعناه »،

فتابعهم الناس.

و قد وصف الشوكاني يزيد بن معاوية بأنه:

(السكير، الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة).

كما جزم بكفره وصرح بلعنه القاضي أبو يعلي والحافظ ابن الجوزي والتفتزاني والسيوطي. إذ قال التفتزاني:

«الحق ان رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره به واهانته أهل بيت النبي مما تواتر معناه.. فنحن لانتوقف في شأنه، بل في ايمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه ».

و بذلك فان أبرز ما قامت به المدرسة الحسينية، خلال مسيرتها عموماً وحركتها الثورية خصوصاً، انها قضت على كل ادعاءات المدرسة اليزيدية الأموية، التي حاولت فرض نفسها على المسلمين سلطة شرعية تحكم باسم الاسلام، لتحرفه وتشرع ما تشاء، فسحبت البساط من تحت أقدامها، وكشفت زيفها وبطلانها. كما وضعت المدرسة الحسينية معايير واضحة ثابتة للثقافة اليزيدية؛ لتكشف الامة من خلالها مصاديق المدرسة اليزيدية في كل زمان ومكان. ومن ذلك قاعدة الثورة على السلطان الجائر المستحل لحرام الله، حيث خاطب الامام الحسين (ع)، طلائع الجيش الأموي بالقول:

«أيها الناس، ان رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يعير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ».

 

امتداد الثقافتين الحسينية واليزيدية

بقيت الثقافة الحسينية على طول التاريخ تمارس الأدوار ذاتها التي مارسها الامام الحسين (ع) نفسه، وتفرز النتائج العاشورائية ذاتها. وقد عبر الامام الخميني عن هذه الحالة بقوله: «ان هذا الدم الطاهر يغلي على امتداد التاريخ ليستقي دين الله ويحرس ثماره». كما يقول الامام محمد حسين كاشف الغطاء: «الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ». ويقول الامام محمد عبدة في هذا الصدد: «لولا الحسين لما بقي لهذا الدين أثر».

ونستنتج من كل ذلك، انه لولا المدرسة الحسينية لتحول الدين أموياً، ولأصبح رموز الانحراف هم قادته وفقهاءه، دون أية معارضة.

وتأثير الثقافة الحسينية في حركة التاريخ ما يزال على قوته نفسها التي كان عليها في البداية، ولا يزال شاخصاً في وعي الامة وضميرها، فهي لازالت تقدم أنجع الحلول لمشكلة الانسان الاجتماعية وعلي مختلف المستويات، وتجعل الماضي على صلة وتأثير مباشرين بالحاضر والمستقبل. ويختصر الامام الخميني كل هذه القضايا بكلمة واحده: « كل ما لدينا هو من عاشوراء ».

ان فهم حقيقة منهاج كلا المدرستين ورموزهما وامتداداتهما، ثم الانطلاق من خلال ذلك نحو ممارسة المنهاج الحسيني سلوكاً حياتياً عملياً، سيضمن للمجتمع المسلم الحصول على حاجاته المختلفة في الفكر والعمل، ويضمن له حياة الاستقلال، والعدل، والكرامة، والحرية، في ظل الحكومة الشرعية.

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

في المثقف اليوم