قضايا

هجرة الشباب والغصة التي يحملها المهاجر الطريد عن وطنه!!

تعتبر هجرة الشباب العراقي الى الخارج اليوم من بين اكبر غصة يشرق بها الوطن العراقي منذ اضطرار اكثر من اربعة ملايين من خيرة العراقيين من علماء واستذة جامعات واطباء ومهندسين ومهنيين وفنانين ومبدعين، الى ترك الوطن العراقي والعيش في الشتات من اجل الخلاص من جحيم المقبور ونظامه الفاشي .

أن قضية ترك الوطن من خلال حالات الاضطرار، سواءا لانقاذ الحياة من تهديدات مباشرة او البحث عن مصادر الرزق بعد جدب العيش والمعانات التي يواجهها الانسان في وطنه، يجعل منها رغم كل الاعتبارات والمقاييس الاخرى، من بين أعظم القضايا الانسانية اضطهادا للنفس البشرية الباحثة في سعيها الغريزي عن الامان والسعادة والعيش الكريم. فالوطن بالنسبة لاكثرية الناس، هو البيت الكبير للانسان وعائلته، وهو مصدر كبريائه وافتخاره وابداعاته وتألقه . والوطن يعيش عادة في ضمير المرء بعفوية وتلقائية وحب عميق فريد، ولا يستطيع وطنه الجديد في العالم أينما كان ومهما كان من تعويضه لتلك المشاعر الحميمة الدافئة لوطنه الاصلي . وما نذكره هنا، نابع من تجربة شخصية ناجحة ولله الحمد وحده . فلقد اضطررنا لترك وطننا العراقي نتيجة الاضطهاد السياسي والاجتماعي الذي عانيناه من نظام المقبور، ولله الحمد تعالى وحده كتب لنا النجاح في وطننا الجديد الذي منحنا فرصا كبرى لحمل اعلى الشهادات الاكاديمية وأسمى الالقاب العلمية، تعلمنا اللغة وعشنا ولا نزال بحمده تعالى في بحبوحة من العيش الكريم . ولكن، ومع كل ذلك الكرم الرباني، بقي الوطن العراقي يعيش في الضمير، يهفوا الى كل ذكرى زرعتها ايام الطفولة والشباب في قلب يحرص على وفائه الى درجة يجعلنا نعيش ألمأساة العراقية، بغصة وألم لا يعلمهما سوى الباريئ تعالى . وعلى الرغم من الوطن العراقي لم يعد يعبئ بابنائه في الخارج، ولكن ذلك لا يمنحنا سوى عنادا والتصاقا به، فما متوفر من سياسات وسياسيين، هو مجرد كبوة سيزيح معاناتها الوطنيون الشرفاء، لينهض عراقنا من جديد قريبا باذن الله تعالى .

من خلال هذه التجربة الشخصية، نستطيع ان ندرك كم هو مقدار الظلم الواقع على شبابنا العراقيين ممن يضطرون لهجرة الوطن اليوم نتيجة السياسة الحمقاء التي لا تجد حتى "عقلا" نيرا يستطيع ان يضع استراتيجية شاملة لهؤلاء الشباب العاطلين لاعانتهم، مع الفقراء والمحتاجين من عراقيين اخرين، بحيث يستطيعون البقاء في الوطن ويكونوا درعه الواقي ضد اعداء الوطن ومن سيبني صرحه الشامخ مستقبلا.  

إذ لا تزال المشكلة العراقية تجتر نفسها وتنذر بانهيار شمولي متعدد الجوانب لا يزال يهدد بوأد الحياة وايقاف نبضها، فالمرجعية الدينية لا تزال غير راضية عن نتائج ترقيعات حكومة العبادي، فضلا أن الغليان الشعبي لم يهدأ بعد، وفوق كل ذلك، يهجر اليوم شبابنا العراقي الوطن العراقي من اجل لقمة عيشه وخلاصا من بؤرة فساد تهيمن عليها مافيات الكتل الفاسدة من ارهابيين ولصوص ومجرمين، وهي ماضية في تقطيع اوصال المجتمع العراقي، فما الذي سيبقى في العراق من قوة تستطيع ضمان حياة مستقرة امنه في الوقت الذي فيه أن اكثر من اربعة ملايين قد هاجروا في الماضي ومئات الالوف من اخرين قد غادروه اليوم؟

وعندما نحاول تقريب فهم المشكلة العراقية الى الاذهان في جوانبها الاخرى العديدة والمتنوعة، فذلك يعني اننا نتحدث عن أنماط من حياة متهاوية الى الحضيض سببها كتل سياسية فاسدة ظلت ولزمن طويل جدا "مصانة" من كل اشكال المحاسبة وتحميها وباشكال متعددة ميليشياتها واموالها وتاثيراتها السياسية بحيث جعلت من الاوضاع والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية تصل الى أدنى مستوى لها في العراق. وان كانت بعضا من هذه القوى السياسية تتلقى الدعم المالي والاعلامي والسياسي من قبل انظمة السعودية وقطر وتركيا والاردن، فانها قد تفانت لجعل الوطن العراقي قائما بشكله الشكلي، ولكنه ظل مرهونا لهيمنتها والى ادنى مستوى حياتي ممكن حتى يومنا هذا.

فالانطلاقة السلبية من ترقيعات حكومة العبادي والتي تحاول الحكومة من خلاله استغفال الشعب،لا تعدو كونها اكثر من جرع من منشطات لا تلبث ان ينتهي مفعولها سريعا بانحسار تأثيرها بعد عودة أعراض حالة السقم نفسها عند مواجهة الواقع العراقي المزري، وخصوصا ان ما يتم تطبيقه من هذه الترقيعات هي اشياء مضللة مقارنة لما يسود الحياة العراقية من مسخ ضخامة الكتل السياسية الفاسدة التي لم تجرأ حكومة العبادي على ادانتها وكشفها . والذي يحصل، ان الحكومة تحاوا التعامل مع الاصلاحات من خلال ادانة شخصيات فاسدة من وزراء تركوا العراق منذ سنوات طويلة . وما القرارات التي تتخذها هيئة النزاهة بحقهم، ما هو إلا امورا لن تضر الواقع القائم، مقارنة لما يجب فعله من حسم وضرب قوى مافيوية مهيمنة على الاوضاع. فهؤلاء المجرمون الهاربون، يعيشون خارج العراق وقد اكتسبوا جنسيات تلك البلدان ولا يؤثر ادانتهم في احكام غيابية عليهم في الوقت الحاضر، بينما يتعين مواجهة من هم مستمرون في داخل العراق ويمارسون تدميرا لحياة شعبنا من خلال استمرار الفساد هدر الثروات العراقية . لقد قاد كل ذلك الى خيبات امل كبرى مشوبة بذعر وسخط واحتقار العراقيين لحكومة لا تخجل من بقائها متشبثة بكرسي السلطة، لانها لا تجيد قيادة المجتمع العراقي، فعدم توفيرالحكومة للجان مسؤولة لمتابعة تطبيق قراراتها لا يدل سوى على عدم جدية تلك الاصلاحات . وهي بعد كل ذلك، لا تمتلك الارادة ولا القدرة على مسك الامور بحزم وجدية واحكام . كما وان تفرد العبادي بالقرارات جعل منه مصدرا لسخط العراقيين، والانكى من ذلك، ان مسؤولية أسباب هجرة الشباب الكبرى هذه تقع على الحكومة نفسها نتيجة لعدم رسمها استراتيجية شاملة لمعالجة جوانب المجتمع والبدأ باصلاحات الاهم ثم المهم . كما وأن اهمالها لهذه الشريحة الكبرى من الشباب العاطل، واضاعة تلك الطاقات البشرية العراقية الكبرى والتي لا تجد مصادرا للعيش مع عوائلهم ليضطروا الى هجرة الوطن، هو عار على وجودها.

فعلى سبيل المثال، ان من الادلة الصادمة على ما تشهده الاحداث من ضعف الاداء الحكومي ولا مبالاته في خلق تغير جذري، يتضح من خلال استمرار مزاد العملة للبنك المركزي والذي تشترك فيه مصارف عديدة لا دور لها سوى بيع وشراء العملة الأجنبية . كما وذكر عضو اللجنة المالية البرلمانية النائب هيثم الجبوري في حديث لـ السومرية نيوز . قد أوضح: " إن بيع وشراء العملة الأجنبية وبالتالي إذا لم تكن هناك تعاملات فان هذه الأموال حتما تهرب أو تستخدم في غسيل الأموال" واتهم الجبوري الحكومة بـ"عدم المبالاة" إزاء ذلك، ومشددا على ضرورة إيقاف المزاد".

من العمل ...إذا؟      

لا تزال التغييرات الحاصلة في العالم وتفاقم الارهاب العالمي كداعش والنصرة والقاعدة وغيرها، تلعب دورا اساسيا في تهجير الشعوب نتيجة احتلالها لاراضي عراقية وسورية، واضطرار هجرة الملايين من هؤلاء المشردين الى الدول الاوربية . وللاسف، كان موقف الدول الاوربية بالذات، موقفا لا يخلوا من سلبية في عدم احتضانهم كما ينبغي ومتوقع . فخوف تلك الدول من اندساس هؤلاء الارهابيين بين المهجرين وقيامهم بممارسة الارهاب هناك، كذلك تخوف تلك الدول الاوربية من التطرف الديني الاسلامي للمهاجرين وخلق مشاكل جديدة معهم، يصبح هؤلاء المهجرين من اوطانهم ضحية كبرى للارهاب من خلال فقدانهم لاوطانهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وكذلك أيضا، هو رفض الكثيرين منهم من منحهم حق اللجوء .

فباعتقادنا، انه بدلا من نية البرلمان العراقي الذي بصدد اصدار قانونا يمنع به هجرة الشباب الى الخارج، فاننا نقترح بعض المقترحات التي ربما تساعد في بعض الحلول السليمة، ومن خلال ما يأتي :

1- نرى من الحكمة ان تنظر الحكومة الى بعض التجارب العالمية الناجحة من اجل الاصلاحات الحقيقية، فنقتدي مثلا بتجربة الثورة الثقافية في الصين الشعبية خلال حكم الرئيس الصيني ماو تسي تونك، حيث تم اغلاق الجامعات وتحول المجتمع الصيني الى ورشة عمل دؤوب في الاصلاحات وخصوصا في الثورة الزراعية واصلاح الاراضي البور وتحويلها مصدر كبير لدعم الاقتصاد الصيني .

والتجربة التي نقترحها في تطبيقها في العراق، لا تعني غلق الجامعات والمعاهد العلمية، بل يجب اصدار امرا ملزما من الرئاسات الثلاث بنزول جميع الوزراء والمسؤولون الحكوميين الى الشارع مع جميع العاطلين عن العمل من الشباب، في حملات كبرى لتنظيف شوارع العاصمة بغداد وبقية المحافظات تستمر اسبوعا كاملا، يتقاضى خلالها العاطلون عن العمل من الشباب وغيرهم أجرا مرضيا على عملهم ذاك .

2- كما ونقترح على وزارة الزراعة ان تتبنى مشروعا لاصلاح المساحات الزراعية البور في جميع المحافظات العراقية بمشاركة الشباب العاطلين عن العمل وبغض النظر عما يحملونه من شهادات ودرجات علمية او فنية، لاحياء الاراضي الزراعية البور، دعما للاقتصاد العراقي الذي يعيش حالة من الاحتضار، كما ويجب دفع اجور مجزية للعاملين في المشروع من هؤلاء الذين لا مصدر رزق لهم .  

اننا لا ندري كيف ستتم الاستجابة لهذه المقترحات، ولكن باعتقادنا أن سيكون من شأنها ضرب عصفوري بحجر. تشغيل الشباب العاطل عن العمل، وتوفير مصدر لدعم الاقتصاد العراقي، واحياء مساحات شاسعة من ارضنا المعطاء.

سنتطلع لمن يهمه أمر ومصير الوطن العراقي في الاستجابة لهذه المقترحات، ومن الله تعالى التوفيق .

حماك الله يا عراقنا السامق...  

 

أ . د . حسين حامد حسين

 

في المثقف اليوم