قضايا

الأحلام بين اليقظة والمَنام!!

الحُلُمُ والحُلْمُ: الرؤيا، والجمع أحلام.

وحَلَمَ، يَحلَمُ : إذا رأى في المَنام.

والرؤيا والحُلْمُ: تعبير عمّا يراهُ النائم في نومه من الأشياء.

والحِلْمُ: الأناة والعقل والتثبت في الأمور.

والحُلُمُ معروف منذ الأزل، وهناك إشارات للحُلم في الحضارات السومرية والمصرية وما بعدها، وكتاب إبن سيرين عن تفسير الأحلام معروف، والبحث في الحُلُم ليس جديدا.

وبين الرؤيا والحُلم فارق، ففي قصة يوسف توضيح لذلك، فالطير والخمر عند السجينين يمثلان الحُلُمُ، والبقرات السبعة والسنابل تعبير عن الرؤيا.

" ودخل معه السجن فتَيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه...." يوسف 36

"وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعٌ عِجافٌ وسبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأُخرَ يابساتٍ..." يوسف 43

ويمكن القول بأن الرؤيا أن ترى شيئا لا تكون فاعلا فيه، وفي الحُلُمُ يكون الشخص فاعلا، أو مشاركا بالفعل، فالرؤيا كمشاهدة الفلم السينمائي، والحُلُمُ أن تكون ممثلا فيه.

فالرؤيا مشاهدة والحُلُم مشاركة، وربما هناك خلط بين الحُلم والرؤيا في الأدب النفسي العربي.

والمَنامات شائعة في اللغة المحلية الدارجة، وقد يُقال : رأيت في مَنامي، والبعض يقول : أريد تفسيرا لمَنامي، والمَنام قد يجمع بين الرؤيا والحُلُم.

وعند النظر في القرآن الكريم نجد تفسيرالرؤيا مقرونا بفعل وقائي وجدّ وإجتهاد، وتدبير سياسي وإقتصادي وإنمائي، فكأنّها منطلق لمشروع تفاعلي ما بين الرائي حسب موقعه والواقع الذي يهمه أو يتصل به، ويسعى لتعزيزه والحفاظ على قوته وقدرته الحضارية أو الحيوية، بينما الحُلم مقرونا بنتائجه الحتمية الكامنة فيه، والمُعَبّر عنها بأبجديات حُلمية ذات دلالات إستنتاجية.

ففي قصة يوسف تفسير متصل بعمل ونتيجة، وفي تفسيراتنا قول مقرون بقول، وكأن الفعل قول وحسب.

فهل أن الرؤيا تمتلك طاقة الفعل والعمل، والحُلُم يستنفد طاقته ويبددها بصيرورات منامية تنفيسية ترويحية تفرّغ الذات من دوافع الفعل والعمل، أو أنه العمل والنتيجة؟

ومن المعروف أن الحُلُم تعبير رمزي وإشاري للمكبوتات الممنوعة من التحرر من أصفاد الخوف والحرام، وما لا يتحقق في اليقظة يتم تحقيقه أو تنفيسه في المَنام.

فالمكبوتات في جوهرها تتجسد بآليات حُلمية متنوعة، وبهذا فأنها ليست مكبوتات بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما طاقات تعبّر عن نفسها في واقع مَنامي، أو أنها تنتقل من الفعل اليقظوي إلى الفعل المَنامي المُنقطع عن أطواق وجدران الممنوعات اليقظوية.

ويبدو أن المخلوق لا يمكنه أن يكبت طويلا، لأن الكبت إنحباس مضغوط، يوّلد طاقة تتناسب طرديا مع قوة الضغط، التي تزيد من شدة الإحتكاك وتنامي الحرارة المؤدية لإنفجار مدوّي في حالات تسريبية أو تصريفية أو إزاحية نسميها الأحلام.

وعليه فأن الأحلام إنبعاجات طاقوية تتناسب مع طبيعة ذاتها وموضوعها، وصيرورتها في وعاء محتواها، وطبيعته الإحتوائية والإستيعابية القادرة على الإكتناز، لكن الإنفجار أو الإنصهار مصير كل وعاء يحوي طاقة مضغوطة أيا كان نوعها.

والنفس البشرية ذات طبيعة طاقوية متوافقة مع مدارات كينونتها، وسرعة دورانها حول جوهرها الطاقوي، فهي تستمد وجودها من مَعين كيان الطاقة المكبوس في نُويّة ديدنها، وجُسيمات منهجها التحركي التبادلي ما بين مستويات الطاقة المتماسكة، بحسبان تتشكل فيه ملامحها المتميزة كبصمات الأصابع.

ولهذا فالحُلم لغة طاقوية لها أبجدياتها التي إكتشفها المهتمون بالأحلام منذ أقدم العصور والأزمان، وهذه الأبجديات تتطور مع التقدم الذي يتحقق في ميادين الأجيال المتواكبة بإضافاتها الإبداعية والإختراعية، وآليات الحلم ثابتة وديناميكيات التعبير عن المكبوتات ذات جهاز نفسي لم يتبدل، وإنما قد تطور وتعقد لتوارث التراكمات الترابطية ما بين العُصيبات الدماغية للمخلوقات، بحكم التجارب المتدفقة والتفاعلات المتشعبة المنضدة في دياجير الأدمغة.

ويظهرالجهاز النفسي الحُلُمي كأيّ جهاز أو مُخترع يمر بتطورات وتعقيدات، كما حصل للسيارة والطائرة، فالفرق بين الأجيال الأولى منها، وما عندنا اليوم يكشف التطور والتعقيد الكبير، وهذا يمكن تشبيهه بأجهزتنا الحُلمية الدماغية المتوافقة في نشاطاتها مع إيقاعات الأمواج النومية ومراحل النوم المعروفة.

ويبدو أن التعبيرات الُحُلُمية البشرية، ذات نوعين : النوع السلبي وهو الحُلُم المَنامي، والنوع الإيجابي وهو الحُلم اليقظوي، والحضارة يصنعها الحُلُم اليقظوي، فكل ما هو قائم في واقعنا المعاصر كان حُلُما يقظويا.

فالبشرية أمضت مئات الآلاف من السنين وهي تحلم بالطيران، حتى تحقق الحُلم في بداية القرن العشرين.

والفرق بين الحُلم المَنامي واليقظوي أن الأول يعني النهاية وتبديد الطاقة، والثاني يعني تراكم الطاقة وإنجذاب الأفكار، والعمل والتواصل في البحث عن سبل الرجاء والأمل، بينما في الأول يتحقق القنوط والتفريغ والترويح، والشعور بالتحرر من الكائن المضغوط في دنيا البشر المتمحنة بوجودها.

ولهذا فأن الحُلُم اليقظاوي أو اليقظوي هو الذي يستحق البحث والتفسير والتقدير، والكشف عن آليات أن يكون ويتأكد في الواقع العملي، وليس التفضيضي الرقادي الذي يمكن تشبيهه بدخان الجمرات الخامدة.

والكثيرون من جيلٍ داستْ أحلامه اليقظاوية سنابك الجور والممنوع والحروب والشراسة والعدوان، ودثرته التطلعات المَنامية بأهوال التداعيات، والويلات الموشحة بلافتات ذات كلمات مأساوية، تقاطع أهدافها، وأفعالها متعدية على ذاتها وموضوعها.

جيل حَمَل حُلُمه كصرّة آهات على ظهره وهام في سرادقات المجهول، محاولا أن يَدُق وتدا في حبل خيمةٍ لم ينسجها منوال أصله وخيط جذره، وما تلونت حبالها بسلاّف فلذّات أكباد نبعه.

جيل إندحَست في نوَيّات خلاياه المنكوبة جميع أحلامه النهارية الشمسية الساطعة، وإندحرت في كيانات إقناطية ذات صمت أبيد، لتتوهم بأنها تنطق بلسان حالها، وهي في رقدة العدم، وخيبة الإستتار في خمور الألم ، المعتقة بأوعية السأم.

جيل يبحث عن الحلم العربي اليقظوي المنهوك المهلوك الذي تحوّل إلى أشلاء، وأفواه ألف وحش ووحشٍ به تلوك.

ذلك الحلم العربي اليقظوي المسحوق الممحوق، المُعلّبُ في أكياس الويلات الحضارية، المرمية في غياهب الخسران ومواقد النيران والدفع للهجيج والتيهان، هو موضوع العصر والقرن الحادي والعشرين، الذي يريد أن يدحوَ العرب في زواغير الأجداث، ويطمرهم بتراب الغابرات، ويخدعهم بالأكاذيب والضلالات، ويمتهنهم بالتناحرات، ليفرِّغ ما فيهم من الحَسنات، ويحكمهم بأوامر السيئات الموبقات، ويُعلمهم بأن قدرهم السبات ثم السبات.

جيل لا ينام لأنه يكره أحلام المَنام، فلا يعرفها ولا تعرفه، وما عاد يحلم وهو ينام، ويمضي في أحلام نهاراته وتوثبات تحدياته، وأمله أن يساهم بصناعة أدمغة نهارية مضاءة بشمس العرب الساطعة، التي من شدة نورها أعمت البصائر وصادرت العيون، هذا الجيل سيصنع جيلَ أكون، ويترجم حُلمه اليقظوي الرسالي المؤمن بأن الذي يريد ويحلم يكون، وينكر تبديد طاقات الحُلم في نوم عميق يسرق طاقات الفعل الرشيد!!

الحُلم اليقظوي جوهر المساعي الكينونية الحضارية الواعدة، التي تتبناه المجتمعات لتصنع حاضرها ومستقبلها، فلا نريد أحلام مَنام، ولا قعقعة عظام، وليدوي في دنيانا نداء عِصام، فالحُلم قوة دفعٍ مطلقٍ إلى الأمام!!

ويبدو أن الواقع العربي المعاصر بأمسّ الحاجة لسبر أغوار الأحلام اليقظوية المفتوك بها، ومحاولة إكتشاف آليات صيرورتها وتحققها، وكيفيات التحدي والتواصل معها، والإقدام وعدم الإحجام، لكي تتأكد إرادة أمة ترقد على صدرها أهوال نفايات العصور!!

حُلُمٌ تلخصه صرخة دوّت بأعماق أجيال القرن العشرين، ولا يزال صداها هاتفا بأجيال القرن الحادي والعشرين تلك هي: " ومَن يتهيب صعود الجبال......يَعِشْ أبدَ الدهر بين الحُفر"

فلنتسلق جبال أحلامنا بعزمٍ جديد، وفوقَ قِمَمِها سنفوز بالتفسير المَجيد!!

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم