تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

الفرص المتاحة وإضاعـتها

ahmad mohamadjawadalhakimالفرصة، في معناها الاصطلاحي العملي، هي الوقت المناسِب للقيام بعمل ما، وهي مُناسَبَة تسنح للإنسان من أجل الاستفادة منها في وقتها. إذن الفرصة هي عَرض، هي مشروع جاهز للإستثمار تهيأت فيه ظروف وشروط لتحقيق رغبة وطموحات فرد أو مجموعة أفراد، وما على هؤلاء إلا اقتناص هذه الظروف واغتنامها. ومما يجعل الفرصة ذات أهمية شديدة هي خصائصها المتعددة المتشعبة وارتباطها الوثيق بكلمتي الإنتهازي والانتهازية .لذلك سنذكر هذه الخصائص: أولاً، فائدتها ومنفعتها المؤكدة سواء كانت مادية أو معنوية التي تتطابق قيمتها مع ما يبحث عنه إنسان بمفرده أو مجموعة، لتحقيق غايات وأهداف مشروعة أو غير مشروعة. ثانياً، تنبع أهمية الفرصة من طريقة حصولها وطبيعة توفرها، إذ قد تأتي مباغتة، مفاجئة، دون توقع، دون مساهمة، إلى حد ما، من الذين سيستفيدون منها. بمعنى أن هؤلاء لم يبذلوا جهداً مميزاً في صنع الفرصة. على هذا الأساس فإن الفرصة تتكون من طرفين :طرف يوفر الفرصة ويمنحها، وطرف يستفيد منها ويستثمرها . غير أن هذا التقسيم يثير خلافاً وجدلاً بخاصة عن الطرف الذي يمنح الفرصة. هناك من يعتقد أن الفرصة لا تمنح، لا تأتي إنما يجب صنعها أو المبادرة والذهاب إليها. لكن إذا كان ذلك صحيحاً، فهذه العملية لا تسمى فرصة، إنما هي موضع لتحقيق أهداف الفرد وغاياته، أو هي مؤامرة. ثالثاً، إن الفرصة تتصف بسرعة مرورها وذهابها وتقديم عرضها، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:"الفرصة تمر مـرّ السحاب" .لذلك فإن أهميتها تتجلى أيضاً من السرعة في اتخاذ قرار الموافقة عليها قبل أن تفلت من اليد. رابعاً، إذا مرّت الفرصة إنه من النادر أن تتكرر مرة أخرى، ولو فرضنا أنها عادت فإن الظروف والأوضاع تكون قد تغيرت، لذلك ليس هناك ضمان أن تكون الفرصة التالية تطابق خصائص الفرصة كما جاءت في المرة الأولى، من ناحية يسرها وقيمتها. خامساً، إن ضياع الفرصة وتفويتها وانعدام الاستفادة منها يسبب ألماً وخسارة للفرد والمجتمع، ومن ثم يحصل ندماً وحسرة وأسفاً وحزناً لا يطاق على ما فات، كما وصف ذلك أيضاً أمير المؤمنين بقوله:" إضاعة الفرصة غصة".كما أن الندم والحسرة على ما فات لا ينفع ولا يفيد، كما يقول الشريف الرضي:

فقد طالما ضيعتُ في العيش فرصةً وهل ينفع الملهوف ما يُتلفُ

سادساً، تنبع أهمية الفرصة أيضاً من ضرورة توفر القدرة العقلية والأدوات والوسائل المادية، من أجل البحث عنها وكشفها ومن ثم التمكن من اغتنامها. سابعاً، للفرصة أهمية شديدة بسبب ازدواج غايات صاحبها، فقد تكون لخير الناس ومنفعتهم أو لشرهم والإساءة لهم. لكن من الطبيعي أن يكون صاحب الفرصة، الذي ينتهزها، مستفيداً بكلا الحالتين. فإذا كانت لصالح عامة الناس تسمى فرص الخير، الفرص الإيجابية، هي المطلوبة، أما إذا كان فيها ضرراً لهم تسمى فرص الشر، الفرص السيئة، السلبية، هي التي تكون مرفوضة. لابد أن نشير هنا، من ناحية اللغة العربية، أنه من الواضح أن يسمى الشخص الذي ينتهز الفرص جميعها "إنتهازي"، وممارسة فعل وسلوك استكشاف الفرص والسعي وراءها وانتهازها، يسمى "إنتهازية"، وهو أمر لا عيب فيه إذا كان في صالح الإنسان وليست هناك إساءة أو ضرراً للآخرين. لكن الذي حصل أن هذين المصطلحين قد شاعا وراجا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (العشرين)، بخاصة في الممارسة السياسية، وأصبحتا من المصطلحات غير المحببة، المكروه، حين أخذتا المعنى السيء لانتهاز الفرص، أي عندما يشعر الإنسان أن الآخرين قد وقعوا في محنة وأصبحوا في حالة ضعف، فينتهز هذه الفرصة لينقض عليهم ويفرض عليهم شروطه وينتزع منهم ما يريد، لذا يطلق على هذا الإنسان بالإنتهازي، الذي يمثل موقف أهل الغدر والأنانية والحيلة والخداع. أما موقف أهل العقل والحق فإنهم يتركوا مثل هكذا فرص ويبتعدوا عنها. وقد وصف الإمام علي هذين الموقفين خير وصف بقوله: " قد يرى الحُـوَل القُـلَب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين ".الحول القلب:البصير بتحويل الأمور وتقليبها. ثامناً، إذا كان وراء توفير الفرصة فرداً أو جهة ، فإنهم في أحيان كثيرة سيطلبوا ثمناً لعملهم هذا، من الطرف المستفيد .القضية المثيرة هنا، أن الثمن يكون باهضاً في مناسبات عديدة.

 

ضياع الفرص

تضيع الفرص، عادة، في حالتين.الأولى، في بداية ظهور الفرصة. والثانية عند استغلال الفرصة.

الحالة الأولى، تضيع الفرصة هنا لأسباب عديدة، منها حين لا تتوفر لدى الأنسان مهارات كالحذق والحزم والحكمة والفطنة واستخلاص العبر والاستشارة، والمقدرة على تفهم الأوضاع التي تواجه هذا الإنسان والتكيف حسب الظروف والأحوال . بمعنى أنه لا يمتلك قدرات الاستقراء الصحيح، والنظرة المتعمقة للأحداث.، أيضاً حين ينحصر تفكيره بالحاضر فحسب، دون النظر إلى المستقبل. من الأسباب أيضاً، بروز حالة نفسية خطرة عند الإنسان هي التردد والتهاون والتأجيل والتعثر في اتخاذ قرار حاسم مناسب بالسرعة الممكنة. ومن الأسباب الأخرى، افتقار الإنسان لرؤية صائبة عن قيمة الفرصة، كأن يعتقد أنها لا تنفعه نتيجة حساباته الخاطئة، أو يعتقد أنها ربما ستأتي مرة أخرى وتجلب له منافع أكبر، وقد يكون السبب هو انخفاض الثقة بنفسه حين يعتقد أن مشروع الفرصة قد لا ينجح.مع ذلك ربما يكون هذا الإنسان عاجزاً خاملاً غافياً، كما يقول الشاعر:

وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا

الحالة الثانية، حين يتمكن الإنسان من اقتناص الفرصة لكنه يخفق بعد ذلك في استثمارها وتطويرها بأفضل صورة.أسباب هذا الاخفاق عديدة، سنذكر الأهم من وجهة نظرنا، بخاصة ما يتصل بالفرص السياسية.لذلك نعتقد أنه طالما تجلب الفرصة منفعة وفائدة، فمن المرجح أنها ستغير من طبيعة النفوس الضعيفة للمستفيدين منها، كما تثير الصراعات فيما بينهم. وتتركز هذه المنفعة والفائدة غالباً على السلطة والثروة والجاه والزعامة.لهذا السبب فإن منفعة الفرصة تثير، عند الكثيرين، الأطماع والعداوات والحسد والحقد والمنافسة على المناصب والمسؤوليات والتهالك والتكالب عليها، كما تجعلهم يعملون ليلاً نهاراً من أجل الانتفاع بشتى الوسائل من مراكزهم إلى أقصى حد ممكن، وبذات الوقت استغلال الآخرين بأساليب غير أخلاقية، بالقوة والخبث والاغراءات.كما يتفنن قسم منهم بصناعة الأزمات من أجل النيل من خصومهم السياسيين.

إن الانشغال بكل ذلك وغيره يجعلهم غافلين عن تغير الأحوال، مستقرين مرتاحين على ما هم عليه، حين تصبح مكاسب الفرصة المتاحة هي الهدف والغاية الاساسية لوجودهم، ومدعاة للإستسلام بطول البقاء. وقد وصف الله تعالى هذه الحالة السيئة بقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) الحجر/3.

إن نتيجة سوء استخدام الفرصة، هو خسارة مواقع هؤلاء المستفيدين منها، وفي نهاية الأمر هلاكهم، لكن بعد أن يسببوا للمجتمع كوارث كبيرة، وإضاعة فرص تطوره وتقدمه.

 

أحمد محمد جواد الحكيم

*باحث وأكاديمي

 

في المثقف اليوم