قضايا

التسامح .. هل يمكن ان يتحقق في العراق؟

qassim salihyيحتفل العالم في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر باليوم الدولي للتسامح من خلال القيام بانشطة مؤسساتية وجماهيرية دعت اليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1996، وطالبت الحكومات بالعمل على النهوض برفاه الانسان وتقدمه وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والشعوب.وتقوم فكرة اليوم الدولي للتسامح على امكانية تفادي الحروب اذا ما تعلمت الشعوب ان تتعارف على نحو افضل، وتفهم أن ما يجمعها في تنوع ثقافاتها المثمر أقوى مما يفرقها، وانه يمثل ركيزة المواطنة المستدامة في عالم جديد يتيح لنا فرصا كبيرة للتفاهم نحو الافضل لتعزيز التكافل الفكري والاخلاقي والتربوي فضلا عن كونه وسيلة لبناء السلام وازدهار الابداع والابتكار.

وقد حرص إعلان مبادئ الأمم المتحدة على تعريف التسامح بنفي الفهم المغلوط عنه، واوضحت بأنه لا يعني عدم المبالاة، ولا يعني قبول كل شيء دون أي تحفظ، بل هو يعني احترام التنوع الذي يزخر به هذا العالم وقبوله والتصالح معه، وهو في جوهره "اعتراف بحقوق الإنسان للآخرين"، ولا يمثل قبول الاختلاف بسكون أو صمت، وإنما يمثل موقف اً ن لا ينفصل عن احترام حقوق الإنسان الأساسية. وكانت السيدة ايرينا بوكوفا المديرة العامة لليونسكو اوضحت "إن التسامح لا يعني الشعور باللامبالاة تجاه الآخرين، ولا يستبطن قبول كل المعتقدات وكل أنماط السلوك دون أي تحفظ، وهو لا يعني تدني التزام المرء بمعتقداته أو تهاون عزمه، والتسامح لا يعني الاستعلاء، ولا يحمل في طياته أية دلالة على أن الشخص المتسامح أرفع مرتبة من أي شخص".وفي هذا اشارة الى ان بعض المجتمعات تنأى عن التسامح باعتباره هوانا أو تساهلا أو ضعفا فيما هو في جوهره فضيلة تعكس قلب الإنسانية النابض بالمحبة والوئام والسلام. كذلك نبّه معهد جنيف لحقوق الانسان ان التسامح قيمة ما خلا منها مذهب او معتقد او دين او ثقافة، وانه ليس مجرد مانع للحروب والعنف، بل هو أيضا حافز للإبداع والابتكار والتجديد والاكتشاف.

والتساؤل هنا: هل نستطيع نحن العراقيين ان نستدخل هذه المعاني للتسامح ونعكسها في سلوكنا بعد 35 سنة من حروب كارثية واحترابات مذهبية وقومية ما تزال تنشب بين الحين والآخر؟

*

المجتمع العراقي قابل للقسمة بطرائق مختلفة: قومية، دينية، مذهبية، عشائرية، مناطقية .. لكن افضلها اختصارا بخصوص التسامح تصنيفه الى قسمين:الطبقة السياسية مقابل المجتمع بكل مكوناته.

ان التحليل السيكوبولتك للطبقة السياسية يشير الى ان العقل السياسي الحاكم تبرمج عبر اثنتي عشرة سنة على الكراهية والشك المرضي (البرانويا) وصولا الى الانتقام من الآخر .. فضلا عن ممارسته الاستبعاد والتهميش والحرمان التي تؤدي بحتمية سيكولوجية الى الاحباط والعدوانية والتعصب.

وبما ان السياسي العراقي صار، او صيرته العملية السياسية .. احول عقل، بمعنى انه يرى ما هو ايجابي في جماعته ويغض الطرف عن سلبياتها، فيما يضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ولا يرى ايجابياتها، فانه من غير الممكن ان يكون مهيئا لقبول التسامح، ليس فقط لطبيعته السيكولوجية التي تشبعت بالعنف والخوف من الآخر، بل ولأن تحقيق التسامح يحعله يخسر مصالحه وامتيازاته، لأن شيوع التسامح يفضي الى اشاعة السلام وشعور المواطن بالآمان .. وهذان يؤديان بالنتيجة الى استبعاده وانتخاب الكفوء والنزيه وغير المتطرّف.

هذا يعني ان الرهان على قبول الطبقة السياسية لفكرة التسامح وممارستها عمليا هو رهان خاسر من وجهة نظري، وانهم يمارسون الزيف في دعوتهم الى التسامح عبر وسائل الاعلام، لأنهم وصولوا الى قناعة مطلقة بأن بقاء مصالحهم مرهون ببقاء فرقتهم وقدرتهم على تعميق الخلاف مع الآخر بين جماهيرهم.

وعلى صعيد المجتمع نجد ان النسبة الاكبر من العراقيين ما يزالون غير مهيئين نفسيا ولا مقتنعين بان التسامح يمكن ان يتحقق في العراق على المدى المنظور ولهم في ذلك ثلاثة مبررات تبدو منطقية:

الاول:ان الطبقة السياسية الحالية ستبقى في الحكم لمدة طويلة ولن يتحقق التسامح ما دامت هي موجودة.

الثاني:ان الاسلام السياسي غير قادر على حماية الاقليات من غير المسلمين، فضلا عن ان المفهوم الحضاري للتسامح لا يستخدم مفردة (الأقليات) فيما هي ترد في الدستور العراقي.

الثالث:ان اللاوعي الجمعي لجماهير السنة والشيعة بما يحتويه من رموز يعدّها مقدسة ومعتقدات متخلفة وجامدة صيرته الازمات والفواجع ان يكون مثير فتنة، مع التنبيه الى أن اللاوعي الجمعي هذا هو الذي يحدد التصرفات في السلوك الجمعي.

والرابع:أقولها على مسؤوليتي .. ان العراقيين هم اكثر شعوب المنطقة في خلافهم مع الآخر.فهم لم يتفقوا، في تاريخهم الحديث، على ملك من بينهم عند تشكيل دولتهم، فاستوردوا لهم ملكا من الحجاز.حتى بعد ان صار العراق ديمقراطيا .. لم يتفقوا، بل ان احدى حكوماته تأخر تشكيلها تسعة أشهر.ولهذه (العلّة) سببان سيكولوجيان:

الأول، ان العراقي ورث عن جده السومري تعلقه بالدنيا.فالتاريخ يشير الى ان اسلافنا العراقيين كانوا دنيويين أكثر مقارنة بالاسلاف المصريين الذين كانوا آخرويين أكثر.وهذا يعني سيكولوجيا ان الانسان الآخروي يميل اكثر الى الزهد بالدنيا والتسامح مع الآخر، فيما الانسان الدنيوي يميل الى الخلاف مع الآخر لاسيما اذا تعلق الامر بالسلطة والثروة.

 

والثاني، ان العراقي تتحكم بشخصيته عقدة "تضخّم الأنا" .. بـ"توليفة" تجمع صفات من ثلاث شخصيات مختلفة:النرجسية والتسلطية والاحتوائية.اذ تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب .. أي إنها تريد من الآخرين أن يعجبوا بها بالصورة التي هي تريدها، وتأخذ من الشخصيتين التسلطية والاحتوائية حاجتها الى ان يكون لها اتباع مطيعون، واحتواء الآخرين ماديا وفكريا .. ولكم ان تلحظوا ذلك في شخصيات قادة العملية السياسية.

هذا يعني ان النسبة الأكبر من العراقيين موزوعون بين من هو ليس مهيأ نفسيا لتطبيق التسامح عمليا، وبين من يتمنى ذلك لكنه مقتنع أن هذا غير ممكن.

في ضوء هذا التحليل فان التسامح والتعايش السلمي في العراق لا يمكن ان يتحققا خلال عشر سنوات من الان حتى لو افترضنا انه تخلص من الارهاب وبقي موحدا.

بالمقابل هنالك تصور آخر ينظر لأمكانية تحقيق التسامح من النصف المملوء من الكأس .. مستندا الى ثلاث حقائق:

الأولى:التظاهرات.فما امتاز به المتظاهرون في مدن العراق المختلفة انهم كانوا موحّدين برغم اختلافاتهم المذهبية والدينية والفكرية، ما يعني انهم يحملون فكرة التسامح ويدعون الى التعايش السلمي وقبول الآخر.

والثاني يتمثل بقوة كبرى مؤثرة في المجتمع العراقي هي المرجعية الدينية في النجف بموقفها الداعي الى اقامة دولة مدنية حديثة تحترم الاديان والمذاهب والقوميات وتعمل على تحقيق التعايش السلمي بين العراقيين جميعا، وهو تحول ايجابي كبير اذا ما قارناه بموقفها في ستينيات القرن الماضي وفتواها المشينة بتكفير الشيوعيين التي تعني ضمنا الدعوة الى قتلهم.

والثالث هو ان الأقليات في المجتمع العراقي تتبنى فكرة التسامح لأنه هو الذي يضمن وجودهم في الوطن ويريحهم سيكولوجيا واجتماعيا، ولكونهم بمجموعهم يشكلون ثقلا نوعيا وكميا في الضغط على الاكثرية لتحقيق التعايش السلمي.

ومع ان هذه القوى الثلاث متقبلة لفكرة التسامح وتدعو للتعايش السلمي بين مكونات المجتمع العراقي، الا ان الضمانة في تحقيق ذلك تكون بالتنيسق فيما بينها وتشكيلها تيارا وطنيا عراقيا ضاغطا، وقيامها بنشاطات ثقافية وفنية ومسرحية وسينمائية ومجتمعية تزيد الوعي لدى المواطن العراقي بالمفهوم الحديث لفكرة التسامح، وتقنعه بان التعايش السلمي هو الحل، وتوصله الى حقيقة ان هذا لن يحصل الا بانتخاب عقل منفتح وروح متسامحة وصدر يسع الجميع .. لا تفصله عن الناس سيطرات عسكرية وحواجز كونكريتية.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

                

في المثقف اليوم