قضايا

خلفيات تاريخية قصمت ظهر الأمة الإسلامية ومهدت لواقعة كربلاء (2-2)

hashem mosawiمن هذه النقطة نبدأ الآن هذه المراجعة العامة للقسم الأول:

- في العصر الجاهلي:

كان يعنينا من دراسة العصر الجاهلي أن نلحظ الحياة العربية في تلك المرحلة كيف تتحرك وبأي اتجاهٍ كانت تتحرك، وما دور الفكر في عملية التحرك هذه؟

وبتلك العجالة التي بدأنا بها في دراستنا أهملنا استنتاجات مهمة، نعود نتذكرها على الوجه الآتي:

أولاً: الموقع المتوسط والطبيعة الجغرافية، قد أهّلت مكّة لتلعب دوراً مركزياً في التجارة، فصلات التعامل القديم المستمر بين سكان شبه الجزيرة العربية، والشعوب التي تصلها، أو تصدر عنها المواد التجارية المنقولة عبر بلاد العرب على طريقين رئيسيين، كان لهما صفة عالمية، قد تحوّلت – أي هذه الصلات- مع تمادي الزمن إلى صلات لا تقتصر على التعامل المادي، بل أضافت إليه صلات التفاعل الحضاري. ذلك بأن العرب لم يبقوا طويلاً مجرد ناقلين للبضائع، بل أصبحوا في المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام، مالكين للبضائع ولوسائل نقلها معاً. ومن هنا نشأت منهم فئات من التجار، ونشأت مدنٌ كثيرة، وازدهرت مدنٌ كانت موجودة، ولكن كانت على شكل قرى كبيرة، ولذلك سُميت مكة، بعد ازدهارها كمركز تجاري "أم القرى"، وساعد على ذلك الموقع المتوسط والطبيعة الجغرافية التي أهلّت مكّة لتلعب دوراً مركزياً في التجارة. وقد يسّر لهم هذا النوع من التطور، أن يُصبحوا أيضاً مالكين للأرض الزراعية، وأن يشيع عندهم في مختلف مناطق الجزيرة، تداول النقد الذهبي البيزنطي والنقد الفضي الفارسي، ثم أن تبرز في المجتمع الجاهلي فئات متميزة عن الفئات الأخرى بقدرتها على حيازة الأموال النقدية، والبضاعية والمقتنيات الثمينة، وعلى استثمار الآخرين غير القادرين على ذلك باستخدامهم في القوافل التجارية، وفي زراعة الأرض، وفي خدمة المنازل، وفي الحرف الصغيرة وبتسليفهم المال لقاء فوائد باهظة إلى حد الإرهاق (الربا).

هذا التمايز الجديد هو أحد أوجه الحالة الانتقالية، من المجتمع البدوي إلى المجتمع التجاري قد أحدث تخلخلاً واضحاً في النظام الذي كان سائداً في الجزيرة، أي: النظام القبلي البدائي، وذلك بحدوث الانقسام في العمل، وبروز علامات الانقسام الطبقي، وإن اختلف من حيث الشكل في البادية عنه في المدن، ولا سيما مدينة مكة التي كانت المركز الأكثر تطوراً لهذا الوضع الطبقي الجديد.

ثانياً: كان لابد لهذا الوضع الجديد من إعادة النظر في منظومة الأخلاق والقيم السائدة، وأن يوجد لنفسه شكلاً سياسياً يُطابقه، فظهر هذا الشكل فعلاً في مكة حيث بلغ التناقض الاجتماعي درجةً أكثر حدَّةً مما كان في المناطق الأخرى، وكان تجمع زعامة قريش في "دار الندوة" للتشاور في تنظيم شؤونهم المدنية والاقتصادية والدينية، هو الشكل السياسي الذي اعتبرناه الشكل الجنيني للدولة، أن هذه "المؤسسة" (دار الندوة) كانت ذات سلطات تشريعية وتنفيذية معاً، يملكها الزعماء الأغنياء وحدهم، ويفرضونها على سائر الفئات المستضعفة من الفقراء.

ثالثاً: كانت الظاهرة الدينية في المجتمع الجاهلي هذا بالذات، تنعكس عليها في وقتٍ واحد الحالة الفكرية والاجتماعية كلتاهما، فهي – أي الظاهرة الدينية – كانت تُعبّر عن التصورات الذهنية المتطلعة، إلى نوعٍ جديد من العلاقات بين الإنسان والإنسان من جهة، وبين الإنسان والكون والطبيعة من جهةٍ ثانية. وقد رأينا الانعكاس الاجتماعي على الظاهرة الدينية يبدو في شكلين اثنين: أولهما: تركيز أغنياء مكة للزعامة الدينية في أيديهم، وفي مدينتهم حيث تقوم الكعبة التي تجتمع فيها أصنام معظم القبائل، ويحجون إليها في مواسم معينة من كل سنة، وتتخذ هذه المواسم الدينية صفة الأسواق التجارية في الوقت نفسه. وبذلك أصبحت الزعامة الدينية لأغنياء مكة دعامة مادية لمصالحهم الاقتصادية، ومورداً هاماً للاستثمار والثراء، تعزيزاً لموقعهم الطبقي "الطبقية". والشكل الثاني، ما كان يبدو من دعوات محلية هنا وهناك، لترك عبادة الأصنام، ولعبادة إلهٍ واحد له الصفة الشمولية غير المنظورة. وكان أغنياء مكة يقفون من هذه الدعوات موقف المعارضة، لأنها تعارض زعامتهم ومصالحهم المادية على المدى القريب فقط. حيث كانت الأصنام المجلوبة من بلاد الروم كمقتنيات ثمينة تُعدُّ من أبرز مظاهر التمايز الطبقي الذي استهدفته الأصوات الداعية للتغيير، بعد اكتسابها لقيمة اعتبارية بحيث فاقت ما يتلّقاه مالكيها من تبجيل، وذلك بعد موتهم كما يحدث الآن لمقتنيات المشاهير من مُضاعفة أثمانها بعد موتهم. وكان الصراع بين اليهودية والمسيحية أحد الوجوه الممثلة لهذا الشكل من الانعكاس الاجتماعي على الظاهرة الدينية. ونعني به ذلك الصراع الذي ظهر في اليمن، بالأخص في أواخر القرن السادس، وكان واضحاً أنه ليس صراعاً دينياً بقدر ما كان صراعاً بين حكام البلاد المحليين والأحباش الطامحين إلى السيطرة على اليمن، باسم المسيحية، ومن ورائهم الدولة البيزنطية.

ومع ذلك كان أيضاً للظاهرة الدينية هذه، جانبها الفكري شبه المستقل في نشوء وضعٍ جديد يهز الثقة بمنظومة الأخلاق والقيم السائدة، ويدفع الناس لطرح مفاهيم جديدة تستجيب للوضع الجديد، الظاهر عن الجانب الاجتماعي. فإن الدعوات الدينية المتعددة، والخواطر التأملية ذات الطابع الروحي والديني التي كانت تبدو في كلمات "الحكماء" (وهم فئة معروفة في الجاهلية)، وفي خطب الكهان، وفي تصورات بعض الشعراء، وفي كثيرٍ من الأمثال الشعرية السائرة، وفي بعض الأساطير – إن كان ذلك، كان يُعبّر عن نزعات فكرية جديدة، يُرافقها نوعٌ من الجدل العقلي بأبسط حدوده. ونحن نجد صورة لهذا النوع من الجدل في القرآن الكريم حين يحكي عن أصناف الاعتراضات التي كان يوجّهها خصوم محمد (ص) من الجاهليين، إلى معتقداته الإيمانية التي كان يُبشّر بها فيهم أوائل إعلانه الدعوة الإسلامية. وذلك بعد نشوء وضع جديد يهز الثقة بالمنظومة الأخلاقية والقيم السائدة، ويدفع الناس لطرح واقتراح مفاهيم جديدة، تستجيب للوضع الجديد. ففي هذه الاعتراضات التي وردت في القرآن الكريم دلالة على أنه كان لدى الجاهليين نوعٌ من أشكال الوعي التأملي في طبيعة الوجود، حتى لنجد بين هذه الاعتراضات ما يدل على وجود ناسٍ يُفكّرون في الوجود، بما يشبه مدرسة الطبيعيين من اليونان القدماء، وهؤلاء هم الذين سمّاهم المسلمون بالدهريين، لأن القرآن الكريم يحكي عنهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (سورة: الجاثية، من الآية: 24).

إن هذه الظاهرة الدينية بمختلف صورها وأشكالها، كانت أبرز الأشكال الثقافية والفكرية تعبيراً عن حركة الحياة العربية الجاهلية في اتجاهاتها، نحو مرحلةٍ جديدة من التطور الاجتماعي والفكري، ولكن يلفت النظر مع ذلك، تطور بدرجة ملحوظة في الظاهرة الفنية الأكثر شيوعاً يومئذٍ، وهي المتمثلة في لغة التعبير الفني، ولا سيما التعبير بالصورة الشعرية، فالشعر العربي الجاهلي بقي مثالاً يُحتذى به حتى في العهود الإسلامية الأكثر تطوراً وتقدماً. وقد سمح لنا ذلك باستنتاج أن هذا النوع من التعبير الفني، إضافةً إلى الغنى البارز في مادته اللغوية، متصل بتاريخ طويل سابق لم ينقطع بالانقطاع التاريخي، الذي حدث في حياة الجزيرة العربية بين العهد الحضاري القديم، والعهد الجاهلي الذي نتحدث عنه.

ولقد عُدنا في عصر ظهور الإسلام للنظر في العقائد التي جاء بها الإسلام وفي التشريعات التي أحدثها، وفي القضايا المتعددة التي أثارها هذا الحادث الكبير في المجتمع العربي، وكانت استنتاجاتنا على الوجه الآتي:

أولاً: إنَّ الدين الجديد (الإسلام) ظهر حاملاً، لا بمضمونه الاجتماعي والإيماني وحسب، بل كذلك بكثير من أشكاله الدينية والعقائد الإيمانية، صفته التاريخية، أي كونه جاء تطويراً لما كان يتحرك في أحشاء المجتمع الجاهلي من اتجاهه، اجتماعياً ودينياً وفكرياً، نحو تغيرات تاريخية. وقد كان الإسلام بالفعل مُعبّراً عن أشكال الوعي الإنساني، حيث كان يمكن أن يتطور إليها هذا الوعي في تلك المرحلة من التاريخ البشري، ولا نقول التاريخ العربي فقط. ولقد رأينا – مع ذلك-، أن الصفة التاريخية هذه تظهر حتى في الشكل الفني الذي قدّم الإسلام به إلى الناس وثيقته الكبرى: القرآن الكريم. إذ جاء النص القرآني صورةً رائعةً وأخَّاذة في فن التعبير الجمالي العربي، الذي قلنا سابقاً عنه: إنَّه كان على درجةٍ عاليةٍ من التطور في الفترة الجاهلية المتصلة بعهد ظهور الإسلام.

لقد عَدَّ المسلمون القرآن وحياً إلهياً يعجز البشر أن يأتوا بمثله، ولكن حتى مع الاعتقاد بذلك، لم ينكر المسلمون أنه جاء بأسلوب البلاغة العربية ذاتها، ولكن على صورة أرقى وأصفى وأروع. وهذا صحيحٌ دون شك، غير أنه يُثبت ما نقوله من أن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظواهر الموجودة فعلاً في الحياة الجاهلية.

ثانياً: إنَّ العقائد الإيمانية التي بشّر بها الإسلام، تتضمن كثيراً من العقائد التي كانت تتضمنها اليهودية والمسيحية والحنيفية، عن قضية خلق الكون، والخالق والإله الواحد، وحدوث العالم، ووجود العالم الأخروي، والقيامة، مع المعارضة الشديدة لعبادة الأصنام. وتحدّث القرآن الكريم في مجال التبشير بعقائده الدينية، عن كثيرٍ من القضايا التي كانت موضوعة للجدل الشائع في مجتمع الجاهلية. إن كل ذلك يُثبت صحة الاستنتاج الذي ذكرناه آنفاً، من أن الإسلام انطلق من مجتمعه وعصره، وأنه لم يجئ إلى الأرض منفصلاً عن علاقته التاريخية بهذه الأرض، أو – بالأقل- عن هذا الجزء الذي ظهر فيه من أجزاء الأرض.

ثالثاً: إنَّ العقائد الإيمانية هذه نفسها جاءت إلى ناس ذلك المجتمع، حاملةً في أعماقها الخفية شكلاً دينياً من أشكال التعبير عن الدرجة، التي كان قد بلغها الوعي الاجتماعي عندهم. وقد شرحنا هذه الفكرة في الكلام عن مبدأ التوحيد ومبدأ القيامة، إذ اعتبرنا المبدأ الأول هو الشكل الميتافيزيقي المعبّر عن الاتجاه الذي كان يُحدّده الانقسام الطبقي الجديد في الجاهلية من تحطيم الإطارات القبلية الضيقة، لنشوء إطار واحد اجتماعي أوسع نطاقاً، يستطيع أن يجمع الناس في وحدات أكثر شمولاً وتوحيداً. واعتبرنا المبدأ الثاني (القيامة) هو الشكل الميتافيزيقي أيضاً للتعبير عن تطلع جماهير الفقراء إلى التعويض عن سوء حالتهم المادية من جهة، وإلى الاقتصاص من الفئات العليا التي تمتاز عنهم بالثراء، أو تظلمهم بوسائل الاستثمار من جهةٍ ثانية.

رابعاً: إن كثيراً من التشريعات الاجتماعية التي جاء بها الإسلام، كانت تعبيراً مباشراً عن الواقع الاجتماعي الموضوعي، من وجهة تخفيف الشقاء المادي عن الفقراء، بتحريم الربا والاحتكار، وبفرض بعض الضرائب على الأغنياء. إضافةً إلى التشريعات المتعلقة بتنظيم العلاقات الاجتماعية، ومنها العلاقات الإنتاجية، تنظيماً لا يخرج عن الأساس الذي تقوم عليه الملكية الخاصة وما ينشأ عنها من التمايز الطبقي.

خامساً: إنَّ الإسلام أقام "نظريته في المعرفة، ومعرفة الأصول والقواعد العامة للتشريع على اعتبار الوحي الإلهي هو المصدر الوحيد لها، وحصر قدرة البشر في المعرفة الحسية، وما تستطيع هذه أن تمد به البشر من معارف مباشرة، تجريبية خالصة. وبهذه الطريقة أقام الإسلام علاقة متبادلة بين المعرفة والإيمان. وهذه العلاقة جعلت المعرفة العقلية الداخلة في مقدرة الإنسان لا تتجاوز حدود الاستفادة من المعارف الحسية لدعم العقائد الإيمانية.

لقد كان من الطبعي أن نستنتج من ذلك، أن الإسلام قطع طريق الجدل الفكري في شؤون العقائد، وكل ما يتعلق بعالم ما وراء الطبيعة، ولكن الوثائق والنصوص الإسلامية لم تترك لنا هذا الاستنتاج مجرداً من الدليل النقلي، إذ قدّمت لنا الشواهد على صحة استنتاجنا هذا بما جاء في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي (ص) التي تمنع الجدل في هذه الأمور أو تكرهه. ولكن الفكر العربي حين وجد طريقه إلى التطور مسدوداً من هذه الجهة، لجأ إلى طريق آخر، هو طريق "الاجتهاد بالرأي" في تطبيق القواعد والأصول العامة للتشريع الإسلامي، إلى أن تتيسر له الظروف الملائمة لشق طريق تطوره من الجهة الأولى، أي الجدل العقلي حتى في المسائل الإيمانية وميتافيزيقا الكون. وقد تيسّرت له هذه الظروف، فعلاً بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين، واشتداد الصراع الحزبي السياسي والمذهبي، إذ وُلدت البذور الحية للتفكير الفلسفي، ثم نمت هذه البذور نمواً طبيعياً في حضانة الحياة العربية – الإسلامية، حتى أثمرت في القرن التاسع للميلاد ما أصبح "فلسفة عربية".

في عصر الخلفاء الراشدين:

قُمنا بدراسة أهم الظواهر التاريخية في هذا العصر، وهي الظاهرات التي نشأت في أحضانها أنواع من الصراع الديني ثم الحزبي: السياسي والمذهبي، وأهمية هذا الصراع في بحثنا تكمن في أن جانباً كبيراً منه تحوّل إلى صراع فكري و"أيدولوجي"، منذ قيام العهد الأموي، حيث اندمجت معه، أو سارت في مساره، تيارات فكرية و"أيدولوجية" أخرى، كتيار المعتزلة، والتيار الذي ظهر في أفكار الحسن البصري، وتيار القدرية ... الخ.

ومن الظواهر التاريخية في عصر الخلفاء الراشدين التي وقفنا عندها أيضاً، ظاهرة الفتوحات العربية التي بدأت منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه. وهنا كذلك يهم بحثنا من مسألة الفتح العربي خارج الجزيرة، كونها المسألة التي تدخل عاملاً كبير الأثر في وضع الفكر العربي على طريق تطوره العاصف في مجرى التفكير العلمي والفلسفي، ذلك لأن ظاهرة الفتح قد مهّدت الظروف الموضوعية للتفاعل الاجتماعي والثقافي بين العرب وشعوب البلدان المفتوحة، وهو التفاعل الذي أدى دوره الحيوي الضخم في تبلور الخصائص المميزة للثقافة العربية وللفكر العربي، وفي تمازج العناصر الداخلية والخارجية، التي كانت الفلسفة العربية من نتاجها.

في إطار هذه الظاهرات التاريخية كلها دارت دراستنا، وفي هذا الإطار ذاته نعرض أهم الاستنتاجات التي أمكننا استخلاصها:

أولاً: إن نشوب الصراع على الخلافة فور وفاة النبي (ص)، قد فجّر نوعاً من الصراع الاجتماعي، الذي كان قد اتخذ في حياة النبي (ص) شكلاً آخر، جعل منه في بدء ظهور الإسلام صراعاً بين نقيضين رئيسين: الدين الجديد وأتباعه في جانب، وأغنياء قريش وزعاماتها وتقاليدها في الجانب الآخر، ثم جعل منه انتشار الإسلام وانتصاره بعد الهجرة على معارضيه في مكة صراعاً بين نقيضين رئيسين آخرين: الأنصار والمهاجرين في جانب، والقبائل المتشبثة بتقاليدها وأوضاعها الاجتماعية السابقة للإسلام في الجانب الآخر.

أما الآن، وبعد وفاة النبي (ص)، فقد تحوّل التناقض الرئيس إلى طرفين جديدين، أو إلى أطراف جدد، وهو – علي كل حال - تناقض بين المسلمين أنفسهم هذه المرة، وكانت الخلافة بحد ذاتها، كمنصب ديني، تبدو أنها المحور الذي يدور عليه هذا التناقض، في حين أن الدوافع الاجتماعية والطموح إلى ما يعنيه هذا المنصب من امتلاك زمام السلطة، كانت تكمن وراء هذا التناقض. ومن الظواهر التي تلفت النظر في هذا المجال، أن "حروب الردة" التي شغل بها المسلمون فور موت النبي (ص) كذلك، لم تستطع أن ترد التناقض الرئيس حول الخلافة إلى هذا المحور الجديد: "حروب الردة"، بل حتى حروب الفتح التي بدأت مسيرتها الأولى خارج الجزيرة العربية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، أي في الوقت الذي لم تكن قد انتهت فيه "حروب الردة" نفسها- نقول: حتى حروب الفتح هذه لم تستطع أيضاً، أن تُحوّل التناقض الرئيس عن محور الخلافة إلى المحور الجديد الآخر: "حروب الفتح".

ويلفت النظر هنا كذلك، بصورة مُثيرة، أن ينجح المسلمون ذلك النجاح الباهر في حروب الردة، وفي حروب الفتح معاً، على الرغم من أن التناقض الرئيس ظلّ قائماً حول قضية الخلافة. ولكن الدوافع الاجتماعية المشتركة للقضاء على حركة الارتداد في الجزيرة، ولتوسيع الأرض العربية خارج الجزيرة، قد جعلت ذلك التناقض الرئيس على أمر الخلافة يتخذ شكلاً من الخلاف الديني في مفهوم هذا المنصب: أهو منصب إلهي، أم منصب زمني يرجع شأنه إلى رأي المسلمين أنفسهم؟، مع النظر إلى البعد الاجتماعي الحقيقي الخفي لهذا الشكل من الخلاف، وهو كون الخلافة كمنصب إلهي تعبيراً عن حلم البسطاء بالعدالة الاجتماعية، في حين كون الخلافة كمنصب زمني تعبيراً عن الأرستقراطية الغنية. غير أن هذا الشكل من الخلاف الديني لم يبق ظاهراً على سطح الأحداث إلا في عهدي الخليفتين: الخليفة الأول أبو بكر الصديق – رضي الله عنه، والخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.

ثانياً: إنَّ الشكل الديني للصراع على الخلافة بدأ يتكشّف عن قاعدته الاجتماعية والسياسية منذ خلافة عثمان بن عفان – رضي الله عنه، الخليفة الثالث. وقد ساعد على ذلك ما حدث في سلوك الحكام الذين يُمثّلون الخليفة في الأمصار الممتدة إليها سلطة الخلافة، من صرف أكبر اهتمامهم إلى الإثراء الشخصي بطرق اعتباطية، كامتلاك أراضي الآخرين، وفرض الضرائب الثقيلة على السكان، حتى تجمّع الاستياء من هذا السلوك وتكدس هنا وهناك ثم تحوّل إلى ثورة قام بها فريقٌ من البسطاء، وعلى شكل وفود قدمت إلى مكة والمدينة من مختلف الأمصار، لتُعرب عن احتجاجها إلى الخليفة عثمان، وتطلب منه التنازل عن منصب الخلافة، فلما رفض ذلك حاصرته هذه الوفود في داره حتى لقي مصرعه.

وبالرغم من أن لتحريض بعض الأطراف السياسية المتصارعة في مكة والمدينة أثراً في دفع الثورة إلى هذه النهاية، فإن هذا البعض من السياسيين المتصارعين قد اتخذوا من مصرع عثمان ذريعةً لتوجيه أهداف الثورة الاجتماعية المشروعة ضد الحكام الجائرين، توجيهاً آخر يذهب بالصراع السياسي إلى محوره الأول على أشد ما يكون حدةً وعنفاً، وهذا بالذات ما أشعل حروباً "داخلية" بين زعماء المسلمين، "كحرب الجمل" في البصرة بين علي بن أبي طالب – عليه السلام- من جهة، وطلحة والزبير بقيادة أم المؤمنين عائشة زوج النبي (ص) من جهةٍ ثانية، وحرب "صفين" بين جيشي علي ومعاوية، وكحروب الخوارج الذين خرجوا من صفوف علي في صفين، وتألف منهم حزبٌ جديد يُحارب كلاً من "علي"، ومعاوية بعد أن حكموا بكفرهما معاً.

ثالثاً: إنَّ حروب الفتح لم تكن تجري في معزل عن الأحداث "الداخلية" التي كانت على تلك الحالة التي وصفناها من الصراع السياسي بين الزعامات الإسلامية، بل كانت سياسة الفاتحين في البلدان المنضوية إلى حكمهم تتأثر كثيراً بحركة هذا الصراع، وقد انتشرت آثارها في تلك البلدان، وانقسم الناس فيها – أي المسلمون منهم - بين مُتحزّب لهذا الفريق ومُتحزّب للفريق الآخر، فكان لعلي حزبه الكبير في العراق وإيران، ولمعاوية حزبه الغالب في بلاد الشام، أما في مصر فقد كان التحزب أقل بروزاً بين جماهير البسطاء، غير أنه ظهر في آراء القضاة ورواة الحديث النبوي من الصحابة وتابعيهم، أي أنه ظهر على أشده في الأوساط المثقفة وأهل الرأي.

رابعاً: إنَّ سياسة الفاتحين في البلدان المفتوحة كان يغلب عليها الطابع العسكري في معظم العهد الراشدي. ولذلك اتخذوا لحياتهم في المدن، التي أنشئت أول الأمر لإقامة الجيوش الفاتحة أسلوباً، حجز بينهم وبين حياة السكان الأصليين. فكان لهذا الطابع العسكري الغالب أثره في تأخير حركة التفاعل الثقافي والاجتماعي التي أدت بعد ذلك إلى نتائجها العظيمة في تطور الفكر العربي والثقافة العربية، كما سنرى ذلك في سياق دراستنا.

تطور الموقف، وظاهرة التشيّع:

لا يمكن لنا الفصل بين الموقف والنظرية. فالموقف في أي أمرٍ، أو رأيٍ أو اتجاه ليس شيئاً يستحق الاهتمام، إن لم يكن له سندٌ من فكرٍ نظري، أو قاعدة مبدئية ينطلق منها. ويُقال من الجانب الآخر: الأخذ بنظرية معينة في مسألة ما هو بذاته موقف، وإلا فهو نوعٌ من التجريد المطلق القائم في الفراغ.. أي أن بين الموقف والنظرية علاقة جدلية. وهذه العلاقة تؤكد عدم إمكان الفصل بينهما، لكن طبيعة البحث والإيضاح تقتضي منا هنا هذا الفصل الشكلي بين الأمرين:

بناءً على ذلك نقول: إنَّ التشيّع من حيث هو موقف في الإسلام، نشأ مع نشوء مسألة الخلافة فور موت صاحب الدعوة الإسلامية، ثم جعل هذا الموقف يتبلور ويتفاعل مع أحداث الحياة العربية- الإسلامية، حتى نشأت وتفرعت عنه مواقف سياسية، وفكرية: كلامية وفلسفية، تألفت منها مذاهب وفرق شيعية متعددة، بعضها تضاءل مع الزمن، وبعضها تحول إلى موقف آخر يختلف عن منطلقه الأساس، وبعضها نما وتصلب واتسعت قاعدته ولا يزال محتفظاً بوجوده وأرضه ومنطلقه.

ومهما اختلفت فرق الشيعة في التاريخ، من حيث المبدأ والاجتهاد، ومن حيث المحافظة على الارتباط بالأصول الإسلامية أو الانقطاع عن هذه الأصول، فإن هناك أمراً مشتركاً بينها في الأغلب، هو الموقف من "شخص" علي بن أبي طالب -عليه السلام. وهذا الموقف كثيراً ما كان يتخذ – عن قصد أم غير قصد، من قريب أم من بعيد – تعبيراً غير مباشر عن موقف سياسي أو طبقي تجاه هؤلاء الحكام، أو أولئك من حكام دولة الخلافة الإسلامية، أموية أم عباسية. أم غيرها. وقد انطبع الموقف السياسي أو الطبقي –غالباً- بطابع المعارضة، وكثيراً ما كانت المعارضة هذه تصطبغ بالدم والعنف: إما في معارك وانتفاضات دموية، وإما في شكل اضطهادات سياسية، تصل بالشدة والبطش أحياناً إلى أن تكون مجازر بشرية رهيبة.. وقد أشرنا من قبل إلى إحدى الانتفاضات الشيعية الأولى على الأمويين، وقد تواصلت أحداث المعارضة السياسية الشيعية للحكم القائم في معظم العهود العباسية، كما تواصلت الاضطهادات السياسية الشيعية في مختلف مراحل التاريخ السياسي العربي – الإسلامي، حتى نهاية عهد الخلافة العثمانية التركية في مطلع القرن العشرين، ولم يكن يتغير الموقف الشيعي المعارض إلى الموقف المؤيد، إلا في الفترات التاريخية التي يظهر فيها حكام شيعيون هنا وهناك، كالدولة البويهية في إيران، وإمارة سيف الدين الحمداني في حلب أثناء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وكالدولة الفاطمية في بلدان المغرب العربي ومصر في القرن الرابع نفسه، وفي الفترات التي اتفق أن حصلت فيها مهادنة الشيعة لبعض الخلفاء (المأمون العباسي).

وهنا نلحظ ظاهرة شيعية جديرة بالاهتمام، هي أن الموقف السياسي المعارض كثيراً ما كان يتخذ طابعاً، أو بعداً اجتماعياً، بمعنى أن المعارضة لا تكون لشكل الحكم وأشخاص الحاكمين بقدر كونها معارضة، من حيث الجوهر، لأساليب الحكم المتبعة تجاه الطبقات والفئات الاجتماعية المستضعفة. وغير بعيد أن يكون وراء هذا الموقف كون عامة الشيعة أنفسهم ممن يكابدون الاضطهاد الاجتماعي، تبعاً لاضطهادهم السياسي، من حيث هم جزء عضوي من الطبقات والفئات الاجتماعية ذاتها، التي تعاني الاضطهاد من الطبقات المسيطرة.

ما هي النظرية لدى الشيعة:

من العسير تحديد النظرية الشيعية تحديداً مطلقاً وشاملاً، لأن الشيعة افترقت منذ موت الإمام الرابع علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، وهو الذي نجا من مجزرة كربلاء التي استشهد فيها أبوه الحسين بن علي – رضي الله عنه - افترقت الشيعة منذ ذاك الوقت فرقاً بدأت بثلاث: الإمامية (أتباع الإمام محمد الباقر بن زين العابدين)، والزيدية (أتباع زيد بن علي زين العابدين)، والكيسانية (أتباع محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب – عليه السلام- مباشرةً، ونُسب إلى أمه: الحنفية). ثم أخذت الفرق الشيعية، منذ ظهور الطلائع الأولى للتفكير الكلامي – الفلسفي، تتشعب وتتعدد، وذلك تبعاً لما كان يدخل على النظرية الشيعية من أفكار جديدة، تتحرك وتتموج في ذلك المجرى الفكري الذي بدأ يتكون، أولاً من البحث في مشكلة القدر، ومسؤولية الفعل الإنساني، وعلاقته بالفعل الإلهي، ومن الصلة بين بحث هذه المشكلة ذاتها والصراع السياسي الحزبي، حول مسألة الخلافة – والخلافة الأموية بالأخص - ثم بدأ يتبلور – ثانياً – خلال نهوض الحركة الكلامية – الفلسفية النامية الصاعدة.

ولكن، مهما يكن عسيراً تحديد النظرية الشيعية بصورة مطلقة وشاملة، بسبب مما تقدم، فإنه ليس عسيراً أن نحدد الأصول الأولى لهذه النظرية، أو القاعدة التي انطلقت منها، وقامت عليها الأبنية المتعددة لمختلف النظريات الشيعية: المذهبية، والفكرية.

فإن الشيعة، على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، ينطلقون نظرياً من القول: إنَّ علياً بن أبي طالب – عليه السلام- هو الشخص الأول في المسلمين الذي له حق السلطة، بعد النبي (ص)، وأن هذه السلطة حقٌ إلهي وليست حقاً للناس في اختيار من يصلح لقيادتها، لأن الله وحده يعرف أين تكون مصلحة البشر، وكيف يكون خير دنياهم وآخرتهم. لذلك عُدَّ الشيعة أن الإمامة ركنٌ من أركان الأسس للإسلام، أي من أصول العقيدة الإسلامية.

ذلك هو الأصل، وتلك هي القاعدة الراسخة للنظرية الشيعية، مهما كان الرأي بعد ذلك في شكل هذه السلطة وطابعها، الروحي والزمني. وبعد هذا يختلف الشيعة كثيراً: فهناك الشيعة المعتدلون، وهناك الشيعة المتطرفون في فهم السلطة التي يضفونها على شخص علي بن أبي طالب – عليه السلام، وهؤلاء هم المعروفون في التاريخ الإسلامي بـ"الغلاة"، لأنهم يُغالون في نظريتهم إلى حد إضفاء صفات الألوهية على شخص علي، ويتفق المسلمون، الشيعة المعتدلون والسنة، على خروج هؤلاء الغلاة على أصول العقيدة الإسلامية إطلاقاً، وإن كان المؤرخون يطلقون اسم الشيعة على كل فرقة تتصل نظريتها، أساساً، بشخص علي – عليه السلام، في حين أن الإمامية، والاثني عشرية، والزيدية من فرق الشيعة، تتنصل من نسبة التشيع إلى تلك الفرق المتطرفة، وهم يسندون رأيهم في إنكار التطرف والمغالاة إلى عقيدتهم الإسلامية، القائمة على وحدانية الله، وأنه ليس بجسم وليس كمثله شيء في الكائنات، وعلى نبوة محمد (ص)، وعلى القول بالقيامة والبعث في عالم الآخرة، هذا أولاً. ثم هم يستندون ثانياً إلى قول للإمام علي – عليه السلام- في إحدى خطبه: "سيهلك فيّ صنفان: مُحبٌ مُفرِط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومُبغضٌ مُفْرِط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس حالاً النمط الأوسط فالزموه". ويروي الشيعة هذا القول بصيغة أخرى عن علي، تقول: "هلك فيّ اثنان: مُحبٌ غال، ومُبغضٌ قال". وبالمعنى نفسه قال الإمام الشيعي الرابع، علي بن الحسين زين العابدين: "يا أيها الناس، أحبونا حب الإسلام، فما برح حبكم حتى صار عليها عاراً".

نظرية الشيعة المعتدلين:

أما النظرية الكاملة للفرق المعتدلة من الشيعة، فتقوم – أولاً- على الأصول الأولى لعقيدة الإسلام، التي أشرنا إليها منذ قليل، وتقوم – ثانياً- على القول: بأنَّ الحق بالخلافة بعد النبي مباشرةً لعلي بن أبي طالب – عليه السلام- ثم لأولاده بالتتابع، وهو حقٌ إلهي يختار له الله من يشاء من أعلم الناس، وأفضلهم خلقاً وديناً، ولذلك توجب أن ينص الله على من يختاره لهذا الحق على لسان نبيه محمد (ص). أما القول بأن علياً نفسه هو الذي اختاره الله، فيستدلون عليه بنوعين من الدليل، يسمون الأول: الدليل العقلي، ويسمون الثاني: الدليل النقلي، أو النّص. أما الدليل (العقلي) فهو:

أولاً: إنَّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الخطأ كالنبي، ليكون أهلاً لحمل أمانة العقيدة والشريعة بعد النبي، ثم تقول الشيعة أنه لم يكن عند وفاة النبي (ص) معصوماً غير علي بن أبي طالب – عليه السلام- بالإجماع. فيجب إذن أن يكون هو الإمام.

ثانياً: إن شرط الإمام كونه لم تصدر عنه معصية، وبما أن علياً بن أبي طالب – عليه السلام- لم يعبد الأصنام قبل الإسلام قط، فقد تعيّن أن يكون هو الإمام.

ثالثاً: إنَّه يجب في الإمام أن يكون أفضل علماً من غيره في زمانه، وقد كان "عليّ" كذلك، فوجب إذن أن يكون الإمام لا أحداً سواه.

غير أن هذه الأمور الثلاثة التي جعلها الشيعة دليلهم العقلي، يدفعها أهل السنة بأنه ليس هناك من برهان على اشتراط العصمة في الإمام، ولا على اشتراط عدم الإتيان بالمعصية من قبل، ولا على اشتراط أن يكون أعلم أهل زمانه، بل يكفي أن يكون ذا مؤهلات كافية بمهمات الخلافة، وأن أهل الحل والعقد هم الذين يختارونه.

وأما الدليل الآخر للشيعة على إمامة علي بن أبي طالب – عليه السلام، وهو النص، فقد جاء عندهم متعدد الوجوه، فهناك الحديث المعروف بـ"حديث الغدير"، أو "حديث الموالاة" وهو الذي نطق به النبي (ص) حين وقف، أثناء عودته من مكة إلى "المدينة" بعد أن حجّ حجته الأخيرة، في مكانٍ من الطريق يدعى "غدير خم"، وكان معه جَمْعٌ من الصحابة، فقام فيهم خطيباً، وقال في جملة ما قال: "ألست أولى منكم بأنفسكم؟" فأجابوا: اللهم، نعم. وحينئذٍ أخذ بيد علي بن أبي طالب – عليه السلام، ثم قال: "اللهم، من كُنتُ مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله". فقام الصحابة يهنئون علياً، وبينهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، وقال له عمر نفسه: "بخٍ بخٍ يا عليّ، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".

وبالرغم من أن أهل السنة لا ينكرون هذا الحديث، ولكن يختلف تفسيره عندهم عما يفسره به الشيعة. والاختلاف يقع في لفظ "المولى" الوارد فيه، وهذا اللفظ هو المستند في حجة الشيعة. فهم يفسرونه بمعنى "الولاية"، أي: الحكم والسلطان، أو الإمامة. في حين يُفسّر أهل السنة معنى "الولاء" بمعنى الحب والمودة، وبهذا المعنى يُصبح الحديث فاقد الدلالة على نصب "علي" إماماً و"ولياً" للمسلمين بعد النبي (ص).

مسألة المعرفة عند الشيعة:

لعلنا فيما عرضناه حتى الآن من نظرية الشيعة عند مختلف فرقهم، في مسألة الإمامة قد أُتيح لنا في ضوئه، أن نكتشف بسهولة طبيعة مسألة المعرفة عند مختلف فرقاء الشيعة، فقد يكون واضحاً من قول الشيعة الإمامية، والاثني عشرية خصوصاً، بكون الإمامة حقاً إلهياً، وكون سلطتها سلطة إلهية، وليست سلطة الأمة، ثم من قولهم بعصمة الإمام واشتراطهم أن يكون الإمام أعلم أهل زمانه إطلاقاً – قد يكون واضحاً من كل ذلك أن المعرفة، معرفة الله وأسرار الكون والخليقة والروح، ومعرفة الشريعة التي هي قانون الله للناس، مرجعها النبي (ص) في حياته، ثم مرجعها الإمام بعد النبي، فكل إمام في زمانه هو المرجع لإدراك هذه المعرفة، ولا مرجع غيره لأنه المخبر عن النبي، والنبي مخبر عن الوحي الإلهي. وإذا كان للعقل من حق في هذا المجال فهو حقٌ مقيد بحدود الكشف عما يؤيد المعارف الإلهية أو يبرهن عليها، وليس له أن يعارضها، لأنه عاجز أن يبلغ مبلغها من إدراك الحقائق الكونية، وأسرار الوجود فضلاً عن أسرار ميتافيزيقا الكون والوجود.

وهنا نرى، أن المعرفة مرتبطة بالإيمان الديني، تابعةٌ له، وخاضعة لمعطياته، لا تستطيع أن تتصرف إلا في حدوده، وإذا كان الشيعة المعتدلون قد قالوا بالاجتهاد بالرأي في مجال التشريع الإسلامي، ولم يغلقوا باب الاجتهاد قط في تاريخهم كله، ولا يزالون يعملون به، بالرغم من أن المذاهب الفقهية الأربعة الرئيسة لأهل السنة، قد أغلقت باب الاجتهاد هذا منذ نحو القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) – نقول: إذا كان الشيعة المعتدلون قد عملوا طوال تاريخهم حتى اليوم، بالاجتهاد في مسائل التشريع الإسلامي، فإن هذا لا يغير شيئاً من طبيعة نظريتهم الإلهية في المعرفة. لأن هذا الاجتهاد مُقيّد بالحالات التي لا يوجد فيها نصٌ صريح من القرآن، ولا من النبي (ص)، ولا من أحد الأئمة الاثني عشر، ثم لا يوجد فيها كذلك إجماع من علمائهم. وهذا الإجماع يعني – إذا وجد – أن رأي الإمام المعصوم الثاني عشر محمد بن الحسن الغائب المنتظر، موجود بين الآراء التي تحقق بها الإجماع، ففي هذه الحالات – حين لا دليل من الكتاب (القرآن)، ولا من الحديث، ولا من الإجماع – يأتي دور "الدليل الرابع": العقل. وهذا الدليل الأخير يعتمد على المرتكزات العقلية التي تقررها المبادئ الأولية للعقل الاجتماعي العام، وهي المسماة بالعرف العام، وهذه المبادئ نظمها علماء الشريعة الإسلامية (الفقهاء) تنظيماً عقلانياً جعل منها علماً خاصاً مستقلاً، سمي بعلم "أصول الفقه". وليس هذا العلم مختصاً بالشيعة، فهو معتمد أيضاً عند فقهاء السنة مع اختلاف جزئي. ينحصر هذا الخلاف في أن: ما هو عند الشيعة دليلُ العقل، يُقابله عند السنة دليل القياس.

علم أصول الفقه:

لا شك أن علم "أصول الفقه"، قد أدى دوره في مسألة المعرفة على نحوٍ عقلاني متميز، معتمداً المبادئ الأولية للعقل الاجتماعي بالأقل. فإنه بهذا النحو من العقلانية، نظّم حركة التشريع الإسلامي وفق قواعد وأصول لها ميزة العلم، وأتاح للشريعة الإسلامية أن تدخل في سياق التطور، الذي كان ينتظم كل جوانب النشاط الاجتماعي للمجتمع العربي – الإسلامي خلال عصر ازدهاره التاريخي المعروف. وقد تميز علم أصول الفقه كذلك بالخروج على شكلية المنطق الأرسطي، من حيث إنَّ استنتاجاته تنطلق من الواقعات الجزئية الحية، لا من العمليات الذهنية التجريدية والافتراضية.

لكن طبيعة مسألة المعرفة، التي حصرت المعرفة الإيمانية والشريعة بالمصدر الإلهي، قد ضيقت نطاق نشاط العقل حتى في الأمور التشريعية، وجعلت عملية الاجتهاد في هذه الأمور عملية محدودة جداً، وأنشأت في عقول الفقهاء طبيعة الحذر الشديد من استخدام العقل في تطوير الشريعة، وتجديدها مع تطور الحياة وتجددها، وقد حاول المعتزلة محاولة جريئة حين فسحوا للعقل أن يكون أكثر حرية في هذا المجال، فقالوا بمبدأ الاستصحاب العقلي، بمعنى أنه يجوز للعقل أن يحكم في بعض الأشياء مستقلاً، وأن يبقى حكمه قائماً في أجزاء لاحقة من الزمن، استصحاباً للأجزاء الزمنية السابقة (أي استمراراً) إلى أن يأتي الدليل السمعي، (أي النص المنقول بالسماع عن المصدر الإلهي). ولكن المذاهب المخالفة للمعتزلة عارضت هذه المحاولة، فنحن نرى، مثلاً، القاضي أبا الطيب يقول، بعد أن يذكر قانون الاستصحاب العقلي عند المعتزلة: ".. وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به، لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات". إن الكلام في موضوع "أصول الفقه" ينطبق على السنة والشيعة بدرجة واحدة. غير أنه، على الرغم من الأساس العقلاني لهذا العلم، فينبغي رؤية كون المبادئ العقلية التي يرجع إليها في عملية استنباط الأحكام الشرعية، لا تتجاوز حدود المرتكزات الأولية في العقل الاجتماعي العام. فهي لم تبلغ منزلة المبادئ العقلية المركبة، التي لها صفة المفاهيم بمعناها الفلسفي، والتي تفسح للعقل مجال التفكير بنوعٍ من الاستقلالية والإبداع. ولعل الاختلاط الذي حدث في عصر المتكلمين المتأخرين، بين علم أصول الفقه وعلم الكلام، هو الذي حمل "مصطفى عبد الرازق" أن يجعل "الفلسفة الإسلامية" شاملة علم أصول الفقه، وهذا واضح من الحجة التي أخذ بها تدليلاً على كون هذا العلم جزءاً من "الفلسفة الإسلامية"، وحجته هذه أن "مباحث أصول الفقه الذي هو علم الكلام" بل أنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثاً يسمونها "مبادئ كلامية"، وهي من مباحث علم الكلام".

والواقع أن هذه الظاهرة التي يُشير إليها عبد الرزاق، أي ظاهرة التشابك بين العلمين، لا تكفي أن تكون حجةً على صحة وضع علم أصول الفقه في سلك "الفلسفة الإسلامية"، إلا إذا توسعنا في مفهوم الفلسفة، وفي موضوعها إلى الحد الذي كان عليه القدماء، حين كانت الفلسفة "علم العلوم". فإن التشابك هذا كان ظاهرةً عامة لا يختص بها علم أصول الفقه، بل نستطيع أن نراها واضحةً في مختلف العلوم العربية والإسلامية، إبان ازدهار علم الكلام والمنطق.. حتى علم النحو العربي دخلته عناصر كلامية ومنطقية تظهر في طريقة التعليل لكثير من قواعده، في حين أن قواعد النحو لا تحتاج إلى تعليل ما دامت لا تخرج عن كونها تسجيلاً وتنظيماً لما يستخلص من تتبع لغة التعبير، وأسلوبه، وطريقة تركيبه، والتغيرات الصوتية التي تحدث فيه عند اختلاف المعاني، واختلاف الأغراض التعبيرية. فهل يصح أن نسلك علم النحو في الفلسفة، لمجرد أن نرى أهل هذا العلم في الماضي يستخدمون التعليلات الكلامية في شرح قواعده وضوابطه؟

نقول ذلك دون أن نُنْكر أن علم أصول الفقه – كما قلنا سابقاً- يتميز بمنهجية علمية عالية، ولكنه يبقى في حدود منطقه الأصولي المرتبط بمفاهيم التشريع الإسلامي بما لهذه المفاهيم من علاقة بالمصدر الإلهي للمعرفة. ولكن، علينا أن نعترف بأن ظاهرة التشابك بين مختلف فروع الثقافة العربية في ذلك العصر، وبين البحوث الكلامية العقلية، كانت بذاتها ظاهرة إيجابية تحمل في أعماقها إحدى خصائص الفكر العربي، القائمة على وحدة جوانب الفكر، دون التفريق بين الجانب التأملي والجانب المرتبط غالباً بالتجربة والممارسة.

من هم الشيعة:

سوف اقتصر في هذه الكلمة على مصادر شيعية، لأن خير من يعرف بمذهبهم هم أصحابه.

التشيّع لُغةً تعني، الأتباع على وجه التدين والولاء – قال تعالى: {وإن شيعته لإبراهيم} {فاستغاثه الذي من شيعته}.

ثم مع كثرة الاستعمال صار لفظ الشيعة علماً مختصاً بشيعة علي بن أبي طالب – عليه السلام، الذين يعتقدون بإمامته بعد رسول الله (ص) ومنهم الإثني عشرية والإمامية، ويعتقدون بأنه الأفضل مع صحة إمامة الشيخين كالزيدية. وهم فِرقٌ – منهم الإمامية والزيدية.

الشيعة الإمامية أو الإثني عشرية:

هم الذين يعتقدون بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، ويعتقدون بعصمة الأئمة وحصر الإمامة في نسل الحسين بن علي عليه السلام إلى أن تصل (علي بن موسى الرضا) رضي الله عنهم أجمعين.

والشيعة الإمامية هم أكبر الفرق الإسلامية عدداً وانتشاراً ومنهم الإثني عشرية الذين يعتقدون بإمامة اثني عشر إماماً معصوماً أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وهم منتشرون في إيران وأذربيجان والعراق والهند وباكستان وروسيا وتركستان والأفغان ولبنان واليمن والبحرين والأحساء والقطيف وقليلٌ منهم في سوريا والحجاز والكويت والصومال وجاوا والألبان والصين والتبت – راجع كتاب مع الشيعة الإمامية لمحمد جواد مغنية، ص5.

 

من هو المسلم عند الشيعة:

قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) باب الاجتهاد

ص398 – يتحقق الإسلام بقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله)، أو بما يرادفه من أي لغة كانت وبأي لفظٍ كان، فمن قاله حكم بإسلامه، والشيخ كاشف الغطاء هو شيخ الشيعة الإمامية، حيث انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، وتوفي سنة 1228 هجرية.

ويجيب عن هذا السؤال أحد كبار علمائهم فيقول: "المسلم من صدّق مقتنعاً بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع، والأصول ثلاثة – التوحيد والنبوة والمعاد -، فَمَنْ شَكَّ في أصلٍ منها أو ذُهل عنه، قاصراً أو مُقَصِّراً، فليس بمسلم ومَنْ آمن بها جميعها فهو مسلم. (انظر كتاب مع الشيعة الإمامية – محمد جواد مغنية، ص7، رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية العليا طبعة ثانية).

والذي يبحث في الأصول العقائدية للفرق الإسلامية، أو المنتسبة للإسلام لابد أن يفرق بين الخلافات المتصلة بأصول الإسلام وعقائده الأساسية، وبين الخلافات المتصلة بالعقائد الفرعية، ذلك أن هذه التفرقة ضرورية حتى لا نسوي بين مَنْ يؤمن بالأصول الأساسية للإسلام، وبين من يفكر بها أو يخالفها.

ولابد أن أنبه في هذه الدراسة المقتضبة إلى ما يأتي:

إنَّ بين أهل السنة، والشيعة المعتدلة، والمعتزلة، والأباضية، خلافات في فروع العقيدة وليس في أصولها، وأنَّ هذه الخلافات لا تخرجهم عن الإسلام، ونجد علماءنا رضي الله عنهم يذكرون هذه الفرق، باعتبارها فرقاً إسلامية، ويناقشون آراءهم في كتب العقيدة والتفسير. راجع - مثلاً - الملل والنحل لابن حزم، والفرق الإسلامية لمحمد أبو زهرة.

ومن هذه الخلافات في فروق العقيدة التي يخالف فيها أهل السنة والجماعة بقية هذه الفرق:

1. اعتقاد أهل السنة والجماعة برؤية الله في الآخرة بدليل قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة}، واعتقاد الشيعة والمعتزلة والأباضية بعدم رؤية الله في الآخرة مستشهدين بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}.

2. اعتقاد المعتزلة بخلود مرتكب الكبيرة في جهنم، ويعتقد أهل السنة يخرجون من النار بعد استيفاء ما يستحقونه من العذاب.

3. اعتقاد الشيعة الاثني عشرية بإمامة اثني عشر إماماً.

وهكذا نجد خلافات في فروع العقيدة ويقابلها اتفاق والتقاء على العقائد الأساسية والأصول الكبرى في الإسلام.

فأركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر وأن محمداً (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين وأن القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونسخ الله الشرائع كلها وأركان السلام بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والصلاة والصوم والزكاة والحج ووجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة في فهم الأحكام وتكفير كل من أنكر عقيدة تثبت بالدين بالضرورة كإنكار فرضية الصلاة أو الصوم وأن محمداً (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين وتكفير كل من ادعى النبوة بعد رسول الله أو نزول كتاب سماوي عليه كالبهائية التي تعتقد بنبوة البهاء ونزول كتاب سماوي عليه، والقاديانية التي تعتقد بنبوة ميرزا غلام أحمد ونزول كتاب سماوي عليه وإنكار القاديانية والبهائية لفريضة الجهاد في سبيل الله ولمعجزات الأنبياء.

وكالدروز الذين يعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله.. ونلاحظ اللقاء بين هذه الفرق والمذاهب الإسلامية على قيم الإسلام وأخلاقه في البيت والمجتمع والحياة في مواجهة القيم والأخلاق الغربية، فالتكافل الاجتماعي في مقابل الاشتراكية والطهارة والستر للمرأة في مقابل العري والتبرج والتساهل في العلاقات بين الرجل والمرأة، أقول هذه التفرقة ضرورية لكل باحث ومطلع لأن أعداء الإسلام يحاولون أن يفرقوا بين المسلمين، بإثارة أسباب الخلاف، وتضخيم الخلافات الفرعية التي لا تمس أصول الإسلام وأساسياته الكبرى.

أما الفروع التي هي من ضرورات الدين، فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة، من غير فرق بين مذهبٍ ومذهبٍ آخر، كوجوب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت، وما إلى ذلك، مما لا يختلف فيه رجلان من المسلمين، فضلاً عن طائفتين منهم، فإنكار حكمٍ من هذه الأحكام إنكارٌ للنبوة وتكذيبٌ لما ثبت في دين الإسلام بالضرورة.

والفرق بين الأصول والفروع الضرورية، أن الذي لا يدين بأحد الأصول يكون خارجاً عن الإسلام، جاهلاً كان أم غير جاهل، أما الذي لا يدين بفرعٍ ضروري، كالصلاة والزكاة، فإن كان ذلك مع العلم بصدوره عن النبي (ص)، فهو غير مسلم لأنه إنكارٌ للنبوة نفسها، وإن كان جاهلاً بصدوره عن الرسالة، كما لو نشأ في بيئة بعيدة عن الإسلام والمسلمين، فلا يضر ذلك بإسلامه إذا كان ملتزماً بكل ما جاء به رسول الله (ص) ولو على سبيل الإجمال.

حكم الشيعة على من لا يعتقد بعقائدهم الخاصة:

يقول أحد كبار علماء الشيعة: إنَّ ضرورات المذهب عند الشيعة على نوعين:

النوع الأول: يعود إلى (الإمامة)، فيجب على كل شيعي إمامي اثني عشري أن يعتقد بإمامة الاثني عشر إماماً، ومن ترك التدين بإمامتهم عالماً كان أم جاهلاً، أو اعتقد بالأصول الثلاثة التي هي الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وبالنبوة، والبعث للحساب، والجزاء في اليوم الآخر، فهو عند الشيعة مسلم غير شيعي، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، فالإمامة أصل المذهب الشيعي.

ومن الفروع التي تُعَدُّ من ضرورات المذهب الشيعي: نفي العول، والتعصيب في الميراث، ووجوب الإشهاد على الطلاق، ووجوب وضع الجبهة على التراب أو الأرض بدون حاجز.. ومن هنا يحمل الشيعي قرصاً من التراب ليضع جبهته عليه أثناء الصلاة، لوجوب وضع الجبهة على الصعيد في مذهبهم.

الشيعة تحترم الشيخين أبا بكر وعمر:

الشيعة يعتمدون على الكتاب والسنة، للوصول إلى الحكم الشرعي، وإذا علمنا أن باب الاجتهاد لم يُقفل عند الشيعة، عرفنا الثروة والغنى الذي أصابه الفقه على أيديهم.

وقد كان مذهب الشيعة الإمامية والزيدية، أحد مصادر موسوعة الفقه الإسلامي، التي نشأت في سوريا، ثم امتدت إلى مصر والكويت، وهي تذكر آراء علماء أهل السنة.

وإننا نحرص كل الحرص على تدعيم قواعد المودة والألفة بين المسلمين، ليحصل التقارب بينهم، ويكونوا يداً واحدة، على تشييد قواعد الدين الإسلامي وحراسة قوانينه الأساسية.

الفقه عند الشيعة:

يقول السيد حسين يوسف مكي العاملي، أحد علماء الشيعة في كتابه (عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة) – (ص 19 – طبعة دار الألسن):

"لا نسوغ لأحد أن يسبهما أي (أبا بكر وعمر)، ولا أن يتحامل على مقامهما، ولا أفتينا لأحدٍ بجواز سبهما، فلهما عندنا من المقام ما يقتضي الإجلال والاحترام".

عقيدة الشيعة في القرآن الكريم:

يقول صاحب كتاب (عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة): "نعتقد نحن الإمامية الاثني عشرية، أن القرآن الذي بأيدينا اليوم الذي يقرأه العالم الإسلامي على ما هو، أنه الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (ص). ولا نقص فيه ولا زيادة، وقد صانه الله تعالى شأنه عن أن يعتريه نقصٌ، أو تبديل لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر، الآية: 9)، ومن المناسب أن أذكر هنا أنني قد أُهديتُ منذ عام نسخة من المصحف الشريف طبع إيران، بإشراف هيئة دينية شيعية، ووجدته المصحف نفسه الذي عند أهل السنة، وهذا المصحف مكتوب بالخط الكوفي وهو في خزانة كتبي.

عقيدة الشيعة في الإمامة والخلافة:

يعتقد الشيعة الإمامية أن الإمامة محصورة في علي بن أبي طالب - عليه السلام - وولديه الحسنين وذريته المعصومين من بني الحسين رضي الله عنهم، وهم في الوقت نفسه، لا يُكفّرون من لا يرى ذلك ولكنّهم يعدّونه مسلماً، غاية الأمر أنهم يعتقدون أن خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما غير صحيحة، لأن وارث رسول الله (ص) في الخلافة هو عليّ وولداه الحسنان وذريته من بني الحسين، ولكن هذا لا يقتضي منهم سباً ولا شتماً، للصاحبين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أما الشيعة الزيدية، فيعتقدون بصحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

عقيدة الشيعة في السنة:

والسنة النبوية عند الشيعة مرجع لمعرفة الأحكام الشرعية، والتوجيه في سائر نواحي الحياة، إلا أنهم يعتمدون بالنسبة لسند الحديث ورواته، على رواة أهل البيت فقط.

والذي يقرأ كتاباً ككتاب (الكافي)، الذي يُعدُّ مرجعاً أصلياً في الحديث عندهم، يجد أن أكثر مستوى الأحاديث متقاربة في معانيها مع الأحاديث المروية في كتب أهل السنة، ما عدا الأحاديث التي تقوم عليها أصول مذهبهم وغيرها.

موقف الشيعة من الفرق المغالية:

هناك فِرَقٌ مغالية في عقيدتها بعلي بن أبي طالب عليه السلام، من عقائدها زعمها أن علياً أحق بالرسالة، وأن جبريل أخطأ بالتبليغ وبعضها يُؤلِّه علياً، وموقف الشيعة الإثني عشرية والزيدية من هذه الفرق أنها تتبرأ منها كما يتبرأ منها أهل السنة والجماعة. والشيعة المعتدلون من الزيدية والإثني عشرية لا يقولون بهذه الأقوال، ويرفضونها بشدة ويُكَفِّرون من يُؤَلِّه علياً.

 

د.هاشم عبود الموسوي

.......................

[1] . تقع صِفين على الحدود السورية – العراقية عند الضفة اليمنى من الفرات قرب الرقة.

في المثقف اليوم