قضايا

الموقف الأمريكي من القضية الجزائرية 1830 – 1962 (1)

بداية نقول بأن الو م أ لم تظهر على مسرح الأحداث المتوسطية إلا من بعد نيلها للاستقلال عن بريطانيا وهذا في العام 1776 لكون الأخيرة هي من كانت ترعى مصالحها لما كانت مستعمرة لها ولكن الوضع تغير بعد استقلالها وأصبح لزاما عليها أن ترعى هي مصالحها بنفسها وبصورة مباشرة مع منطقة شمال إفريقيا وعلى رأسها الجزائر ومن دون أية وساطة بينهما ومن هنا تبدأ الدولتان في بناء علاقات ثنائية وسوف تتراوح تلك العلاقات بين السلم والحرب وتبادل المصالح الاقتصادية خاصة شأنها في ذلك شأن باقي الدول الأوروبية الأخرى .

والعلاقة الأمريكية الجزائرية هي علاقة حديثة وهذا لحداثة الدولة الأمريكية ذاتها حيث أنها ترجع للعام 1783 م ومن بعد هذا التاريخ أصبحت تجارة ومصالح الو م أ تعرف صعوبات جمة في حوض البحر المتوسط وفي المحيط الأطلسي نتيجة للحضور القوى للأسطول الجزائري فيهما ولهذا ومنذ العام 1815 فقد تدهورت العلاقة بين الطرفين لتعلن الو م أ الحرب على الجزائر ولتنتهي المواجهة في البحر بمقتل الريس حميدو من قبل الأمريكيين في العام 1815 . علما بأنهم يعتبرون ما تقوم به الجزائر ليس إلا عملية سطو ونهب في عرض البحر 01 . كما وأننا في نظرهم لسنا سوى برابرة وقراصنة وهمج نعتدي على القانون الدولي ولا نقيم له حرمة مطلقا كما أننا شر يدمر تجارة الدول الصغرى 02 . ولأجل ما سبق فالحرب كانت عادية بين الطرفين فقد تجددت بينهما أي بين الجزائر والو م أ بعد العام 1812 بسبب الاختلاف حول ما يعادل الضريبة السنوية من عتاد حربي وذخيرة .

واستمرت الحرب البحرية بعد هذا التاريخ سجالا بينهما لكون الأعمال الحربية الجزائرية البحرية كانت الدول الغربية ومنها الو م أ تعتبرها خطرا على التجارة وعلى الحضارة ولهذا فقدر الجزائر كان حسبهم أن تقع تحت نير الاحتلال لتحضيرها ولتلافي خطرها على التجارة الدولية خاصة وأنها حسبهم لا تملك من الوسائل التي تبقيها خارج تيار الحضارة من دون عقاب . وهي قائمة على أفكار تتناقض مع الحرية والتقدم الذي عرفه هذا القرن والمقصود هنا القرن التاسع عشر كما جاء في مذكرات القتصل المذكورة أعلاه دوما .

ولهذا فإن الو م أ قد كانت من المؤيدين لقيام تحالف أوروبي مسيحي ضد الجزائر في مؤتمر فيينا لكونها دولة تشترك مع دول أوروبا الغربية في هويتها المسيحية الرومانية . ومن بعد هذا المؤتمر فقد فرضت الو م أ على الجزائر معاهدتي 1815 و1816 مستفيدة من الوضع العام الدولي المعادي للجزائر ورغم كل هذا ونظرا لبعد المسافة بين الجزائر وأمريكا ولمناصبة الدول الأوروبية العداء لها فإن الو م أ قد أصبحت مقتنعة بأنه : " لا طاقة للولايات المتحدة الأمريكية على فرض السلام على الجزائر " بتعبير المفاوض الأمريكي في تلك الفترة جون لامب John Lamb كما أن : " الحرب ستؤدي إلى تخريب الاقتصاد وأنها ليست خطوة حكيمة " بتعبير جون ادمز John Adams نائب الرئيس الأمريكي في الفترة ما بين 1789 و1797 . ولذلك فقد أصبحت الو م أ تتقارب مع الدول الأوروبية لأجل إيجاد مخرج للمسألة الجزائرية ونتيجة لهذه السياسة كالتقارب الأمريكي البرتغالي فإنه وكرد فعل مباشر من الجزائر على تلك الخطوة فهي قد سيطرت على سفن أمريكية في البحر المتوسط مع أسر من فيها وكان هذا في العام 1793 ونتيجة لهذا ولعدم قدرة الو م أ على فرض إرادتها على الجزائر فإنها وفي العام 1795 قد وقعت اتفاقية صداقة مع الجزائر . وبقيت العلاقة بين الطرفين تتراوح بين السلم والحرب إلى غاية سقوط الجزائر بيد الاحتلال الفرنسي في العام 1830 .

ولنفهم موقف الو م أ من الغزو الفرنسي للجزائر علينا أن نعرف أولا طبيعة العلاقات التي كانت تربط الطرف الجزائري بالطرف الأمريكي والأوروبي عموما وهذا لتناغم المواقف بين الطرفين وإن كان تناغما نسبيا تحكمه المصالح . إن البحر المتوسط كان منطقة صراع طويل ومتجدد بين البحرية الجزائرية وبين الدول الأوروبية المختلفة وكثيرا ما كانت الجزائر تسيطر على سفن الدول الأوروبية وعلى سفن الو م أ مثلما هو الحال في العام 1785 وهذا عندما سيطرت الجزائر على سفينتين أمريكيتين وجيء بمن فيها كأسرى وبعدها بعام واحد اتفق الطرفان على مبلغ مالي تدفعه الو م أ لإيالة الجزائر كما أنه وفي العام 1793 سيطر الجزائريون على سفن أمريكية وقرابة 150 أسيرا وكل هذا كان نتيجة لتفوق الأسطول الجزائري في حوض البحر المتوسط وكنتيجة مباشرة لهذا التفوق فقد بقيت حكومة الو م أ تدفع الإتاوة للجزائر مما دفعها في العام 1815 إلى إعلان الحرب على الجزائر والتي انتهت لصالح الأمريكيين .

ولكن وكما يقال فليس في كل مرة تسلم الجرة فالحرب مع الجزائر لا ضامن في المستقبل بأن تكون لصالح الو م أ ولذلك فإن الحملة الفرنسية على الجزائر في العام 1830 قد خلصتها أي الو م أ من كابوس كان يهدد مصالحها وخاصة التجارية منها في حوض البحر المتوسط وخلاصة القول فالنصر الفرنسي هو نصر ليس لها هي وحدها فقط بل هو نصر لهم جميعا وهذا باعتباره نصرا للمسيحية على الإسلام ونصر كما يدّعون للحضارة على البربرية وعلى الهمجية .

كما وأن الحملة الفرنسية على الجزائر قد خلصتهم من كل تلك الشرور التي كانوا يجابهونا في علاقاتهم معها ومن جهة أخرى فإن غزو فرنسا للجزائر كان أمرا عاديا في تلك الأيام ولا يتطلب موقفا معارضا أو معاديا طالما هو لم يخل بالتوازنات الدولية ولم يضر بمصالح الدول المختلفة فنابليون ضم إمارات إيطالية لفرنسا والو م أ نفسها تضم أراضي جديدة كضم لويزيانا في العام 1812 وتكساس في العام 1845 إليها . فالقضية إذن ليست قضية أرض فالأقوى كان يضع عليها يده وانتهى الأمر ولهذا فالغزو الفرنسي للجزائر كان مرحبا به من قبل كل الأمم والدول الغربية بين ضفتي الأطلسي لأنه خلصهم من عدو طالما أرقهم ولقرون عدة ونظرتهم إلى الجزائريين لم تكن تخرج عما كان يعتقده نابليون بونابرت فينا في العام 1802 والذي قال : " لقد قررت أن ألقن هؤلاء قطاع البحر الجزائريين درسا " 03 نعم لقد كان حلمهم جميعا هو تخريب الجزائر ومحوها من الوجود وهذا في إطار الصراع بين ضفتي المتوسط ومن يسيطر عليه . كما أن المسيحية لم تغفر للإسلام أبدا أنه كان سببا في نهاية وجودها حسب اعتقادها الخاطئ في إفريقيا الشمالية وهي تتهمه بأنه هو من أنهي ذلك التواجد على الشواطئ البربرية وعليه فأي عمل من قبل أية دولة أو أمة مسيحية فقد كان مرحبا به وعلى الدوام بهدف إعادة هذه المنطقة لاتينية مسيحية كما كانت وهذا حسب اعتقادهم الباطل طبعا .

ثم إن نجاح الحملة الفرنسية على الجزائر قد ثأر لكل تلك الإهانات والتي لا نرى من داع لتكرارها هنا ويمكن الاطلاع عليها في كتاب مولود قاسم نايت بلقاسم شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة 1830 الجزء الثاني منه والتي ابتلعتها مختلف الأمم والدول الأوروبية وفي مناسبات عدة بل إن هذا الاحتلال لهو : " يضمن انتصار كل من الحضارة والمسيحية في الوقت نفسه في أرض إفريقيا " 04 لماذا لأن غزر فرنسا للجزائر قد كان في صالح كل المسيحية والرامية لبسط هيمنتها على ضفتي المتوسط 05 . كما هو في صالح الدول الاستعمارية كلها ومنها الو م أ والتي أنهى وبصورة نهائية متاعبها في حوض البحر المتوسط . وعليه فاحتلال فرنسا للجزائر يدخل في خانة ذلك الصراع بين هاتين الضفتين وهذا منذ الفترة القرطاجية وإلى غاية 1830 وزادت هذه الطموحات تأججا خاصة بعد سقوط غرناطة وظهور اسبانيا كدولة مركزية قوية هذا إلى جانب ما تزخر به الجزائر من خيرات وكونها سوقا واسعة لمن تسيطر عليها من الدول الأوروبية كما أنها ستصبح مجالا حيويا وعمق استراتيجي للغرب ككل وشهدت الأيام لهذا الرأي وهذا ما تجلى في أهميتها الإستراتيجية لأوروبا خلال ح ع 2 وهذا حينما تحولت إلى قاعدة خلفية وأرضية انطلاق لتحرير أوروبا من الفاشية ومن النازية .

كما وأنه لا لوم على فرنسا وهذا حينما احتلت الجزائر خاصة أنه وما دامت الدولة العثمانية لا تريد إزالة القرصنة وبمحض إرادتها فكل عمل من قبل الدول الأوروبية في هذا المسعى فهو عمل مقبول . 06 . كما أن احتلال الجزائر لهو عمل مرحب به كذلك لأنها ستكون البوابة والتي عبرها ستنتشر الحضارة في كل إفريقيا والتي يعيش سكانها في ظلام دامس من التوحش 07 نفسه وهو نفس موقف الو م أ والتي ترى بأن فرنسا فتحت باب نقل الحضارة إلى إفريقيا عبر الجزائر وخلصتهم من القرصنة الجزائرية ومن عار دفع ضرائب سنوية إلى الجزائر . خاصة إذا علمنا بأن فرنسا كانت حليفة للو م أ في حرب استقلالها عن بريطانيا وهي من فتحت لها طريق غرب المتوسط وسهلت لها مهامها الاقتصادية فيه ثم هي اشترت منها ومن دون مشاكل تذكر مستعمرة لويزيانا كل هذا إضافة إلى سياسة العزلة الأمريكية والتي بموجبها قررت عدم التدخل في شؤون القارة الأوروبية ومستعمراتها وسياسة العزلة تلك ستدفع الو م أ إلى أن تكون غير عابئة بما تفعل فرنسا في الجزائر وستجد الأخيرة مطلق حرية التصرف في شؤون الجزائر وهذا طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .

وإذا ما نحن وصلنا إلى محطة رحيل الحكم العثماني من الجزائر وقيادة الأمير عبد القادر للمقاومة الجزائرية للغزو الفرنسي فإن هذا الأخير قد حاول إقامة علاقات ودية مع الو م أ عبر قنصلها بطنجة المغربية لكي يستفيد منها ضد فرنسا ولكن متانة العلاقات الفرنسية الأمريكية لم تنجح مسعاه هذا وهذا أمر لا يثير الاستغراب لأنه من المستحيل انتظار موقفا إيجابيا أمريكيا من الجزائر وهذا من بعد العام 1830 ولا الاهتمام بها أصلا لكونها أصبحت مسألة فرنسية داخلية والتعامل معها يكون من بوابة باريس شأنها في هذا شأن أي مقاطعة فرنسية أخري إضافة إلى هذا انسحابها من مسرح السياسة الدولية على اثر مبدأ مونرو 1823 م قد جعلها غير عابئة بما يحدث خارج حدودها وحدود القارة الأمريكية .

وإذا ما نحن انتقلنا إلى محطة الحرب العالمية الأولى فقد شارك فيها الجزائريون كغيرهم من شعوب المستعمرات الفرنسية وهذا من بعد أن فرضت عليهم فرنسا التجنيد الإجباري سنة 1912 ومن بعد انتهائها توجه وفد يمثلهم إلى مؤتمر الصلح بباريس في العام 1919 كان من شارك فيه الأمير سعيد الجزائري نجل الأمير عبد القادر كما هو معلوم للجميع وقدموا مذكرة جاء فيها : " إن الشعب الجزائري والتونسي يطالب باستقلاله التام ويهيب بالضمير العالمي ليعترف له بحق تقرير مصيره بحرية ويرفع مطالبه إلى مؤتمر الصلح الذي سيجتمع بعد أيام للنظر في خريطة العالم وإصدار مبادئ جديدة لضمان حقوق الإنسان والشعوب " 08 وهنا نحن لا ننتظر أي شيء من الو م أ والتي كانت تعيش في سياسة العزلة ولا هي قادرة على مجابهة النمر الفرنسي جورج كليمنصو Georges Clemenceau .

والو م أ وكما نعلم جميعا لم تتدخل في الح ع 1 رغبة منها في المشاركة في إدارة شؤون العالم وإنما شاركت فيها بهدف حماية مصالحها الاقتصادية ولصيانة وحدتها الترابية والحفاظ عليها وليس هنا مجال التوسع في هذه النقاط ولذلك فمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها لم تعمل الو م أ على فرضه على فرنسا وبريطانيا واللتان كانتا لهم مصالح توسعية تتناقض مع هذا المبدأ وإن هم استفادوا منه خدمة لمصالحهم تلك وهذا حينما عملوا به وطبقوه على خصومهم المنهزمين في الحرب كالنمسا والدولة العثمانية ولذلك فلن ننتظر في هذه الفترة أي شيء من الو م أ والتي وبانتهاء مؤتمر الصالح عادت إلى سياسة العزلة من جديد .

وأما في الفترة ما بين الحربين فلا يمكن لنا أبدا أن ننتظر شيئا من الو م أ تجاه القضية الجزائرية والتي أصبحت شأنا فرنسيا داخليا وبامتياز وما يهم الو م أ فيها سوى مصالحها الاقتصادية والثقافية أما الأمور السياسية فلا دخل لها فيها مطلقا .

أما أثناء الحرب العالمية الثانية فقد تعاملت الو م أ مع الحركة الوطنية الجزائرية مرغمة وهذا لضرورات الحرب خاصة وأنها تعلم وكما صرح روبير مورفي Robert Murphy المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي روزفلت Franklin Roosevelt من أن فرحات عباس له حركة يمكن أن تشكل الكثير من المتاعب للحلفاء لو استخدمها ضدهم . وفي مقابل هذا فهي لا يمكن لها إغضاب حليفتها الرئيسية في الحرب فرنسا كما أن مصالحها ووجودها سوف يهددان في حالة انتصار دول المحور على الحلفاء ولذا فمصالح ووجود الو م أ كدولة يتوقف على مساندتها لفرنسا في الحرب ولذلك فكل ما عدا هذا فهي أمور هامشية وثانوية بالنسبة لها خاصة وأنها دولة تحتكم لمنطق المصلحة لا إلى منطق الأخلاق .

ومما سبق نقول بأن الو م أ وخلال ح ع 2 قد دعمت الجزائر الفرنسية وهذا ما نجده في خطاب الجنرال أيزنهاور Dwight David Eisenhower لفرنسيي الجزائر حيث يقول فيه : " إننا سنترك بلادكم عندما يذهب عنها الخطر الألماني والايطالي، وأن السيادة الفرنسية على المناطق ستظل بدون تغيير " 09 لأن هدف الو م أ في هذه المرحلة من تاريخ ح ع 2 هو توحيد الصفوف ورصها لتحقيق النصر على دول المحور وهذا ما يتضح في قول شارل أندريه جوليان Charles-André Julien والذي جاء فيه : " إن روبير ميرفي قد مارس تأثير في بعض الحالات غير سري ولكنه مصيري، لقد استقبل فرحات عباس عدة مرات وتحادث معه حول إمكانية تطبيق مبادئ الميثاق الأطلسي على الجزائر، وكان هدف روبير ميرفي من هذه المحادثات هو توحيد القوات الجزائرية ضد العدو المشترك " . ولذلك فقد نجحت هذه الدعاية الأمريكية وخاصة مع عباس فرحات والذي كان يؤمن بفكرة الثورة بالقانون والمتحمس أيضا للقيم الغربية وعلى رأسها قيم الحرية والديمقراطية وكل ما ناله من روبرت مورفي هو المراوغات ولا أكثر من هذا ويتضح هذا في ما كتبه هذا المبعوث ذاته وهذا حينما يقول : " تلقيت زيارات عديدة، بعضها غير منتظرة بما في ذلك زيارة فرحات عباس، الذي كان في هذه المرحلة وطنيا متشددا وتحدث معي في مرات عديدة عن استقلال الجزائر، ولما كنت عائدا من واشنطن كان يسعى لمعرفة الموقف الأمريكي من مسألة الجزائر المستقلة، وكنت أجيبه دائما أن الأمريكيين يدعمون كل رغبات الاستقلال، لكن أهدافنا في إفريقيا محددة بحالة الحرب، ولم يكن لدينا سوى هدف واحد هو إلحاق الهزيمة بالنازيين . " 10

نعم لقد حاول عباس فرحات وعادته دوما في نضاله الارتكاز على القيم الغربية واستخدام أدواتها في نضاله وهذا ما يبرز في بيان الشعب الجزائري والذي صاغه هو شخصيا ومما جاء فيه : " لقد أعطى الرئيس الأمريكي روزفلت، تأكيدا في تصريح أدلى به باسم الحلفاء بأن حقوق جميع الشعوب الكبيرة منها والصغيرة، ستكون محترمة في تنظيم العالم الجديد، إن الشعب الجزائري الذي يجد له قوة في هذا التصريح يطلب منذ اليوم، كي يتجنب كل سوء تفاهم وكي يقطع الطريق على الغايات والمطامح التي يمكن أن تنشأ غدا " ولكن الو م أ وبالرغم من توجهها خلال الح ع 2 إلى فكرة تصفية الاستعمار وهذا ما ألهب الشعور الوطني في الجزائر حتى أصبح الكل وكما يقال متأكد من أن الجزائر ستستقل عقب هذه الحرب حتى أن فرحات عباس خطب في سطيف قائلا حول مؤتمر سان فرانسسكو وقال بأن : " المؤتمر سيضمن الحرية لجميع الشعوب وأن الشعب الجزائري سيكون من بينها " . ونفس الموقف يتبناه البشير الإبراهيمي والذي قال هو أيضا : " بأن مؤتمر سان فرانسيسكو سيجلب استقلالا جزئيا لشعوب شمال إفريقيا " . ومن جهة أخرى فإن الو م أ قد فكرت في إمكانية وضع المستعمرات تحت الوصاية الدولية إلا أن هذه السياسة لم يكتب لها النجاح بسبب : " صعوبة تطبيق هذه المقترحات،واصطدامها بعراقيل تعود في الأساس إلى تناقضات السياسة الأمريكية، ورفض الدول الاستعمارية الكبرى فرنسا وبريطانيا- للهيمنة الأمريكية من جهة أخرى . " 11  

وعليه فقد حاول الجزائريون الاستفادة من الحرب العالمية الثانية وخاصة ممن كانوا ينتظمون في حركة النخبة وعلى رأسهم وكما مرّ أعلاه نجد فرحات عباس ولكنهم لم يحققوا شيئا مما هدفوا إليه وهذا لكون الحركة الوطنية الجزائرية قد كانت في هذه الفترة ضعيفة لذلك لم تستطع أن تفرض وجودها على أحد 12 وهذا على عكس ما سيكون عليه الوضع بعد العام 1954 عندما يفرض الجزائريون وجودهم على العالم أجمع وهذا عندما يحقق لهم الكفاح المسلح ما عجز عنه النضال السياسي العقيم .

كما أن الو م أ لم تكن ترغب في المساس بسيادة فرنسا على كل منطقة شمال إفريقيا بل اعتبرت أن أي حركة ضد فرنسا هي خطر من الدرجة الأولى سوف تناهضه 13 ولهذا فهي قد حددت خياراتها في هذه الفترة فهي تفضل الوضع الاستعماري القائم على أي تغيير يحدث وربما لن يخدم مصالحها مستقبلا لكون مصالحها تتقاطع مع المصالح الفرنسية لا مع مصالح الحركة الوطنية الجزائرية والتي لا تغريها بسبب كونها ليس لها ما تقدمه إليها أصلا . ومع هذا فإننا لم نسمع عن أية مقاومة من قبل الجزائريين لقوات الحلفاء والتي نزلت الجزائر في العام 1942 فيما يعرف بعملية الشعلة Operation Torch وهذا لكون فرنسا قد حلت حزب مصالي الحاج وسجنت قياداته ونفس الأمر مع جمعية العلماء المعتقل رئيسها الإبراهيمي بمنطقة أفلوaflou بولاية الأغواط الحالية أما فرحات عباس فلا ننتظر منه في هذه الحقبة أن يؤيد أي عمل عسكري ضد فرنسا فضلا على أن يتزعمه وهذا لكونه لا زال يأمل في فرنسا الجمهورية كما أنه راهن على ما جاء في ميثاق الأطلسي وما نادى به الحلفاء من حق الشعوب في تقرير مصيرها ومن ضرورة إنهاء كل أشكال الظلم والاضطهاد والعبودية . وعندما اتصل عباس فرحات بالسيد مورفي السابق الذكر وتناقش معه حول إمكانية استقلال الجزائر لكنه راوغه بالقول بأن الو م أ مهتمة بهزيمة النازية والمحور وإن كانت تتعاطف مع كل الحركات التحررية ولكننا نعلم مسبقا بأن الجزائر تعتبرها الو م أ إقليما فرنسيا كما أنها عازمة على أن يرفرف العلم الفرنسي على كل الأراضي التي سبق وأن رفرف فوقها قبل العام 1939 ومن ضمنها طبعا الجزائر . وعليه فالو م أ كانت تعارض أي انفصال للجزائر عن فرنسا بالطرق السلمية الديمقراطية فضلا عن استخدام القوة ضدها ونقطة الخلاف بين الو م أ والحركة الوطنية الجزائرية هي أن الأولى تعتبر الجزائر مقاطعة فرنسية كما هي كاليفورنيا ولاية أمريكية لا يمكن مجرد التفكير في استقلالها فضلا عن مناقشته ويبرز هذا في رد الو م أ على بيان فيفري 1943 حيث اعتبروه مسألة تخص الشأن الداخلي الفرنسي ولا يحق لهم التدخل فيه في حين أن الحركة الوطنية الجزائرية لا تعترف بالسيادة الفرنسية على الجزائر وتعتبرها احتلال واستعمار يجب إنهائه . ولذلك وحسب الحركة الوطنية الجزائرية فهي ينطبق عليها ما وعد به الحلفاء من أن الشعوب المستعمرة كلها لها الحق بما وعدوت به أثناء ح ع 2 كتحضير لمؤتمر سان فرانسسكو . وها هو الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت صرع باسم الحلفاء بأن حقوق كل الشعوب صغيرة أو كبيرة ستحترم في منظمة العالم الجديد وانطلاقا من هذا التصريح فإن الشعب الجزائري يطالب باستنكار الاستعمار وتصفيته بمعنى إنهاء سياسة الإلحاق وتطبيق مبدأ تقرير المصير لجميع البلدان صغيرة وكبيرة وهنا يكون فرحات عباس ورفاقه في البيان قد قرؤوا تصريح روزفلت قراءة خاطئة لأن الجزائر في نظر الو م أ ليست شعبا ولا دولة وهذا انطلاقا من الوضع القائم بها ومنذ العام 1834 م وإن لم تكن مقتنعة بهذا فهي تجاري فرنسا مجاملة لها بل هي ترى كل عمل ضد فرنسا هو ضدها هذا ما كان جوابها لما أراد الجزائريون معرفة موقفها في حال قيامهم بالثورة ضد فرنسا خلال أو بعد ح ع 2 .

ومن حقنا هنا أن نتساءل كيف يمكن لنا أن نكون سذجا لنتخيل بأن الو م أ خلال ح ع 2 يمكن لها أن تضغط على فرنسا لتمنح الجزائر استقلالها وها هي ألمانيا الغربية قد هددت الجزائر أيام الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد والذي أراد تعميم استخدام اللغة العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر وحجتها هنا أنها تدافع عن تواجد الحرف اللاتيني في الجزائر هذا والجزائر دولة مستقلة فما بالك بالجزائر في وضع المقاطعة الفرنسية ؟ هل كانت الو م أ لتقف معها ضد فرنسا وهي التي تتحسر وتحن إلى الأيام التي كانت فيها الجزائر مقاطعة فرنسية حيث أعلنتها صراحة من أن الجزائر قد كانت ملكا لهم وفترة طويلة من الزمن وعليه فالو م ا تتحرك في إطار كتلة الغرب ككل ومكاسبه ما لفرنسا هو لها ولهم جميعا وبصورة آلية .

ومن بعد ما سبق نكون قد وصلنا إلى محطة مجازر الثامن ماى 1945 والتي استخدمت فيها فرنسا الطائرات الأمريكية لقنبلة المداشر وإبادة سكانها ومع ذلك فهي لم تندد بالمجازر ولا قواتها تدخلت لإيقافها . ولقد فسر البعض موقفها السلبي هذا من تلك المجازر من كونها عقدت صفقة سرية مع فرنسا مفادها الصمت على المجازر مقابل مصالح إستراتيجية في الجزائر كما أنها تحولت فجأة من الموقف المطالب بضرورة تصفية الاستعمار إلى آخر مناقض له مفاده ضرورة الإبقاء عليها وهذا نظرا للحسابات الدولية الجديدة من بعد بروز الاتحاد السوفياتي كلاعب مهم على المسرح الدولي 14

نعم إن موقف الو م أ لهو موقف سلبي جدا من مجازر الثامن من ماي 1945 فلا إدانة ولا حتى هي وجهت لوما لفرنسا على تلك الفظائع بل هي ارتضت لنفسها موقف المتفرج على سير الأحداث كما لو كانت تتفرج على أحداث فيلم أو مسرحية تراجيدية وهي من تحضر نفسها للتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة . وهي الداعية لحقوق الإنسان وتتشدق بالمثل الإنسانية العالية فها هو قنصلها في الجزائر يقول بأن حصيلة تلك المجازر قد كانت ما بين 45 و50 ألف قتيل وفقط وكأن الأمر يتعلق هنا بشاحنة نقل كانت تقل خنازير أو دجاج وانقلبت في الطريق فالخبر عادي وهو مسألة أرقام وفقط ؟ وهو موقف لا يفاجئنا فتاريخ وسجل الو م أ الأسود في ما يخص سياسة الإبادة الجماعية معروف وللجميع خاصة وأنها في تلك الفترة تتهيأ لتجربة السلاح النووي على البشر في الفيتنام وأين هي حصيلة مجازر الثامن ماي من تلك النتائج الرهيبة لقنبلة كل من ناكزاكي وهورشيما ؟ . كما أن الإدارة الأمريكية نشرت وعلى أعمدة صحافتها بأن الطيران الفرنسي نفذ في ظرف أسبوعين 4500 غارة جوية لتدمير 44 مشتة 15 وكأن الأمر يتعلق هنا بقطعان من الحيوانات الضالة والتي كثيرا ما تهدد السكان في حياتهم وفي ممتلكاتهم ونسي الأمريكيون بأن تلك الطائرات هي أمريكية الصنع وعليه فهم شركاء لفرنسا في جريمتها تلك .

نعم لقد التزمت الصمت تجاه تلك المجازر لأن ديغول هددها بإغلاق قواعدها العسكرية في الجزائر وفي السنغال وهنا انتصر صوت المصلحة على صوت الحق وأخرسه . بل هي وقفت موقف المتفرج في الجزائر استعدادا للتدخل إلى جانب فرنسا في حالة أي طارئ وهي التي أعلنتها صراحة بأنها ستقف إلى جانبها في حالة أي خطر تتعرض له خاصة وأنها قد نصحت فرنسا بضرورة تجنب ثورة عليها في الجزائر وكل هذا لتحقيق هدف واحد ووحيد ألا وهو المحافظة على المصالح الغربية عامة في شمال إفريقيا والمتمثلة في صد المد الشيوعي في المنطقة . وعليه فمتى بقيت تلك المستعمرات بيد الدول الأوربية فإنها ستبقي خارج مجال النفوذ الشيوعي وهذه الأهمية لا تحظى بها الجزائر لوحدها فقط بل تشترك معها كل دول المغرب العربي وهذا ما يبرز في هذه الفقرة والقائلة بأن : " أهمية إفريقيا الشمالية الإستراتيجية بالنسبة لأمن الولايات المتحدة الأمريكية، فإن المقاطعات الثلاث الجزائر، تونس، المغرب الأقصى، يشكلون مع بعض وحدة سياسية وجغرافية لشمال إفريقيا الفرنسي، والمغرب الأقصى هو الأكثر أهمية، باعتباره ركيزة أساسية كجسر بين الأطلسي والمتوسط " 16 . كما لا ننسى بأن الجزائر يمكن أن تكون خزانا للجنود وللموارد الأولية وعمق استراتيجي في حالة اندلاع حرب بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي كما كان حالها خلال ح ع 2 وهكذا تحولت الجزائر إلى قاعدة لدول الحلفاء بما تعنيه الكلمة من معنى ولقد استفادت فرنسا من هذا الوضع غداة اندلاع الثورة التحريرية الكبرى بأن استخدمت وبصورة مباشرة إمكانات الحلف الأطلسي للقضاء عليها وتصفيتها .

 

خلف الله سمير ابن امهيدي / الطارف / الجزائر

في المثقف اليوم