قضايا

الجبال لا تلد تلالا!!

الجبال تلد جبالا والتلال قد تلد حفرا، ولكي تتحقق الولادات الحضارية العظيمة الكبرى، لابد من إتفاق صيرورات قائمة في الذات الكونية والإنسانية، ففي بداية القرن العشرين أتيحت هذه الفرصة للمخلوقات الأرضية، وأنجبت البشرية أعلاما أفذاذا غيّروا مسيرة الحياة وأوصلوها إلى ما هي عليه اليوم من التقدم والرقاء.

ولا يُعرف كيف تتفق الإرادات الكونية والبشرية، ويبدو أنها محض مصادفات تخضع لقانون الدوران، الذي يعيد تشكيل الموجودات، وفي صدفة ما تتجمع الطاقات الفذة في وعاء زماني ومكاني ما، وهذا لا يعني الأرض فقط، وإنما باقي الموجودات الكونية، فيتحقق تفاعل إبداعي خلاق يساهم في تأكيد إتجاه التجدد والرقاء.

حصل هذا في جميع الأمم والشعوب وبفترات مختلقة، وفي مصر تجسد ذلك في عمالقة الأدب والفكر والشعر والفن والموسيقى والغناء، فكانت تلك التوافقات التصادفية التي جعلت من الإنسان الضرير عميدا للأدب العربي (طه حسين)، وللإنسان الذي لم يتعدى الإبتدائية أن يكون مفكرا وكاتبا مرموقا ومؤثرا (عباس محمود العقاد)، ولفتاة قروية تتحدى الممنوعات وتصبح مطربة الأجيال (أم كلثوم)، وغير ذلك من الأمثلة في ميادين متنوعة.

ومن الواضح أن اليونان قد أنجبت عباقرة الفكر والفلسفة في فترة محدودة من مسيرتها (سقراط، إفلاطون، أبو قراط، أرسطو وغيرهم)، لكنها لم تنجب بعدهم أحدا على مدى القرون، وكأنها عقمت، أو أن إرادة الأكوان والخلق قد تجمعت فيها في فترة زمنية ما، وما تكررت.

والعرب أيضا توحدت وتفاعلت فيهم تلك القدرات الخارقة في زمن بدء الدعوة الإسلامية وما بعدها، فتواجد على ترابهم الأفذاذ الذين صنعوا التأريخ الأعظم في مسيرتهم الأرضية.

وهكذا دواليك، فلكل مرحلة زمنية في حياة الأمم والشعوب هناك محطات ذات إنطلاقات وهّاجة وتواصلات خامدة قد تطول، وما يجري في مجتمعاتنا العربية يقع ضمن تفاعلات الخمود والإنكسار الفاعل، الباحث عن توافقات وتواصلات ما بين قدرات الذات الإنسانية والكونية، وقد تستمر هذه الحالة لعدة عقود أو قرون حتى تؤكد الصدفة دورها، وتعلن عن ولادات ذات قيمة تنويرية وحضارية تغير مسيرة الحياة، وتدفع بها إلى مراحل متوافقة مع عناصر عصرها ومفردات مكانها الدوّار، الذي إكتسب أفكارا وآليات تجسيدٍ لما يحوية ويحتويه.

والمجتمعات الحية عليها أن تؤمن بنفسها وتصابر وتكابر وتنتظر فرصتها المؤاتية، لكي تتفتح فيها وتبث عطرها وأريج إرادتها وعبق تطلعاتها السامية، الرامية لبناء ذاتها المتوائمة بخطواتها مع إيقاع الذات الكونية، وألحان أنغام الوجود المتهادية في فضاءات متسعة تستوعب المستجدات، وتعيد تصنيع الموجودات في حلقة دوّارة مفرغة.

ولهذا فأن أمة كالعرب ستلد حتما ما يعيد صياغتها وترتيب إيقاع خطواتها وتأهيلها، لتكون ذات نبضات معبرة عن خفقات قلب الوجود الأكبر، وليس هذا الوقت ببعيد، لكنه سيكون، وستلد الأمة ذاتها الأصيلة في أوعية عصور وأماكن جديدة، ولن تغيب عناصرها الكبرى، لأن فيها طاقات متدفقة تبحث عن أوعية لإنضاجها وتحقيق ما يكمن فيها، ولهذا تعيش حالة من التخبط العنيف الدامي الذي قد يبدو مدعاةً لليأس والقنوط والصمت الأبيد.

لكن لسان الدوران يتحدث بلغة أخرى، والأمم يمكنها أن تفهم أبجديات تلك اللغة وترتقي إلى فحواها، وقد فعلها أجدادنا من قبل، وستفعلها الأجيال القادمة وتكون!!

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم