قضايا
مبدأ الإستمرارية بعد الحدث
عندما تركن الأمة الإسلامية إلى ملهياتها وتنسى رسالتها فعندئذ تتداعى عليها الأمم وتتناطح وتكشر عن أنيابها في سبيل تمزيقها إلى أجزاء متفرقة، وحينئذٍ نتذكر حديث رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام:
فقد أخرج أحمد وأبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٍ كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فضاعت هيبة المسلمين بسب بعدهم عن الدين والانتفاع بمعالي الأمور وانغماسهم في الدنيا وملذاتها، فبات يتناهشها القاصي والداني، كلهم يريد لقمة القاضي. تسقط الهيبة عندما تقدم بيوت المسلمين لأبناء القردة والخنازير في طبق يحمله من انتسب للدين. تسقط هيبة المسلمين عندما ترفع راية الشجب والاستنكار وتنكس راية العز والشموخ. صمت رهيب لدرجة أن الصمت يهرب من صمته. نجد صمتاً حكومياً عربياً وإسلامياً وكأن أي قضية اسلامية لا تمسهم، في حين تتحرك الهالة الإعلامية العالمية لو جرح قرد أو خنزير، تتحرك وسائل الإعلام لحصد السبق في استقصاء المواهب الفنية التي رمت الأخلاق جانبا واخذت من التعري شعارا. نعم الخير باقٍ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ولكن أصبحنا كآلة لا تشتغل إلا بالطاقة فإن أهانوا مقدساتنا أو حرقوا مساجدنا ودنسوا مصاحفنا قاطعنا منتجاتهم ونكون في اعلى طاقتنا حتى تنخفض تدريجياً ثم نعود نأكل ونشرب مما قاطعناه. يقتل اخواننا في بلاد الإسلام فتتوقد الطاقة من جديد ونغضب ونسَير الحشود والتظاهرات ثم ما نلبث أن عدنا كما كنا مما جعل الغرب يسخر منا ولا يبالي في طعن أمتنا في أي وقت وحين ما دمنا في سبات عميق. نعم إن التفاعل مع الأحداث مطلب جيد ومطلوب من المسلم الوقوف جنباً إلى جنب مع أخيه المسلم وهو تطبيقاً لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) حديث صحيح رواه مسلم. وهذا يظهر جلياً وواضحاً عندما يغير العدو على بلدٍ مسلم فتتراص فيه الشعوب المسلمة في شتى أصقاع الأرض جنباً إلى جنب منددين ومستنكرين أي هجوم غاشم على بلد مسلم يشد بعضهم بعضا وهو نادراً ما نجد مثل هذه التناصرات أو التظاهرات إلا بين المسلمين ولكن للأسف نبقى عند هذا الحد في حين أضحى مبدأ الاستمرارية والجدية في تطوير الذات والانشغال بما ينفع المسلم في دينه ودنياه مطلبا ثانويا. إن من أسباب الهزيمة النفسية التي تعيشها الأمة وانحطاطها الحضاري هو انصرافها بشكل كبير عن الاهتمام بالعلوم النظرية والتطبيقية على حد سواء. لذا إن مما يعز الأمة ويرفع ذكرها في العالمين هو أن تستمر في تزكية نفسها وترتقي بهمتها، إن أمتنا الاسلامية ما علا شانها في الغابرين إلا حينما أمسكت بمبدأ الاستمرارية وتناقلت حضارتها جيلاً بعد جيل مما جعل لها مكاناً مرموقاً بين الأمم، كيف وهي خير الأمم قال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس) "آل عمران - 110".
و من أمثلة الاستمرارية الواضحة لدينا هو المداومة على مراجعة الحفظ. فإن الحافظ لكتاب الله لا يتفلت منه حفظه إن استمر في المداومة على القراءة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القرآن يتفلت: (والذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) صحيح البخاري، ويقول صلى الله عليه وسلم (تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفصيا من الإبل من عقلها)صحيح البخاري، وما ذاك إلا لعدم الاستمرار في المراجعة والتلاوة. ولذا فهم الرعيل الأول مبدأ الاستمرارية وهو ما ضَمن استمرار وتعزيز الحضارة الإسلامية خلال القرون الماضية. فقد سجل التاريخ فيها حقبا ذهبية من عزة الإسلام والمسلمين حتى استفاد من خيرها دول الشرق قبل الغرب. فلا يوقف همة المسلم وجديته واستمراريته في العمل إلا نزع روحه فهذا رجلٌ رأى مع الإمام أحمد بن حنبل محبرة فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، ومعك المَحبَرَةُ تحملها فقال: مع المَحبَرة إلى المقبرة. إن مصيبتنا هذه الأيام أننا نصاب بالملل والكلل من أول الطريق، نفتقر للصبر وطول النفس.
إن مما يحقق مبدأ الاستمرارية هو أن تهتم الأمة بمعالي الأمور وتنصرف عن سفاسفها، أن تهتم بالأساسيات وتتجنب الخوض في الجزئيات، أن تتوحد لا أن تفترق. إن الدين الإٌسلامي مبني على الاستمرار من أول لحظة نزل فيها الوحي بالقرآن فهو كلام الله تعالى نقله جبريل عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو باق ومستمر يتلى إلى ما شاء الله.
إن الاستمرارية في ملازمة التوبة والإستغفار تقوي الصلة بين العبد وربه والله عز وجل لا ينقطع عن الثواب حتى ننقطع عن العمل والاستمرار، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أرأيت إن فعلت ذنب أيكتب عليّ؟ قال: يُكتب قال: أرأيت إن تُبت؟ قال: يُمـحــــى قال: أرأيت إن عُدت؟ قال: يُكتب قال: أرأيت إن تُبت؟ قال: يُمحــــى قال: أرأيت إن عُدت؟ قال: يُكتب قال: أرأيت إن تُبت؟ قال: يُمحى فقال الأعرابي: حتى متى يمحى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم." إن الله لا يمل من المغفرة حتى تملوا من الاستغفار" أخرج معناه البيهقي.
و لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، فالمدرسة النبوية كلها دروس عملية للاستمرار في الخير والبذل والعطاء. ومن ثم الاستمرارية تكون أيضاً بقوة البدن والذهن، فهذا نبينا الكريم يأمره ربه بملاحقة كفار قريش بعد انتهاء غزوة أحد مع ما تلاها من مصائب وأحداث وما ذلك إلا لرفع الهمة وتربيتها نحو العمل. إن نجاح أمة وفشلها هو فهمها لمبدأ الاستمرارية إن سنون المجد والعز ما خُلدت للمسلمين إلا عندما استمرت في تطوير ذاتها في شتى ميادين الحياة في حين تضعف عندما تستكين للدعة والراحة وتنغمس في الملهيات والملذات. عندما تهتم الأمة في تطوير ذاتها وتترتقي بهمتها يعم خيرها وينشغل عنها أعدائها لأنه لا مناط من الوصول إلى قمتها وعزها ومجدها.
أبوبكر بن عبد الرحمن الجويــبـر