قضايا

حرب الإبادة الجماعية الفرنسية ضد الشعب الجزائري إبان الليل الاستعماري الطويل (2)

هدف فرنسا الاستعمارية من وراء انتهاجها لسياسة الإبادة الجماعية ضد الجزائريين

بداية نقول بأن الشيء الملاحظ هو أن فرنسا الاستعمارية قد جاءت إلى الجزائر بنية البقاء فيها وإلى الأبد ولذلك فهي عملت على تدمير كل ما له علاقة بالدولة الجزائرية قبل 1830 لأنه وكتحصيل حاصل لا يمكن لهم بناء الجزائر الفرنسية إلا إذا دمرت الجزائر الجزائرية العربية البربرية المسلمة. ولهذا ومن بعد أن تم تفكيك مؤسسات الدولة الجزائرية الرسمية وإحلال محلها إدارة ومؤسسات فرنسية فقد جاء دور تفكيك البنية الاجتماعية للجزائر وإبادة شعبها ليحل محله شعب كذاك الشعب الذي عبر الأطلسي وعَـمَّـرَ العالم الجديد وازدهر هناك وجعل من جزئه الشمال إنجلو سكسوني مع جيوب لاتينية. ولتحقيق هذا الهدف فقد وجب إبادة الجزائريين وخصوصا أولئك الذين يرفضون الرضوخ للمحتل فهذا العمل كان ضرورة لاستمرار بقاء ذلك المحتل الغاصب في الجزائر وبالتالي فقد وجب تغليب العنصر المستوطن على العنصر الجزائري ليكون الأخير طابورا يساعد الجيش الغازي في احتلاله للجزائر وفي تثبيت جذور فرنسا الاستعمارية في منطقة الشمال الإفريقي وهذا ما عبر عنه الجنرال بيجو وهذا حينما قال للمعمرين بأن القوة التي تحت إمرته ما هي إلا وسيلة ثانوية ذلك أنه لا يمكن أن نغرس العروق هنا إلا بواسطة الهجرة الأوربية وبهذا فقط تضمن فرنسا بقائها في الجزائر وإلى الأبد . نعم إن كل قادة فرنسا الاستعمارية في القرن التاسع عشر كانوا يحلمون بأن تتحول الجزائر إلى أمريكا جديدة ولقد شرعت بالفعل في تجسيد هذا الهدف فها هو كوزيل يقول: "يلزم أن نصنع أمريكا جديدة هنا بالجزائر، بإبادة سكانها الأصليين، كالهنود الحمر في العالم الجديد حتى يسود الجنس الأوروبي عدديا ويصبح الاستعمار استيطانا دائما ".31 ولئن نجحوا في الهدف السابق ذكره فهنا تتحول الجزائر إلى قطعة من أوروبا أو كما قال الجنرال كلوزيل أن يجعل من الجزائر سان دومنيك Saint Dominic جديدة - والتي سنتحدث عليها لاحقا - أي أن يجعلوا من أرض شرقية أرضا غربية 32 . ولئن كان هذا هو هدف الاستعماري المعلن والذي يجاهرون به صراحة وهذا حينما يقولون بأن وجود البربر في الجزائر لن يجعلها عربية ووجود واحد مليون مستوطن مسيحي لن يجعلها تنتمي للعالم الإسلامي وعليه فلماذا ما يشرعونه هم لأنفسهم يشنعون عليه ويجرمونه عندما يسلك دربه الطرف الآخر فبأي حق يحق لهم أن يحولوا الجزائر إلى قطعة من الغرب ولا يحل للجزائريين أن يكونوا جزء من العالم العربي والإسلامي؟ ونحن هنا لا نقف مع أو ضد أحد المشروعين فهذا الأمر يقرره الشعب الجزائري وحده ولكننا نحاول أن نفهم من أعطى الحق لفرنسا الاستعمارية بأن تقرر مصير الجزائريين ورغما عن إرادتهم وبالقوة؟ إن مرد هذا يكمن في فكرة ادعاء الاستعمار بأنه هو وحده على حق وهو وحده من يمتلك الحقيقة ويمتلك مفاتيح الخلاص بالمعنى الدنيوي ولكل سكان الكرة الأرضية وأنه يجب على كل الشعوب والأمم أن تتتلمذ على يد فرنسا الاستعمارية شعلة الحضارة وتتبع خطواتها .

وفي نفس السياق نقول بأن الهدف من إبادتنا يتمثل في إحلال العنصر المستوطن الأوروبي في مكاننا وهذا لضمان بقاء فرنسا في الجزائر وإلى الأبد حيث يقول عالم الاجتماع شارل فوريCharles Forey بأن هجرة الأوروبيين إلى الجزائر يجب أن تكون عارمة جارفة يجب أن نبعث جحافل دهماء من الأوروبيين إن في استطاعة فرنسا أن تبعث دون أن تنهك قواها أو ترهق نفسها أربعة ملايين نسمة ثم تبعث أوروبا ما تبقى 33 وهو نفس مخطط الجنرال بيجو والذي قال في جانفي 1840: " نحن في حاجة إلى جحافل دهماء من المعمرين الفرنسويين والأوروبيين ولكي تجلبوهم عليكم أن تعطوهم أراضي خصبة لا يطير غرابها ... حتى يصبحوا أصحابها وأربابها ويصير أربابها الأولون نسيا منسيا: " 34 . وبعد هذا يستغبينا السيد فرانسوا هولاند بقوله بأنه لم تكن هناك نية لفرنسا الدولة في إبادة الشعب الجزائري والنصوص التاريخية تكشف زيف ادعائه وتهافت مقالاته وإننا نجد هنا بأنه من الإهانة لتضحيات أبائنا وأجدادنا الرد عليها ولكنها الضرورة هنا ليعرف كل واحد ما له وما عليه في المستقبل وفي قادم الأيام .

نعم إنه وحسب منظري الاستعمار ورواده الأوائل فإنه كان يجب إبادة الجزائريين لكون ذلك الاستعمار الفرنسي قد كان يخاف من الجزائريين وهو يعلم بأنهم يتحينون الفرص للثورة عليه ورميه في البحر وهذا ليس استنتاجا من عندنا وإنما هو الواقع الذي عاشته الجزائر في معظم القرن التاسع عشر ولهذا فإن الإدارة الفرنسية في الجزائر قد كانت لا تثق في الجزائريين أصلا والقائمون عليها لا يثقون حتى في الرؤساء الأهليين المعينين من قبل فرنسا ويعتبرونهم متضامنين مع الأهالي 35 فكيف إذن سيثقون في هؤلاء الأخيرين والذين وحسبهم سيغتنمون أول فرصة للثورة عليهم ولذلك فالحل الوحيد عندهم هو تعمير البلاد بجيش من المستوطنين الذين يتعاطون الزراعة وإقطاعهم الأراضي الزراعية والتي يجب انتزاعها من الجزائريين 36 حتى أنهم قد فكروا في جلب معمرين من موارنة لبنان إلى الجزائر لتعمير الجزائر وكأنها كانت خالية ليعمرها شذاذ الآفاق والمجرمين والمنحرفين والقتلة واللصوص ولكن فرنسا تراجعت عن المشروع وهذا لحاجتها لهؤلاء الموارنة في المشرق العربي .

كما أن تنامي قوة المقاومة الجزائرية جعل فرنسا تعيد حساباتها وتعيد النظر في سياستها في الجزائر فالمراكز الاستعمارية في الشمال كمدن الجزائر وعنابة ووهران مستقبلها غير مضمون طالما بقيت هناك قوة في الداخل تهددها ولذلك فقد وجب اعتماد سياسة الاستعمار الشامل والواسع والتوغل نحو الدواخل وحركة التوسع هذه حتما سوف تتصادم مع المقاومة الجزائرية وما يتبع انهزام الأخيرة من إبادة للجزائريين بهدف السيطرة على أراضيهم ومن ثمة توطين معمرين محلهم .

ولذلك فقد عملت فرنسا على إضعاف المقاومة الوطنية الجزائرية وذلك بحرمانها من العنصر البشري – وهذا عبر انتهاج سياسة الإبادة الجماعية - والذي هو وقودها وعمودها الفقري وفي مقابل هذا تكون تقوية العنصر الأوروبي المستوطن وهذا عبر إحداث توازن سكاني بين المجموعة الأهلية وبين المجموعة الأوروبية وإن أمكن تغليب الثانية عدديا على الأولى . كما لا يجب أن ننسى بأن العنصر الأوروبي المستوطن في الجزائر كان على علم تام بأن ميزان القوة البشرية في الجزائر هو لصالح الجزائريين وأن حاضرهم محفوف بالمخاطر وهش وأن مستقبلهم غامض ومفتوح على كل الاحتمالات ولذلك وجب عليهم التخفيف من حدة هذه الفجوة السكانية بينهم وبين الجزائريين وأقرب طريق للوصول إلى هذه الغاية هو إبادة الجزائريين والتخلص من هذا الكابوس الذي يؤرقهم والذي يرهن بقائهم في الجزائر . كما أن المعمرين سوف يكونون عونا للجيش الفرنسي العامل في الجزائر وذلك بتخفيف عنه عبء العمليات العسكرية وعبء الدفاع عما اغتصبوه عنوة من الجزائريين من أراضي وعقارات وهذا بتكوين مليشيات مساعدة للجيش . إن لم توكل لها هي مهمة وأمر حماية تلك الأراضي والتي تم توزيعها على أفرادها وبالفعل فقد تم إنشاء ما يسمى بالحرس الوطني فتألفت منهم أربع فرق من المشاة وفرقة من الفرسان لإرهاب الجزائريين 37 .

وما يؤكد كلامنا السابق هو ما صرح به وزير الحرب جيرار Étienne Maurice Gérard والذي قال: " لا بد من إبادة جميع السكان العرب إن المجازر والحرائق وتخريب الفلاحة هي في تقديري الوسائل الوحيدة لتركيز هيمنتنا " 38 نعم إن الهدف هنا ليس وكما جاء في الدعاية الفرنسية المزيفة عشية الاحتلال من أن الفرنسيين قادمون لتحرير الجزائر من حكم الأتراك الظالمين وإنما الهدف هنا هو الهيمنة ولا شيء غير الهيمنة وأن يحلوا هم محل الأتراك في استغلال الخيرات الجزائرية وفي استغلال شعبها .

إن السيد فرانسوا هولاند وعندما قال في المقابلة التليفزيونية والتي جمعته بطلبة مدرسة ثانوية في العاصمة باريس وهذا على شاشة قناة كنال+ Canal الفرنسية في نهاية الأسبوع الثالث من شهر أفريل 2015 والتي أنكر فيها أي في تلك المقابلة التلفزية نية رواد الاستعمار الأوائل في إبادة الجزائريين وقوله فيها بأننا أي الفرنسيين لم نرتكب جرائم حرب في الجزائر وعليه فلن نعتذر للجزائريين . وللمزيد عن تلك المقابلة أنظر مقال إيمان علي إسماعيل والذي يحمل عنوان " لم نرتكب جرائم في الجزائر ولن نعتذر للجزائريين " والمنشور بجريدة النهار الجديد الجزائرية ليوم الإربعاء 22 أفريل 2015 39 وهو هنا إما جاهل بالتاريخ وبنية بيجو وكلوزيل في تحويل الجزائر إلى غوادالوب Guadalupe ومارتينغ Martinique جددتين . كما أنه يجهل بنية كلوزيل في إبادة الشعب الجزائري عن بكرة أبيه كما هو موثق في مقالاته السابقة الذكر وإن كانوا لم يبيدونا وكما سنتطرق لهذا لاحقا وهذا لصعوبة إبادتنا عمليا أو لكونهم تركونا للأعمال الشاقة والتي من المستحيل أن يشتغلوا فيها هم مثل شق الطرق ومختلف الأنشطة الزراعية والفلاحية وللعمل في المحاجر وعليه فقد تركونا لكوننا وبكل بساطة يد عاملة مسخرة مجانا لصالحهم . نعم لقد كانت نية الاستعمار الفرنسي مسح كل الجزائريين من الوجود لولا أن إمكانياتهم خانتهم لانجاز هذه المهمة القذرة ولقوة مقاومتنا الباسلة .

كما كان الهدف القائم من وراء إبادتنا هو السيطرة على أراضينا وسلبها فها هو الجنرال بيجو يصرح في ماي 1840 وذلك في مجلس النواب الفرنسي بأنه يجب أن يقيم المستوطنون في كل مكان توجد فيه المياه الصالحة والأراضي الخصبة دون الاستفسار عن أصحابها وهذا ما يشهد له ما كتبه فريدريك انجلز Friedrich Engels والذي كتب في العام 1857 وعند زيارته للجزائر: " ومنذ احتل الفرنسيون الجزائر لأول مرة حتى الآن كانت هذه البلاد البائسة ميدانا لأعمال متواصلة من إراقة الدماء والسلب والعنف . بينما أولئك البائسون من أفرادها الذين بقوا على قيد الحياة قد سقطوا ضحية القتل الجماعي أو فريسة أهوال العهر الوحشية " 40 وهو هنا لا يستشهد بالنص الكامل والذي جاء فيه من أن الجزائر قد أصبحت: " ميدانا لأعمال متواصلة من إراقة الدماء والسلب والعنف . لقد احتلت كل مدينة، كبيرة أو صغيرة، الواحدة تلو الأخرى، لقاء تضحيات هائلة . إن القبائل العربية والأمازيغية التي تقدر الاستقلال بأغلى الأثمان والتي تشكل كراهية السيطرة الأجنبية مبدأ أعز من الحياة نفسها بالنسبة إليها، قد سحقت من جراء غزوات رهيبة أحرقت ودمرت خلالها مساكنها وممتلكاتها، وأتلفت مزروعاتها. بينما أولئك البائسون من أفرادها الذين بقوا على قيد الحياة قد سقطوا ضحية القتل الجماعي أو فريسة أهوال العهر الوحشية " .

كما أنهم كانوا وحسب اعتقادهم الخاطئ بأن ما يقومون به هو مجد أي أنهم كانوا يسعون إلى تحقيق أمجاد عسكرية يرتقون بها درجات السلم الاجتماعي فهم هنا لا يفرقون بينه أي بين المجد وبين الهمجية والبربرية والوحشية وهذا الكلام هو ما يخبرنا به شال أندري جوليان Charles-André Julien والذي يقول بأن: " جنرالات جيش إفريقيا لا يحرقون البلاد خفية، إنهم يستعملون ذلك ويعتبرونه مجدا لهم سواء أكانوا ملكيين أم جمهوريين أو بونابارتيين " 41 تماما كما اعتبروا وبتعبير أبو القاسم سعد الله أن ما عادوا به بعد سقوط مدينة الجزائر من مسروقات تحفا 42 ولذلك فقد كانوا يعتنقون المفاهيم وبصورة مقلوبة فالقتل والتدمير مدنية وحضارة وتعمير والسرقة واللصوصية هي عملية تجميع للتحف وبين هذه وتلك كنا نحن ضحايا لليل استعماري طويل مدته 132 سنة .

والكارثة الكبرى هي أن سياسة الإبادة الجماعية لم تكن مبررة من قبل الجهلة والمتعصبين الذين حلوا في بلادنا وإنما كانت مبررة من قبل الطبقات المثقفة في فرنسا والمتشبعة بأفكار عصر التنوير وبمبادئ وفلسفة الثورة الفرنسية الكبرى وكان على رأس هؤلاء ألكسي دو توكفيل والذي برر جرائم الإبادة الجماعية والتي قد كان يقوم بها الجيش الفرنسي الغازي للجزائر وهو حتما هنا يتماثل مع من أبادوا الهنود الحمر في أمريكا من البيض وهو الذي عاش بينهم ردحا من الزمن فهو يعتقد أي ألكسي دو توكقيل بأن واجب الحرب يملي عليهم أن يخربوا البلد بتدمير المحاصيل الزراعية وبالقيام بهجمات يلقى من خلالها القبض على الرجال والاستيلاء على الماشية وتدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية وأنه يجب أن يدمروا كل شيء . كما أنه كان ينظـّر للسياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر ويبررها ويدعو صراحة فرنسا إلى تهجير الجزائريين بهدف السيطرة على أراضيهم 43 كما أنه يفتخر بالحرب التي قادتها فرنسا الاستعمارية في الجزائر والتي أصبحت حسبه علما يدرس 44 ويسقط معه وفي نفس الخطيئة الأديب فيكتور هيجو Victor Hugo والذي هو الآخر يفتخر بجرائم فرنسا في الجزائر ويراها أنوار التحضر والتي تكتسح حسبه البربرية فها هو يقول: " إن الغزو الجديد الذي قمنا به في الجزائر ذو شأن كبير ومفرح إنها الحضارة التي تكتسح البربرية إنه الشعب المستنير الذي يذهب باتجاه شعب غرق في الظلام نحن إغريق العالم وعلينا أن نضيئه " 45 ولذلك فكلهم شركاء في الجريمة ملكيين كانوا أو جمهوريين رأسماليين أو اشتراكيين نبلاء أو من عامة الناس عسكريين أو مدنيين رجالا أو نساء رجال دين أو علمانيين ملحدين أو كاثوليكا أو بروتستانت فكلهم في جريمة إبادة الجزائريين شركاء .

إضافة إلى ما سبق فهم كانوا يهدفون أيضا إلى السلب والنهب وتكديس الغنائم كغزوة أولاد نايل والتي يعتبرونها من أنجح الغزوات حيث أنهم استولوا فيها على 25 ألف رأس من الأغنام وعلى 600 رأس من الإبل محملة بالغنائم حتي أن نصيب الجندي الواحد قد كان نصيبه منها ما بين 25 و 30 فرنك وهي قيمة محترمة في ذلك الوقت والنصيب الأكبر ذهب لجيب قائد عصابة اللصوص هذه والباقي تم توزيعه على القبائل الموالية لهم وعلى شكل هدايا فاخرة لحفل زفاه زوجة اللقيط يوسف 46. كما أن هناك هدف آخر ويتمثل في إشباع غرائز القتل والتدمير بغية إعطاء دروس وعبر لباقي سكان الجزائر بأن هذا هو مصير كل من يتجرأ ويقاوم الإرادة الفرنسية في الجزائر كما هو الحال في واحة الزعاطشة والأغواط فهي كلها دروس قاسية نتج عنها الهدوء كما يقولون وهذه السياسة الإجرامية قد طبقت في عام 1844 من قبل بيير دو كاستيلان Pierre de Castellane والذي يقول: " مكثنا عدة أيام في مخيمنا العسكري ونحن خلال تلك المدة نتلف أشجار التين والمحاصيل الزراعية ولم نغادر المنطقة إلا بعد أن خربناها تماما ... وبذلك أعطينا درسا قاسيا لهؤلاء السكان " 47 وأيضا بهدف قهر الجزائريين وقتل روح المقاومة فيهم وهذا عبر بث عقدة الخوف بينهم وهذا ما يتضح من مقولة من لاموريسيير: " لا يمكن تصور الرعب الذي يستولي على العرب حيث يرون قطع رأس بيد مسيحية، فاني أدركت ذلك منذ زمن بعيد واقسم لك بأنه لا يفلت احد من أظفاري حتى ينال من بز رأسه ما يناله... وقد أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم أنهم لو أتوا بعربي حي لأنهلت عليهم ضربا بعرض نصل سيفي . وأما قطع الرؤوس فهي تكون على مرأى ومسمع جميع الناس " 48 .

 

مبرر فرنسا الاستعمارية في إبادة الجزائريين

وقد يتساءل البعض ويقول ترى كيف مات ضمير هؤلاء المستعمرين ومعه أقبروا إنسانيتهم ولم تعد تحركهم تلك الفظائع التي يرتكبونها؟ إن الجواب هنا لجد بسيط فهم لم يكونوا يروننا ننتمي إلى الجنس البشري بل كانوا يروننا جنس منحط وجب إبادته حتى يتمكن الجنس الأرقي من الحلول مكانه فهذا قانون طبيعي فالعرق الأرقى يبيد الأعراق الأدنى منه وكلامنا هذا نجده فيما قاله وزير التعليم الفرنسي جول فيرى Jules Ferry والذي يخبرنا بأن المعمرين يعتبرون الأهالي من جنس بشري منحط لا يصلح إلا للاعتقال والأعمال الشاقة بدون مقابل ولا يستحقون إلا القهر والإذلال والهدف هنا واضح إنه يتمثل في إنهاء الوجود الجزائري وبكل الطرق وفي أسرع وقت ممكن ولهذا فهم عندما ينفذون ما يسمونه بالرزايا فالنتيجة حقا مرعبة فها هو مونتانياك السابق الذكر يقول لنا بأن الجنرال لاموريسيير قد محا من الوجود خمسة وعشرين قرية في خرجة واحدة أما سانت أرنو فهو يخبرنا بأنه في العام 1842 قليلا ما كان الجنود الفرنسيين يطلقون النار لأنهم يحرقون القرى والدواوير حتى أنه خلف وراءه 200 قرية تأكلها النيران 49 وبعدها يتحدث فرانسوا هولاند عن أعمال حربية أي استخفاف بتضحيات الجزائريين أكثر من هذا فقط لأننا لسنا كلنا بشر بنفس المرتبة فهم بشر من الدرجة الأولى ونحن حثالة لا تستحق الحياة .

نعم إن سياسة الإبادة الجماعية والتي مارستها ضد الشعب الجزائري فرنسا الاستعمارية كانت تتغذى وتجد مبرراتها في فلسفة ومنظومة قيم الاستعلاء العنصري المقيت وفي شعور الحقد والكره والبغض التي يكنها العنصر الأوروبي لنا في الجزائر وفي سياسة العدوان والاعتداء والتي أصبحت سياسة دولة وضعت لها الأطر الكفيلة بإنجاحها وتنفيذها 50 وتلك الأحاسيس جاءت نتيجة أفكار خاطئة كان الكولون يعتنقونها والتي تبرر التفوق العنصري كما هو الحال عند فيلسوف القوة نيتشه Friedrich Nietzsche والذي أخذوا منه تبريرا مفاده أن الإنسان الأعلى لا بد أن يرث الإنسان الأدنى ولذلك فهم لم يكونوا يؤمنون بوحدة الجنس البشري طالما أن نسب التطور ليست واحدة وعليه يمكن للأكثر تطورا إبادة الأقل تطورا هذا ما تراه المدرسة التطورية في القرن التاسع عشر والتي حلت نظرتها للإنسان محل النظرة المسيحية فتشالز دارون Charles Robert Darwin يقول بأنه سيأتي زمن على الأعراق المتحضرة تبيد فيه الأعراق الهمجية وترث منها الأرض حتما . كما أن دراوين أخبرهم بأن الأقوى في الطبيعة يقتل الأضعف ولذلك فهم كانوا لا يرون في إجرامهم عمل غير أخلاقي بل يرونه جزء من القانون الطبيعي وهذا نتيجة الاستنتاجات الخاطئة والمبنية على ملاحظات هي الأخرى خاطئة . مما أعطى لهم شرعية الاعتداء على حق غيرهم في الحياة . هذا الحق المقدس والذي انتهكوه وضربوا به عرض الحائط وينتهكونه وبصورة بشعة تشمئز لها النفس لبشرية السوية وهذا طالما أن الفلسفة التي يعتنقونها هي البقاء للأقوى لأن عظمة فرنسا كما يقولون تقتضي ذلك .

وعليه ومما سرع من وتيرة سياسة حرب الإبادة الجماعية ضد الجزائريين هي تلك الدراسات الاستعمارية الأنتروبولوجية الخاطئة والتي ترتكز على نظرية داروين والمنادية بفكرة الانتقاء الطبيعي وأنه لقدر محتوم أن تبيد الأجناس التي تجلس في أعلى سلم التطور الأجناس الدنيا وأن تخلفها في أوطانها وبما أن الفرنسيين هم من جملة الأعراق المتطورة والجزائريين فهم في أدني درجات سلم التطور فإن قدرهم الإبادة الجماعية كقانون طبيعي لا مفر منه .

ومما سبق ذكره نستنتج بأنهم كانوا لا يتعرفون بأننا بشر مثلهم ولا يعترفون بإنسانيتنا كأفراد شركاء لهم في العائلة الإنسانية الكبيرة وإنما هم فقط من يحتكر لنفسه صفة الآدمية والبشرية أما نحن فبشر دون البشر في مرتبة بين الحيوان والإنسان وهذا حسب نظرية داروين للتطور طبعا . وعليه فمن حق الكائنات العليا إبادة الكائنات الدنيا وتصفيتها لأنها ليست بشرا أصلا . ولهذا فقد استهانوا بأرواحنا فقتلونا لأجل التسلية ولا شيء غير التسلية تماما كما هو الحال في أمريكا حيث صار صيد الهندي من أمتع رياضات التسلية في نيوانجلاند New England فما أن يتم القبض على هذا الوحش حتى يتم تمزيق جسده أو إطعامه للكلاب . هكذا كان يتم صيد آلاف الهنود سنويا في العاب تسلية كانت تعتبر من الرياضات الشعبية في نيوانغلاند 51 وهو نفس ما كان يحدث في رحلات صيد الرؤوس في الجزائر والتي كثيرا ما اتخذها الكثير من جنود وضباط الجيش الفرنسي الغازي للجزائر أفضل هواية للتسلية ولتمضية الوقت .

إلى جانب ما سبق فهم كانوا يضنون بأنهم يقدمون خدمة للبشرية كلها وذلك بتخليصها من الأعراق المنحطة وهو نفس منطق الأمريكيين والذين كانوا هم بدورهم يقومون بإبادة للهنود الحمر شعوبا وقبائلا ومنهم قبيلة هنود الشايين Cheyenne Indians والتي تمت إبادتها عن آخرها ويفتخر الأمريكيون بتلك الأعمال الإجرامية وقال في شأنها الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت Theodore Roosevelt: " إن مذبحة سانت كريك كانت عملا أخلاقيا ومفيدا ذلك لأن إبادة الأعراق المنحطة حتمية ضرورية لا مفر منها " 52 وهو نفس منطق الغزاة الفرنسيين في الجزائر معنا لأننا نصنف عندهم كجزء من الشعوب المنحطة والتي وجب إبادتها خدمة للبشرية . وهنا يمكن القول بأنه ومن بعد انتهاء عهد الإبادات الكبرى للجزائريين جاءت مرحلة ثانية أصبح القتل فيها بصورة فردية وهذا حينما أطلقوا على الشعب الجزائري تسمية الراكون وهو حيوان يتسلل إلى خم الدجاج ويقوم بافتراسها في لحظات الغفلة ولذلك وكما هو أخلاقيا واقتصاديا وجب إبادة حيوان الراكون المزعج والمفسد فكذلك الحال مع الجزائري الذي وجب إبادته أينما وجد لأن الجزائري الجيد حسب الكولون هو الجزائري الميت تماما كما هو الحال مع الهنود الحمر في أمريكا .

كما أن سياسة الإبادة الجماعية في الجزائر قد كانت تستند إلى فكرة مفادها أن الاستعمار هو ظاهرة إيجابية تسمح بتمدد الحضارة والمجال الحيوي لفرنسا تماما مثلما هو الحال في أمريكا بالنسبة للو م أ وهذا هو رأى منظري الظاهرة الاستعمارية بالجزائر وعلى رأسهم ألكسي دو طوكفيل والذي يرى بأن الاستيطان والإبادة الجماعية والعنف والأرض المحروقة وطمس هوية الجزائر هم أقرب الطرق لتحقيق هذه الغاية وهو هنا مدفوع بمنظومة الفكر الليبرالي الذي يعتنقه والتي تريد أن تثبت جذورها في الجزائر لتحقيق مصالحها الاقتصادية فها هو يقول: " لا نستطيع أن نحكم أمة لمجرد أننا هزمناها " ولذلك وجب إبادة المنهزم حتى لا يستعيد قواه ويحقق النصر في الجولة المقبلة على أعدائه الفرنسيين . ويجمع دارسوه على أنه قد كان العقل المدبر والمخطط لسياسة التقتيل والإبادة الجماعية في الجزائر وبكل بساطة هو يريد نقل التجربة الأمريكية إلى الجزائر فها هو يقول: " لم تكن لدينا أي فكرة واضحة عن مختلف الأعراق التي تقطن بها ولا أخلاقهم، لم نكن نعرف كلمة عن اللغات التي كانت تتكلمها شعوبها " وكأننا هنا أمام لوحة لشعوب الهنود الحمر وليس للشعب الجزائري .

صراحة لا يمكن أن ننتظر من ألكسي دو توكفيل غير ما بدر منه من مواقف تجاه احتلال بلاده للجزائر فهو يضع نفسه في الضفة المقابلة للجزائريين فهو في ضفة الأمريكيين البيض ونحن يضعنا في ضفة الهنود الحمر وكلنا نعلم كيف عامل الرجل الأبيض في أمريكا الرجل الهندي الأحمر . ولذلك فهو يقول : " لا بد أن يقع تدمير كل تجمّع سكاني سواء كان قرية أو مدينة أو ما يشبه ذلك، واعتقد أنه يتحتم علينا عدم ترك أي شيء يمكن أن يعتمد عليه عبد القادر في حربه ضدنا " والبشر مما يعتمد عليه الأمير عبد القادر في حربه ضد الفرنسيين ولذا وجب تدمير البشر وإبادتهم لمنع الأمير عبد القادر من القوة المادية اللازمة لهزم فرنسا الاستعمارية وتحقيق الهيمنة الشاملة بتعبيره هو لفرنسا على الجزائر وهذا لا يتم إلا بتدمير مل كان قائما سابقا وإبادته . كل هذا لأن فرنسا ومعها أوروبا في القرن التاسع عشر كانت تعتنق فكرا استعلائيا وتنظر بدونية إلى الشعوب غير الأوروبية باعتبارها شعوبا همجية لا تستحق الحياة إلا إذا ذابت في الجسم الأوروبي .

وإضافة إلى ما سبق فهو يدعي بأن: " دين محمد هو السبب الأساسي في تدهور العالم الإسلامي " وهو كان مؤمنا بالمهمة الحضارية الاستعمارية في الجزائر ولذلك وجب تدمير كل ما يعوقها والدين الإسلامي طبعا على رأس القائمة وتتبعه اللغة العربية لغة كتابه المقدس بصورة تلقائية ومعهما كل الدور التي تمارس فيها العبادات الإسلامية من مساجد وزوايا ومدارس قرآنية وبجملة واحدة الحرب على مقومات الهوية الوطنية الجزائرية والعمل على إبادتها .

ولكل ما سبق فإن إبادة الجزائريين لم تكن عند الفرنسيين جريمة يعاقب عليها القانون سواء كان القتل بصورة فردية أو بصورة جماعية بل أصبح علما يدرس في مختلف المدارس العسكرية الفرنسية ومنها نقلوه إلى مختلف الدول الاستعمارية الأخرى ولا هو خطيئة من الناحية الدينية لكونهم ينطلقون هنا مما جاء في كتبهم المقدسة وعلى رأسها سفر التكوين الآية 1: 28 والتي جاء فيها: " وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ " 53 . وبما أن الجزائريين لا يحسنون فن الزراعة واستغلال الأراضي الزراعية فعليه وحسبهم وجب افتكاك الأراضي من الجزائريين ومنحها للأوروبيين الذين سيستغلونها أحسن استغلال هذا من جهة ومن جهة أخرى فمن حق الفرنسيين الاستيلاء على أراضيهم تنفيذا لوصية الرب السابقة الذكر أعلاه ونفس الأمر مع كل خيرات الجزائر الأخرى السطحية منها والباطنية . وهنا انكسرت كل الحواجز التي تحول دون إبادتنا وإفنائنا . فالمعمر أصبح في مقابل العربي الجزائري والفرنسية في مقابل العربية والمسيحية في مقابل الإسلام وكل لا بد من أن يبيد نظيره وأن يبسط هو لوحده هيمنته على الجزائر . وهذا هو الدين الذي اعتنقته فرنسا الاستعمارية في الجزائر وعملت وبكل قواها على تجسيده على أرض الواقع .

ومن ناحية أخرى فلئن كان البربر من سكان جرجرة وفقط قد تم تصنيفهم مع البولنديين حسب المستعمر الفرنسي أي أنه وبقليل من التعليم يصبحون ذوي نفع للاستعمار وبالتالي يمكن الإبقاء عليهم فإن إخوانهم في الوطن والدين والجنس من باقي الجزائريين والذين صنفوا على أنهم قوم همج ومتوحشين وجنس غير قابل للتعلم 54 . نعم إننا في نظرهم متوحشون ومتعصبون وبدائيون وبدو ونحن أعداء للحضارة وعليه يجب عليهم إبادتنا كالوحوش 55 وهذا حتى نفسح المجال لانتشار الحضارة . وبالتالي فليس من المنطق الإبقاء علينا بل يجب إبادتنا وهذا لكي يحل محلنا جنس جدير بالحياة مفيد لغيره من الأعراق البشرية الأكثر تطورا وهذا الجنس هو الجنس الأوروبي المستوطن في الجزائر .

كما أنهم كانوا يروننا شعبا كسولا منحته الطبيعة أرضا هو ليس أهلا لامتلاكها ويروننا مجتمعا غير قادر على أن ينتقل إلى المرحلة الصناعية ولذلك وجب الحلول محله 56 وهذا حتى تندمج الجزائر في بوتقة العالم الصناعي . مستغلين في هذا تبريرات وهمية مثل التخلف والكسل وإلصاق صفة البدائية بنا مما يؤدي وبصورة آلية إلى تجريدنا من حقوقنا الإنسانية مما يسهل عملية إبادتنا . 57 ولكل هذا فالأوروبيين في الجزائر لا يعترفون بأي حق للجزائريين وهذا بشهادة جول فيري والذي يقول نقلا عن عباس فرحات: " من الصعب علينا أن نقنع المعمر الأوروبي بأن هناك حقوقا أخرى غير حقوقه في بلاد عربية " ليل 58 ومن بين تلك الحقوق طبعا الحق في الحياة والذي اعتقد ذلك المعمر بأنه لن يضمن حقه هو في الحياة إلا إذا أباد الجزائريين عن بكرة أبيهم وهنا فقط يضمن هو حقه في الحياة . ولماذا يا ترى من الصعب أن يعترف الكولون بحقوق غير حقوقه في البلاد العربية؟ . ذلك أن المستوطن لا يعتقد أصلا بأن للجزائريين حقوق لأنهم بشر دون البشر وأي حقوق يطالب بها الشعب الجزائري فهي في نظر المستوطنين تعديا على حقوقهم المشروعة ووجب عندها سحق كل من يطالب بها وبكل قسوة وإبادته وهذا ما تجسد في مجازر الثامن من ماي 1945 الرهيبة عندما طالب الجزائريون بحقوقهم الوطنية المشروعة .

وهنا من حقنا أن نتساءل هل حقا نحن قد كنا متوحشين؟ الجواب الأكيد هو لا إننا لم نكن مطلقا متوحشين بل هم البرابرة المتوحشون وهذا بشهادتهم هم على أنفسهم وهذا وفق ما جاء في تقرير اللجنة الإفريقية للعام 1833 والتي جاء فيه: " لقد أصبحنا أكثر وحشية من السكان الذين جئنا لتمدينهم " 59 . وهم فقط يرموننا بالتوحش ليجدوا مبررا لغزونا وإبادتنا كما قالوا عن المجاهدين الجزائريين أثناء الثورة التحريرية المباركة 1954 / 1962 بأنهم قتلة وفلاڨة وإرهابيين وهذا لإيجاد مبرر لسحقهم والقضاء عليهم ومن دون أية رحمة وتبين في الأخير بأن الفرنسيين في الجزائر ما هم إلا مجرد عصابة من المرتزقة والقتلة والمجرمين والسفاحين وهذا بشهادتهم هم تماما كما كان من قبلهم البرتغاليين والأسبان والإنجليز هم البرابرة الحقيقيون في العالم الجديد . وهي تهمة قديمة فغير اليونان والرومان برابرة يجب إبادتهم وسحقهم والهنود الحمر في أمريكا وثنيون ومقدمي القرابين البشرية والأفارقة كل الأفارقة هم من آكلي اللحوم البشر والجزائريين قراصنة ولصوص بحر ومتوحشين يجب إبادتهم أيضا وكل هذه جملة أكاذيب لتبرير ما لا يبرر من جرائم الاستعمار وصدق مونتان Montaigneعندما قال من أن كل واحد يصف ما لم يألفه بالبربرية . نعم إن وعود ديبرمون كانت مجرد حيلة حرب هذا ما قرره خلفاؤه والذين وتحت زهو القوة العسكرية قرروا أن يبيدوا الشعب الجزائري والذي لم يروا فيه سوى إنسان متوحش يعيق انتشار الحضارة والمدنية والمسيحية في الشمال الإفريقي تماما كما هو الحال مع الهنود الحمر في العالم الجديد . ويا له من مبرر وهذا حينما يبررون حرب الإبادة ضدنا بالقول بأننا متوحشون نعرقل عملية انتشار الحضارة في المنطقة وبالتالي يحب إبادتنا لتسريع وتيرة نشر الحضارة المزعومة .

ومن جهة أخرى فهم قد كانوا يرون في أنفسهم الورثة الحقيقيين لإسلافهم الرومان في الجزائر والذين طردهم كما يقولون الغزاة العرب وهذا حسب اعتقادهم الخاطئ طبعا وهم جاؤوا لإرجاع الوضع إلى طبيعته . ولذلك فقد كانوا ينقبون عن الآثار الرومانية بالجزائر علهم يستمدون منها شرعية مزيفة كالحمل الكاذب تماما وهنا نقول لهم وهل قطعة النقود المغولية الموجودة في روسيا تعطي للمغول الحاليين حق استعمار روسيا وإبادة أهلها؟ أي حمق وسفاهة هذه؟ وكذلك الأمر مع قطعة النقود والمباني الرومانية في الجزائر وإلا فمن حقنا نحن كذلك احتلال كل شبه جزيرة أيبيريا وجنوب فرنسا وايطاليا وكل جزر البحر المتوسط لأنها كانت في يوم ما تحت سيادة العرب والمسلمين ونحن المغاربة تحديدا .

وبما أننا غزاة حسبهم فهذا يبرر جريمة طردنا من أرضنا ولأنه ليس لنا أي حق في هذه الأرض مهما تقادم مقاومنا بها . وهو كلام كله تغليط في تغليط ولهذا فهم لم يروا في أنفسهم سوى متغلبين خلفوا المتغلبين السابقين لهم وكل متغلب لا يستقر له الأمر إلا إذا أباد ومحا المتغلب السابق من الوجود كما هو حال روما وقرطاح بعد الحرب البونقية الثالثة .

وإنما الحقيقة هي أنهم يرون وكما اعتقدوا وعبروا عن ذلك من أن الأراضي غير الأوروبية تعد مناطق خالية من الحضارة، فهي ملائمة للاستعمار وهذه هي فلسفتهم التي بنوا عليها منظومة القيم الاستعمارية ثم اختلقوا لأنفسهم جملة من الحجج لتبرير غزوهم لأراضي غيرهم فلم يكفهم كل ما سبق من مبررات فابتدعوا فكرة المجال الحيوي والتي مفادها بأن الدولة مثل الكائن الحي تنموا باستمرار وعليه فحدودهم الجغرافية تتمدد في الزمان وفي المكان ولذلك فهي تتمدد إلى ما لا نهاية على حساب المجال الجغرافي التابع لغيرها من الدول والشعوب والأمم وكانت الجزائر ضحية لهذه الفكرة الاستعمارية .

وفي الأخير من حقنا أن نتساءل هل هناك من مبرر ديني استعملوه وبصورة مقلوبة وعبره برروا به سياسة القتل الممنهجة تلك تجاه الجزائريين من دون أن يهتز ضميرهم؟ نعم إنهم هنا يقلدون المستعر الأمريكي في العالم الجديد وما فعله بالهنود الحمر في أمريكا والتي اعتبروها أورشليم وإسرائيل الجديدة والتي استندوا على نصوص التوراة في تبرير إبادتهم للهنود الحمر كما هو الحال في سفر أشعيا الإصحاح 13 والذي منحهم رخصة قتل حتى الأطفال وللمزيد انظر كتاب منير العكش أمريكا والإبادات الجماعية وهو نفس المنطق والذي تبناه رواد الاستعمار في الجزائر وهذا حينما قلدوا سياسة إبادة الهنود الحمر ونقلوها إلى الجزائر وخاصة هؤلاء الذين عاشوا ولفترة من الزمن في أمريكا ككلوزيل وألكسي دو توكفيل وهذا ليطبقوها على الجزائريين . خاصة وأن كلمة إبادة ليست غريبة عن هؤلاء فها هو سفر الخروج يستخدم عبارة الإبادة ضد أعداء الشعب اليهودي وهذا ما يصادفنا في سفر الخروج والذي جاء فيه: " فَإِنَّ مَلاَكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ وَيَجِيءُ بِكَ إِلَى الأَمُورِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، فَأُبِيدُهُمْ " 60 . نعم إنه وكما بررت العبودية في العالم الجديد سابقا وهذا انطلاقا من التوراة أي أن قدر أبناء حام الأسود هو الاستعباد لخطيئة أبيهم فكذلك تم تبرير عملية إبادة غير المستعمرين وهذا انطلاقا من الكتاب المقدس أيضا فقط تم استبدال الكنعانيين واليبوسيين بالهنود الحمر وبالجزائريين . أما الإنجيل فلا يخلو هو الآخر من الدعوة إلى قتل أعداء المسيح وأي عدو له في نظرهم أكبر من المسلم والذي ما هو إلا الدجال عينه والذي يجب أن يسلط عليه هو الآخر سيف المسيح المسلط أصلا على الأرض وهذا كما جلء في إنجيل متى: " لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ مَاجِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّأُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا " 61 . أما إنجيل لوقا فقد جاء فيه: " أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي " 62 كما أن المسيح يعلنها صراحة من أنه لم يأت ليلقي على الأرض سلاما بل سيفا وهذا ما طبقه علينا الاستعمار الفرنسي في الجزائر وبصورة حرفية ومن العام 1830 وإلى غاية العام 1962 . ومن هنا تصبح روح غير المسيحي بروتستانتيا كان أو كاثوليكيا أقل قيمة من روح المسيحي مما يعطي القدرة على التجرؤ عليها وزهقها من دون وجه حق .

وهل الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر أكثر رحمة من مثيلتها في القارة الأمريكية والتي أبادت عشرات الملايين من الهنود الحمر حتى أنها أفرغت دولا وجزرا بكاملها منهم كجزيرة كوبا مثلا وللتوسع أكثر علينا العودة إلى كتاب المسيحية والسيف للمطران برتولومو دي لاس كازاس Bartolomé de las Casas وقبلها أبادت الشعب المسلم في إسبانيا عن بكرة أبيه وهي أي الكنيسة من كانت تبارك أعمال محاكم التفتيش المتوحشة وأين يكون حفنة من الجزائريين أمام كل هؤلاء البشر والذين أبيدوا ظلما وعدوانا باسم المسيح عليه السلام؟ نحن لا نتجنى على الكنيسة الكاثولكية في الجزائر فهي شريكة في كل ما أتاه الاستعمار من جرائم الإبادة الجماعية في الجزائر فالجانب المادي للجندي كان بيد بيجو والجانب الروحي كان بيد لافيجري وهما وجهان لعملة واحدة شركاء في الجريمة بالتساوي خاصة وأنها أول من بارك الحملة على الجزائر وحرض الملك شارل العاشر على غزو الجزائر تحت غطاء الحروب الصليبية بهدف استعادة مجد الكنيسة الكاثوليكية على الشواطئ البربرية وهذا الكلام من قبيل الشواطئ البربرية والهمجية والتوحش وغيرها من الألفاظ التي ينعت بها غالبا سكان الجزائر من قبل المحتلين لهي شهادات فارغة من قبلهم لتبرير ما لا يبرر أي احتلالهم لأرضنا وعملهم على الدءوب على إبادتنا . والكنيسة تورطت في وحل الاستعمار لكونها قد كانت مقتنعة وكما قال أحد رجال الدين الكاثوليك ونحن هنا نقصد تورنيي Tournier والذي يخبرنا بأن الإنجيل و القرآن لا يمثلان مجرد ديانتين متناقضتين و لكن يمثلان - و هذا هو الأهم في رأيه- حضارتين متعارضتين. ولذا وجب أن تبيد الأقوى منهما الأضعف ذلك أنه لا مجال للتعايش بينهما في نفس المجال المكاني بل يجب لأحدهما أن يخليه للآخر .

كما يخبرنا مصطفى الأشرف في كتابه الجزائر الأمة والمجتمع بأن الجنرال شانغارنييه عمل على تبرير عمليات الإبادة الجماعية للجزائريين بالكتاب المقدس وبالضبط بأعمال النبي التوراتي يشوعjosué 63 أما الغلاة سواء كانوا مدنيين أو عسكريين فهم قد أرادوا تطبيق ما جاء في الكتاب المقدس وبصورة حرفية على الجزائريين تلك القوانين الآمرة بقتل الأطفال والنساء والشيوخ والحيوانات تماما كما فعل بيلسييه bilisier وهذا حينما ارتكب جريمة محرقة غار الفراشيش في العام 1854 بجبال منطقة الظهرة . وهذا لا لشيء سوى لكون الكولون كانوا يعتقدون بأن العناية الإلهية هي من منحتهم الجزائر فها هو الماريشال فالي يقول: " إن احتلال الجزائر لم يتم كنتيجة لرأي إرتأيته أنا أو لقرار حكومي ... بل هو أمر حتمته الأقدار على فرنسا " 64 ونبقي دوما مع مصطفي الأشرف والذي يخبرنا بأن كلام الماريشال ذاك يشبه كلام لويس فييو fiaut Louis وبوجولاpojolat وريشار Richard فالأول والثاني مدفوعان بالعاطفة الدينية والثالث مدفوع بروحانية القوة أي قوة الأقدار التي سلمتهم إدارة شؤون الجزائر وفي خطاب وجهه إلى الأمير عبد القادر يخبره فيه بأن الله معه ينصرني ويرعاني ولهذا فهو يتذرع بالحقوق المقدسة التي يجب إحقاقها ولو على حساب الغير 65 وهو أمر لا يفاجئنا إذا علمنا أن الحملة الفرنسية على الجزائر قد ارتدت ومنذ بدايتها لباس الحملة الصليبية عليها ورفعت شعار إعادة بناء الكنيسة الرومانية المسيحية في كل شمال إفريقيا والبوابة طبعا هي الجزائر .

والحقيقة المرة هي أنهم حاولوا إبادتنا ليسرقوا وطننا ويرتقون وعلى حسابنا ليصبحوا من علية القوم وصفوة المجتمع وكان يحركهم الجشع والطمع ولا شيء غير هذا في أرضنا ولأجل أن يجدوا لأنفسهم من مبرر فقد استغلوا التاريخ والحق السماوي المسيحي المقدس ومعه الحق الحضاري بهدف تبرير جريمة إبادتنا واقتلاعنا من أرضنا ماديا ومعنويا ثم حاولوا الاستنجاد بالعلوم المزورة كأنتربلوجيا الاستعمار على أساس أن ما حدث لنا هو حتمية وقدر الإنسان الأدنى وكل هذا لأنهم أعطوا لأنفسهم حق تقرير مصيرنا وفي غيابنا ولو إلى حين .

 

خلف الله سمير ابن امهيدي الطارف الجزائر

في المثقف اليوم