قضايا

المشتركات العقائدية بين السنة والشيعة .. انفتاح العلماء الشيعة وانغلاق العلماء السنة

basem alhesnawiالمشكلة هي أنك عندما تقرأ كتابات بعض علماء الدين السنة أو تسمع أحاديثهم أو حواراتهم في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، تشاهد العجب العجاب، فتستغرب هل ان هذا المذهب الذي يتكلمون عنه ويسردون على جماهيرهم عقائده وما يؤمن به من المقولات هو المذهب الشيعي الاثنا عشري فعلاً، أم أنه مذهب آخر وانهم وقعوا في الاشتباه فقصدوا أن يذكروا عقائد مذهب آخر ربما لم تطلع عليه من خلال تجوالك وسياحتك في كتب العقائد ومؤلفات علم الكلام، ولكنهم نسبوا تلك العقائد خطأ واشتباهاً إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، تسمعهم يقولون على سبيل المثال ان الشيعة الاثني عشرية يدعون شراكة علي بن ابي طالب (ع) مع النبي (ص) في الرسالة، او ان الأمين جبرائيل عليه السلام قد أخطأ أو انه خان الأمانة عمداً فأنزل الوحي على النبي محمد (ص) وكان المفروض أن يقوم بإنزاله على علي (ع)، أو أن الشيعة الاثني عشرية لديهم قرآن غير هذا القرآن المتداول بين الناس، أو أنهم يقولون بتحريف القرآن الموجود عند المسلمين اليوم ولا يعملون به كما لا يعترفون به من الأساس، أو أنهم يعتقدون بألوهية علي بن أبي طالب بتأويل معين هو أشبه ما يكون بمذهب الحلولية من النصارى والصوفية وغيرهم، أو أنهم يتخذون من التربة الحسينية صنماً فيسجدون له آناء الليل وأطراف النهار أثناء الصلاة، إلى غير ذلك من التهم التي رد عليها العلماء الاثنا عشرية مئات الردود وبينوا ما يناقضها من عقائد الشيعة الصحيحة في عدد هائل من الكتب والرسائل والمقالات.

نحن نعيش اليوم في ظل ثورة معلوماتية هائلة لم يعد معها متاحاً لهؤلاء أن يستمروا بالتحريف والتزوير والافتراء، فلا يمكن للعالِم السني أن يستمر في كذبه على جماهير السنة، فيحرف عقائد الشيعة في نظرهم، وكذلك الشأن بالنسبة إلى العالِم الشيعي، فإنه لا يستطيع أن يشوه مقولات المذاهب السنية وعقائدهم في نظر الشيعة دون أن يكتشف ألاعيبه وتزويره كل أحد، فلم يترك الانتشار الواسع للكتاب الشيعي والسني على السواء في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، كما لم يترك فضاء الانترنت الذي توجد فيه مؤلفات وأطروحات ورسائل الفريقين، مجالاً للاستمرار بهذا الكذب والتزوير، لولا أن قسماً كبيراً من الناس عاطلون عن القراءة إلا فيما ندر، كما ان هناك أمراضاً وعقداً نفسية تحول دون أن يطلع الكثير من الناس على كتب الآخر المذهبي، فيفضلون الاكتفاء في معلوماتهم عن عقيدة المذهب المخالف على ما يقوله علماء مذهبهم، ولو أنهم بذلوا جهداً أكبر قليلاً، ولو أنهم تخلصوا من عقدة التقليد لعلماء الذهب الذي ينتمون إليه، لاطلعوا على الكثير من الحقائق التي تشير إلى وجود قائمة طويلة من المشتركات العقائدية والإيمانية بين مذهب الشيعة الاثني عشري والزيدية والمذاهب السنية، بحيث لا يعود من السائغ في نظر الباحث المنصف مهما كان متشدداً لمذهبه تكفير هذا الآخر المذهبي على أساس جملة من المسائل الخلافية التي يحدث مثلها بين المذاهب السنية نفسها، أو بين المذاهب الشيعية نفسها، بل ربما حدث ما يشبهها بين أتباع كل مذهب على حدة، ولم يحدث التشويه العقائدي لمذهب التشيع في نظر جماهير السنة في الفترات الأخيرة فقط، بل ربما كان الأمر في العصور السالفة أقوى منه الآن وأشد، فإن نظرة سريعة في المدونات الكبرى للحديث في الجانب السني تشير إلى ما يحمله مؤلفوها من نفور شديد من أي راوٍ شيعي، فلا يكتفون بنفي عدالته فقط، بل ربما نسبوه إلى الغلو بآل البيت فاعتبروه ملحداً وكافراً على هذا الأساس، والحق ان المدونات الحديثية للشيعة الاثني عشرية لم تخل من هذا التوجه، فمن الإنصاف أن يقال إن بعض رجال الحديث والعلماء تصرفوا بذات الطريقة مع الآخر المذهبي السني، وإن كان الأمر غير قابل للتعميم كما هو الحال في الجانب السني، إلا أنه موجود على كل حال، نعم ان الاتجاه الغالب عند المحدثين الشيعة هو عدم رفض الرواية التي تتوفر فيها شروط الصحة حتى وإن وقع في طريقها أحد الرواة السنة، فيقبلونها، ويدرجونها تحت اسم الروايات الموثقة، بينما قام المحدثون السنة برفض أي خبر يقع في طريق سنده راوٍ شيعي، وربما لم يكن شيعياً بالمعنى المتعارف، إلا أنه يعرف بالميل الكبير في نظرهم إلى أهل البيت (ع)، فإن هذا وحده كافٍ لرميه بتهمة التشيع وعدم اعتبار ما يروى عن طريقه، حتى انهم قالوا عن الحاكم النيسابوري أنه شيعي، لا لشيء إلا لأنه روى أحاديث في فضل علي (ع) اعتبرها رواة الحديث السنة الآخرون تتناقض مع متبنياتهم المتفق عليها بينهم، والتي تتوافق تماماً مع توجهات السلطة الحاكمة في العصرين الأموي والعباسي، اما ما يقال من ان احد المعايير الأساسية التي يعتمدها الشيعة في تمييز الحديث الصحيح من غيره هو موافقته او عدم موافقته لحديث العامة، فتلك مسالة أخرى فصل القول بها احسن تفصيل السيد محمد تقي الحكيم في كتابه الخالد (أصول الفقه المقارن) اذ قال يراجع

ومع ذلك فإننا لا نقصد من هذا المقال تبرئة ساحة العلماء الشيعة من بعض التصريحات المجانبة للدقة بشأن السنة، بقدر ما نقصد أن نشير إلى حقيقة أن المشهد الشيعي يمتاز أكثر بالانفتاح على مذاهب السنة، فهم يعترفون –في الاتجاه الغالب على الأقل- أن لديهم جملة من العلوم قد تأثروا فيها بجهود العلماء السنة، من ذلك مثلاً علم الأصول الذي بلغ مديات واسعة بجهود المحققين الشيعة، إلا أنهم مع ذلك يعترفون بأن الخطوات التأسيسية لهذا العلم الذي بات أحد الأسس المهمة التي تعتمد عليها عملية الاجتهاد، إنما تمت على يد العلماء السنة، ناهيك عن تأثرهم أيضاً بالكثير من العلوم الأخرى، منها القواعد الفقهية، وعلم الكلام، أما المتصوفة والعرفانيون الشيعة، فإنهم لا يخفون تأثرهم بالغزالي وابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي وسائر المتصوفة والعرفاء الذين كانوا ينتمون إلى الخط العام للتسنن، وإن كانوا جميعاً ينهون طرقهم الصوفية ومسالكهم العرفانية إلى أئمة أهل البيت (ع). ومع أن عدداً من علماء السنة تأثروا بعلوم الشيعة، فإنهم لا يعترفون لهم بهذا الفضل، بل يحاولون التغطية عليه، ثم يرمون عقائدهم بالزيغ والانحراف، دون تفصيل دقيق يوضح الأسس التي تم على أساسها إبعادهم عن الدائرة العامة لمذاهب الإسلام.

بل إن أغلب العلماء السنة يتبعون منهجاً في التعامل مع بعض القضايا الخلافية لا يتسم بالدقة والموضوعية كما يجب أن يتسم به أي بحث علمي موضوعي، فإذا تحدثوا عن عقيدة البداء عند الشيعة الاثني عشرية، قدموه للقارئ السني بصورة يقطع معها أن القول بالبداء كفر محض، وأنه نسبة الجهل إلى الله سبحانه، وأنا على يقين أن العلماء المحققين من السنة لا يعتقدون في سريرتهم أنه كذلك، لكنها الرغبة في تشويه صورة الآخر المذهبي في نظر الأتباع، فهم يعلمون أن الشيعة يستندون في قولهم بالبداء إلى أدلة نقلية وعقلية تجعله مقبولاً على الأقل في نظر أي مسلم، بل إن الكتب الحديثية السنية نفسها تضمنت أحاديث إما انها تذكر البداء بشكلٍ صريح، أو أنها تقره بالمضمون، من ذلك مثلاً ما رواه البخاري عن أبي هريرة الذي جاء فيه (بدا لله في الأقرع والأبرص) ولم يختلف فهم العلماء السنة من كلمة (بدا) في الحديث المذكور عن فهم علماء الإمامية للبداء، كما انهم ذكروا عشرات بل مئات الأحاديث التي تتضمن الحكم بأن الصدقة والدعاء وصلة الرحم وغير ذلك من أعمال البر من شأنها أن تغير النتائج التي قدرها الله سبحانه على العبد في الحياة الدنيا كما انها تسهم في تغيير النتائج أيضاً ولنعم ما قال الشيخ المفيد في معناه:(وأقول: في معنى البداء ما يقول المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء، والإمراض بعد الإعفاء، والإماتة بعد الإحياء، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال.فأما إطلاق لفظ البداء فإنما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عز وجل، ولو لم يرد به سمع أعلم صحته ما استجزت إطلاقه كما إنه لو لم يرد على سمع بأن الله تعالى يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنه لما جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه، وقد أوضحت عن علتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإمامية بأسرها وكل من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا يرضاه) أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص80، وكذلك ما يقال بشأن زواج المتعة، فإنها مسألة خلافية عادية بين الشيعة والسنة، ناهيك عما يوجد في المصادر الحديثية السنية مما يؤيد رأي الشيعة في هذا السياق، وكذلك قل عن كثير من المسائل التي ثار جدل كبير بين العلماء الشيعة والعلماء السنة بشأنها، دائماً هناك في مصادر السنة ما يؤيد أقوال الشيعة فيها، وحتى لو فرضنا أنها مسائل اجتهادية خاصة بالشيعة، فإن العلماء السنة لا يحق لهم أيضاً أن يخرجوا على أساسها المذهب المذهب الاثني عشري من دائرة الإسلام، ما دام العلماء السنة أنفسهم قد أقروا على أنفسهم أن كل مجتهد يؤخذ من كلامه ويترك، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور بعد ذلك، فلماذا لا يتعاملون مع آراء الشيعة على هذا الأساس، فيعتبرون اختلافهم معهم في هذه المسائل المعدودة مسائل اجتهادية، يحق للمجتهد أن يبدي فيها رأياً، ولا يتوجب عليه أن يتفق بشأنها مع علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، بل لا يتوجب على المجتهد أن يوافق رأيه آراء المجتهدين الآخرين في المذهب الواحد كذلك.

نعم إن القضية الأساسية للخلاف بين الشيعة والسنة تتعلق بأصل من الأصول عند الشيعة الإثني عشرية وهي الإمامة، لكن الإمامة ليست أصلاً من أصول الإسلام عند جميع المذاهب السنية، بل هي من الفروع التي يحصل الاختلاف بشأنها دائماً، ولا يضر هذا الاختلاف في انتماء أي مجتهد فيها إلى الإسلام، فلو كان يحق لأي طرف التشدد في هذه المسألة، فإنما يحق ذلك للشيعة وليس لهم، لأن الإمامة عندهم أصل من أصول الإسلام، وليست فرعاً من فروعه، لكنهم مع ذلك لا يخرجون من لا يتبنى اعتقادهم في الإمامة من الإسلام، بل يقبلونه على أساس ما يحمله من مودة حقيقية لأهل البيت، وإن كانت دون المستوى العقائدي المطلوب بحسب رأيهم، ويحملونه على ظاهر الإسلام، ولا يسلبون له حقاً، ولا ينتهكون له حرمةً، فإذا قيل إن في بعض مؤلفات الشيعة ما يشير إلى أنهم يكفِّرون من لا يعتقد بالإمامة المطلقة الزمنية والدينية مثلهم، فإن عدداً من علماء الشيعة أجاب بما لم يدع مجالاً للريب، أن الكفر المقصود ليس هو الكفر الموجب للخروج من الملة، والسياقات التي وردت فيها تلك الأحاديث مضافاً إلى القرائن الحافة، وورود عدد هائل من الروايات التي تقرر بقاء المسلم على إسلامه وإن لم يكن يعتقد ذلك، شريطة أن يكون محباً لآل البيت وشيعتهم، لأن من ناصبهم وناصب شيعتهم العداء يكون قد رفض الأمر القرآني الصريح والأحاديث النبوية التي يعترف المسلمون جميعاً بصدورها عن النبي (ص) وهي متواترةٌ سنداً وصريحةٌ دلالةً في وجوب مودة آل البيت وشيعتهم على جميع المسلمين مما يؤيد ذلك، على ان جماهير الشيعة لا ياخذون بمضمون أي حديث موجود في بطون الكتب، بل هم يتبعون مرجعيات دينية فيها مجتهدون كبار ينقحون تلك الاحاديث تنقيحا علميا موضوعيا من الناحية الفقهية، ثم يقدمون نتائج اجتهادهم الى مقلديهم، فمن أراد ان يعرف راي الشيعة في هذه القضية فعليه الرجوع الى الرسائل العملية للفقهاء وليس الى كتب الرواية والحديث، لانها خاضعة لعمليات الدراسة والتنقيح على يد المجتهدين ولا تمثل ما عليه واقع الشيعة الاعتقادي والفقهي في جميع ما فيها من التفاصيل.

نحن لا نعتقد بأن من حق أية جهة أن تفرض على أي أحد من الناس مذهباً معيناً من المذاهب الإسلامية، كما ان الأصل في هوية أية دولة إسلامية أن يكون الإسلام هو الدين الغالب فيها، ولا يؤثر تعدد المذاهب في الهوية الإسلامية العامة لأي بلد، على حين اننا نجد العكس الآن، ففي جميع البلدان الإسلامية ينتشر الفكر العلماني الإلحادي المتطرف، ومع ذلك لا تجد في الأوساط الدينية في البلدان السنية التي تعترض على وجود أي نافذة لانتشار الفكر الشيعي فيها من يحتج احتجاجاً صارخاً على شيوع هذه الثقافة، بل إنهم يعتبرون أن السبيل الأوفق إلى مواجهتها هي الجدل والحوار المعرفي عبر تأليف الرسائل والكتب، فتتم مقابلة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، ولا يصار إلى المواجهة العنفية مع من يتبنون هذه الثقافة ويروجون لها في الأوساط المسلمة، لكن الدنيا تقوم ولا تقعد لو أن مكتبة من المكتبات أخذت على عاتقها نشر وبيع بعض الكتب الشيعية، حتى لو كانت كتباً لا يقرأها إلا الاختصاصيون في مجال الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلم الأصول، وليست معنية بمناقشة الأمور الخلافية بشأن الموقف من الخلافة والإمامة، على أن أحداً لا يستطيع أن ينكر حقيقة أن المكتبات العامة والخاصة في الوسط الشيعي عموماً تحتوي على الكتاب السني جنباً إلى جنب مع الكتاب السني دون أية حساسية، فيقتني المسلم الشيعي الكتاب السني دون أن يواجه منعاً أو حساسيةً من أية جهة، بل ثمة حث على اقتناء الكتاب السني ومطالعته أيضاً، من أجل أن يكوِّن القارئ في ذهنه صورةً متكاملةً عن آراء المذاهب الإسلامية المختلفة في أية مسألة من المسائل ذات الصلة بالعقيدة، فلماذا لا تكون مثل هذه الحالة شائعة ومنتشرة ومقبولة في البلدان السنية كذلك، ثم ألا يوافقني القارئ على أن الأسلوب الذي يعتمد على منع تداول المؤلفات التي تشرح عقائد الآخر المذهبي وآراءه وأقواله ما عاد يجدي في مثل هذا الزمان، فبإمكان أي إنسان جالس في بيته اليوم أن يفتح الانترنت ويقوم بتحميل أي كتاب من الكتب التي يواجهها المذهبيون بالمنع، بل إن قرصاً مدمجاً بسيطاً يحتوي على آلاف الكتب التي تعتبر ممنوعة ومشبوهة في نظر الآخر المذهبي يمكن اقتناؤه بمبلغ لا يزيد على خمس دولارات وربما أقل، فيقوم بتنصيبه في الحاسبة فيطلع على كل ما تم منع تداوله في الأسواق من تلك الكتب، مع ذلك فان المفارقة قائمة، لأن هؤلاء يعتبرون خطراً جسيماً أن يتحول مسلم سني إلى مسلم شيعي، ولا يرون الخطر نفسه في تحول مسلم سني إلى علماني ملحد، بل تراهم يعتبرون هذا الملحد المتحول عن الإسلام أقرب إليهم من السني المتحول إلى التشيع، في حين لا يوجد قلق شيعي من هذه الجهة، فلقد تحول عدد من الشيعة إلى التسنن دون أن نشهد في بلدان الشيعة تلك الضجة التي باتت تصك الأسماع في البلدان السنية، فمنحوها أبعاداً سياسيةً رتَّبوا عليها نتائج أقلقت أمن البلاد الإسلامية أجمع مع شديد الأسف.لتكن الخلافات السياسية موجودة بين الدول الإسلامية، فإن هذا لا يضر على مستوى التصورات العامة التي يحملها المسلمون عن علاقاتهم بأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى إن كان رجال الدين يأخذون على عاتقهم التركيز على المشتركات العقائدية بين هذه المذاهب، ويحاولون أن يمنحوا تلك الخلافات التي لا يُنكر وجودها طابعاً اجتهادياً لا يكفِّرون من خلاله الآخر، بيد أن الخطورة تكمن في أن الخلافات العقائدية تصبح هي الأساس الذي يرتكز عليه الخلاف السياسي، أو العكس، إذ يكون الخلاف السياسي هو الأساس الذي يتم من خلاله تضخيم الخلاف العقائدي، بحيث يتخيل الفرد المسلم أنه وهو يختلف مع الآخر المذهبي يتوجب عليه أن يخوض حرباً من أجل الدفاع عن الهوية الإسلامية، حتى كأنه يريد أن يخوض تلك الحرب ضد الكفار الذين يهددون الوجود الإسلامي العام بالانقراض.

بين العلماء السنة عشرات المسائل الخلافية في الأصول والفروع، وهم لا يكفر بعضهم بعضاً على أساس هذا الاختلاف، كذلك بين العلماء الشيعة هذا النمط من الاختلاف، وهم يثني بعضهم على بعض ويحاولون التماس الأعذار في موارد الاختلاف، وهو تصرف صحيح مئة بالمئة، لكن ما هو غير صحيح أن ننظر إلى الاجتهاد والاختلاف فيه على أنه حق حصري لأبناء المذهب الواحد، ولا ننتبه إلى حقيقة أن اللحظة التأريخية التي تكونت فيها المذاهب في التأريخ إنما كانت لحظة اجتهادية بامتياز، يراجع كتاب أبو زهرة في علم الأصول عن اطوار الاجتهاد، فما كان لأبي حنيفة ولا للشافعي ولا لمالك بن أنس ولا لأحمد بن حنبل حق تكوين معالم أي مذهب من تلك المذاهب التي تعزى إليهم اليوم لولا أن هناك مبدأً معترفاً به عند المتشرعة في تلك الأزمنة، وهو حق الاجتهاد لمن بلغ مستوى عالياً في تحصيل العلوم الدينية، وإلا فليس لأي أحد من هؤلاء حق الاستقلال بمذهب معين بعيداً عن الادعاء بأنه يمثل رؤيته واجتهاده الخاص داخل الدائرة الإسلامية العامة، إن ثمة مسائل وقضايا لا يحق لأي إنسان مهما كان عالماً ومجتهداً أن يمارس اجتهاده فيها، مثل التوحيد والنبوة والمعاد والاعتراف بالمصدرية الإلهية للقرآن، فكل تلك المسائل والقضايا ليس من موارد الاجتهاد، لكن يحق للمجتهد أن يمارس اجتهاده ويتبع نظره الخاص في التفصيلات التي تتعلق بهذه القضايا، وبناءً على ذلك فقد اختلف المسلمون في الصفات الإلهية، واختلفوا أيضاً في عصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها، واختلفوا ثالثةً حول المعاد الجسماني والمعاد الروحاني، فضلاً عن الاختلافات الكثيرة المسطورة في الكتب الكلامية لجميع الفرق، كل تلك الاختلافات لا ضير منها ما دام الجميع معترفين بتلك الأسس والمبادئ العامة للإسلام، وليست شرعية الاختلاف مستمدةً من أحدهم على وجه الحصر، بل هي مستمدة من الإيمان المركوز عند الكل بمبدأ الاجتهاد، والذي يتم التنظير له على أساس الرجوع إلى ما قرره القرآن، وما اوضحته السنة النبوية بهذا الشأن، فلا يكون لأحدهم الحق في منع الآخرين من ممارسة هذا الحق كما يمارسه هو بالضبط، ما دام اجتهاده مستنداً إلى الضوابط والأسس العلمية التي لا تجعل منه تصرفاً ارتجالياً عابثاً في نهاية المطاف.

لا مجال للقفز على الحقيقة التي تقول إن جميع الجهود التي حملت نيةً طيبةً في القرن العشرين من أجل إلغاء الخصوصيات التي يتمتع بها كل مذهب، فتمنحه سمةً متميزةً عن المذاهب الأخرى قد فشلت، وقد ذهبت جميع تلك الكتابات والمؤتمرات التي استهدفت التقريب على هذا الأساس الإلغائي للخصوصيات المذهبية أدراج الرياح، ذاك أن هذه الخصوصيات ليست مما يمكن التنازل عنه في الحقيقة، إنها الدين نفسه في نظر المتدينين وفق هذا المذهب، وهي ما أدى إليه نظرهم واجتهادهم الخاص، فهي الحجة ما بينهم وبين الله، فأنى لهم أن يتنازلوا عنها وهي بهذه المثابة من وجهة نظرهم الخاصة، لكن يستطيع هؤلاء الأتباع أن يعترفوا بالتعددية الدينية التي هي تعدديةٌ اجتهاديةٌ في الواقع أن يعترفوا للآخرين الذين ينتمون إلى الدائرة الدينية الأوسع معهم بحق الاجتهاد أيضاً، فيكون اجتهاد هؤلاء المغايرين لهم من الناحية المذهبية مجتهدين في نظرهم، وانهم يمتلكون الحجة فيما توصلوا إليه من اجتهاد، ثم يركزون النظر على المشتركات الكثيرة بينهم وبين أتباع جميع المذاهب، وتكون لهم تلك النظرة المتسامحة للمسائل التي وقع فيها الاجتهاد. إن مثل هذا السلوك من شأنه أن يكون نافعاً لجميع المذاهب، فتنمو وتزدهر جميعاً بدلاً من أن تذهب ريحها وتضعف وتذهب مقدراتها البشرية والمالية هباءً منثوراً من دون أن يستطيع كل طرف منهم أن يلغي وجود الطرف الآخر، فنحن نرى مثلاً أن الاحتراب الطائفي بين الأطراف المذهبية المتنازعة، قد أدى فعلاً إلى أن تضعف جميع الأطراف، وإذا كانت جميع الأطراف تنظر إلى نفسها على أنها تمثل الإسلام الحق، فإن هذا التنازع والاحتراب الطائفي أدى إلى أن تفتقر معظم الدول الإسلامية من دون فرق بين أن تكون شيعية أو سنية، كما أدى إلى أن تضاعف الدول الاستعمارية المختلفة من تدخلاتها في الشؤون الداخلية لجميع هذه الدول، وأن تصادر منها جزئياً أو كلياً كل معاني السيادة، علماً أن هذا الاحتراب الذي أخذ أشكالاً مخيفةً في الآونة الأخيرة، لا يفلح في التقليل من إصرار أي طرف من الأطراف على التمسك بعقائده، بل ربما جعل الآخر المتفق دينياً، والمختلف مذهبياً، متمسكاً أكثر بهذا المذهب، حتى لو كان غير عامل بالتكاليف الشرعية من الناحية الدينية، وكشاهدٍ على ما أقول، فإن أي أحد يمكن له أن يلاحظ جمهور العلمانيين في البلدان الإسلامية اليوم، فإن الغالبية منهم غير متدينين، بل إن قسماً منهم لديهم إشكالاتهم على أصل العقيدة، كما ان منهم من لا يعترف بالأصل الإلهي لأي دين، ومع ذلك، فإنهم جميعاً ملتحمون في ظل هذا الاحتراب مع أبناء قومه من الأصول المذهبية التي انحدروا منها، وليس هذا من التناقض في شيء فيما يرون، فإنهم يعتقدون بأن أصل الاحتراب طائفي سياسي، وهم على هذا الأساس لا يجدون بداً من الالتحام مع المذهب الذين تنتمي إليه عوائلهم وعشائرهم، فتراهم يدافعون عن عقائد المذهب وكأنهم مؤمنون فعلاً بحقانيتها، وهم في الحقيقة لادينيون رافضون لعقيدة الأصل الإلهي لجميع الأديان.

 

د. باسم الماضي الحسناوي

 

في المثقف اليوم