قضايا

البيئة البحثية الغائبة والتنظير المستطير!!

البيئة البحثية ثقافة سلوكية معرفية إدراكية علمية ذات إرادة إقتدارية للتوصل إلى جواب على سؤال، وفي مجتمعات "ممنوع السؤال"، تنتفي هذه البيئة، ويكون البحث العلمي محض تصور أو سراب.

فالمجتمعات المصبوبة في قوالب متوارثة تمنع السؤال، من الصعب عليها أن تتعلم أساليب البحث العلمي والتفاعل المعرفي المدروس، وتكمن العلة الكبرى في أن المتمترس في وعي المجتمع، أنه يدري ويعرف، ولديه الأجوبة على جميع الأسئلة!!

وهذا الإقتراب السلوكي الخطير هو الذي قضى على مناهج البحث العلمي وألغاها من وعي المجتمع والأمة، فلا يمتلك معظم أبناء الأمة عقلا بحثيا، والقلة التي تبحث تعاني وتُضطهد وتُبعَد عن سوح الحياة وتقرير مصير الأيام.

فالبيئة البحثية منهج تربوي يبدأ منذ بدايات تشكيل الوعي البشري في الطفولة ويتواصل مع نمو الإنسان وبلوغه سن الرشد، وما بعد ذلك.

فالتربية القائمة في مجتمعات البيئة البحثية الفعالة، أن الإنسان ومنذ نعومة أظفاره، عليه أن يقرن كل ما يقوم به بكلمة "لماذا"، وعليه أن يبحث عن جواب يبرر ما يقوم به، ولا يمكن لسلوك أن يكون بدون جواب مرتبط بسؤال، وإلا أصبح الشخص في حالة تستدعي النظر والتقييم.

وهذا واضح في الأطفال الذين أعاينهم، فتجدني أمام عقل متحفز يخاطبك بمنطق يعرف ما يقول، وتجد عنده لكل سؤال جواب وفقا لمنظاره التصوري والبحثي، فهو لا يقوم بالفعل من غير سبب ومنطوق نظري قد تعلمه أو يسعى لإستكشافه.

وفي عالمنا العربي لا نعلّم أطفالنا أساليب التفكير العلمي وكيفيات البحث والمعرفة الرصينة، بينما في المجتمعات المتقدمة يكون الجوهر الأساسي للتعليم هو إكساب التلاميذ قدرات البحث العلمي وتزويدهم بآلياته ومهاراته، والأخذ بأيديهم للتوصل إلى التعبير البحثي عن أفكارهم وتطلعاتهم، ولهذا تجد عندهم إشراقات إبتكارية وإختراعية في أعمار مبكرة.

ويبدو البحث العلمي في هذه المجتمعات وكأنه عقيدة الحياة ومنطوقها وقوتها، وطاقتها القادرة على تزويدها بمفردات الصيرورات الكبرى، فالبحث العلمي بأنواعه يحقق الرفاه الإقتصادي، ويفتح بإكتشافاته وإنجازاته فرص عمل كثيرة مما يساهم في تنمية الإقتصاد، وتطوير الحياة، فما نتفاعل معه اليوم هو من مكتشفات البحوث العلمية، فهي داينمو الحياة ومحركها ولديها الأولوية في تخصيصات الميزانيات.

أما مجتمعاتنا فمصبوبة في قوالب "كانَ"، ولا يمكنها التحرر من أصفادها ومعطياتها الإنفعالية المُعَطلة للنشاطات العقلية البحثية والفكرية، فلكل سؤال هناك جواب في جعبة "كانَ"!!

بينما المجتمعات المتقدمة منطلقة في آفاق يكون وأكون وسأكون، ولا تفهم في مفردات كان، ولا تستوعب عقليات كان ومناهجها الإقترابية والسلوكية، وتحسبها نوع من الإضطراب السلوكي والإدراكي والمعرفي.

ولابد من القول بأن الفتوى كانت عبارة عن بحث علمي يستند على شروط بحثية دقيقة ورصينة للوصول إلى جواب مناسب لسؤال، أما اليوم فتحولت إلى علة وبلوى!!

ترى كيف نؤسس لبيئة بحثية ذات قيمة حضارية وتأثيرية في مسيرة الحاضر والمستقبل؟

هذا سؤال يحتاج لبحث ودراسة، فكل بحث يبدأ بسؤال، وعليه فأن علينا أن نتعلم كيف نسأل أو نضع السؤال، ونجتهد في الإجابة عليه وفقا لآليات وخطوات البحث العلمي، وستجدنا في معتركات بحثية ذات قدرات تغييرية وتطويرية إيجابية، لأنها ستساهم في صناعة العقل العربي المعاصر المرتكز على أسس تفاعلية سليمة، ذات أدلة معرفية وتوضيحية تقمح الطاقات العاطفية السلبية وتهذبها وترشدها، وتمنح العقل قوة السيادة والتقدير.

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم