قضايا

إسلام مبارك ولكن الطائفيين لا يعقلون

شاء اهل  تعالى أن يجعل الأمة الإسلامية امة مباركة، مباركة لا في إيمانها فقط بل في عديدها وقوتها ومنعتها وغناها وخيراتها . وهذا ليس كلاما معنويا أو إنشائيا أوجده القران الكريم أو جرى على لسان النبي الأكرم (ص)، بل هو منهج عملي اجتماعي وسياسي وضعته الشريعة وأسست له الوصايا الدينية التي أرادت خلق امة موحدة مؤمنة متكاتفة تكون هي الأساس في بناء الإنسان المستخلف على الأرض . وهذا المنهج يظهر من خلال الأتي:

1- أسست العقيدة الدينية مفهوم الأمة الواحدة لا على أساس عرقي أو اثني أو عشائري، ولا أي من الروابط التي كانت سائدة  في ذلك العصر، بل أسست لرابطة الإيمان بالله الواحد الأحد.

أي إن كل الناس هم إخوة وأبناء امة واحدة ما داموا يؤمنون بهذا الدين . وبغض النظر عن مصداقية هذه الرابطة وأخلاقيتها ورصانتها واتساقها مع الفطرة السليمة  إلا إن هناك جانب آخر مهم في هذه الرابطة وهو ما يهمنا في هذا الموضوع، وهو إن هذه الرابطة، قياسا إلى كل الروابط الأخرى، هي الأكثر قدرة على تجميع اكبر عدد ممكن من الناس في امة واحدة . وهذه طبعا صورة عملية من صور ذلك التبريك الإلهي الذي تحدثنا عنه .

2- اكتفت الشريعة من المسلم الداخل إلى هذه الأمة شهادة أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله ليصبح فردا من هذه الأمة له ما لها وعليه ما عليها. وهذا التاريخ حافل بالقصص التي نرى فيها أناسا جدوا في العداوة والبغضاء للإسلام والمسلمين ولكنهم بمجرد التلفظ بالشهادتين دخلوا في هذا الدين وأصبحوا من أهله حتى لو كان ذلك الدخول نفاقا أو مداراة.

أي إن المدار في الانتماء إلى هذه الأمة ليس الدقة العقلية المملة، ولا سبر الأغوار الباطنية، ولا شق الصدور لمعرفة ما في القلوب، بل يكتفى بالظواهر التي تكون سلسة وميسرة للناس،والدخول للإسلام يكون على أساس ذلك بسيطا لكل واحد منهم، ولا يكلفهم أي لون من المشقة والجهد .

إن ذلك لا يعني إن منظومة التجميع الاممي الإسلامي منظومة ساذجة يمكن اختراقها بسهولة، فهناك منظومة التربية الإسلامية التي تفترض دائما إمكانية تربية جيل خال من النفاق مهما كان الجيل السابق له منافقا وتختلف أقواله عن أفعاله، وهناك الوصايا السياسية والاجتماعية التي حذرت الناس من السماح  للمنافقين  لتولي المناصب التي تؤثر في توجيه مصائرهم، وهناك منظومة الحدود والقصاص التي تحفظ  أرواح الناس وأموالهم، وهناك التشجيع الدائم لحفظ الظواهر الإسلامية،  وهناك الكثير من الآليات والمنظومات الأخرى لا مجال لذكرها وتفاصيلها هنا.

3- لم تعمد هذه الشريعة إلى طرد أو إلغاء الذين بقوا على دينهم من أتباع الديانات السماوية الاخرى بل عملت على ضمهم إلى تلك الأمة الواحدة ووضعت لهم قانونا للحماية وتنظيم المواطنة لقاء ضريبة خاصة كما هو وارد في كتب الفقه. وبالتالي فان اتباع الديانات السماوية الاخرى هم جزء لا يتجزأ من هذه الامة الواحدة.

4_أسست لمذهب اقتصادي يقول إن السبب في الفقر ليس هو زيادة عدد السكان كما هو حال رأي العلماء الاقتصاديين المعاصرين  بل هو في التوزيع غير العادل للثروات الطبيعية التي هيئها الله تعالى للناس على هذه الأرض -.راجع نظرية مالثوس وعلا قته المفترضه بين حجم السكان وتوزيع الإنتاج- وان مادة التطور الاقتصادي هو الإنسان وان

الكثرة والتزايد في التعداد السكاني لا يعني الفقر  فالله سبحانه وتعالى لا يخلق إنسانا من دون ان يرسل رزقه معه وغاية ما يحدث هو أن النظم البشرية في التوزيع تعمد إلى سلب هذا الرزق لتكدسه في أيدي بعض المتكاثرين أو السلطويين.

  إن تشريع استحباب الزواج والحث لتحري المرأة الولود وتحريم الإجهاض وما شاكل ذلك كلها تشريعات تصب في هذا الإطار . وقد شرحت في مواضع أخرى سابقة كيف إن الفقيه حتى  عندما يبحث في مشروعية عملية تحديد النسل لا يفعل ذلك بهدف منع تزايد السكان أو تقليص أعدادهم، وإنما لأجل ضبط إيقاع وحركة التزايد السكاني بالتوافق مع حجم النمو في الاقتصاد وبالشكل الذي يهيئ فرص العمل ووسائل العيش الكريمة للأعداد الجديدة من الناس بشكل صحيح ومنظم .

  5- لعل البعض يتصور أن تشريع التكاثر والتوالد فيه لون من الاستهانة بالإنسان، فالكثرة تصاحبها دائما ألوان من النظر بدونية إلى الشئ الكثير على اعتبار انه ليس شيئا عزيزا أو نادرا، ولكن العقيدة الدينية لم تغفل ذلك إذ أن هناك عشرات النصوص الدينية التي تكرم من مقام الإنسان وترفعه إلى ما هو أعلى من الملائكة، وتجعله أعظم حرمة من الكعبة الشريفة، ولولاه ما خلق الله أرضا مدحية ولا سماء مبنية ، وانه خليفة الله في الأرض، وانه خلق على صورة الإله تعزيزا له وتكريما،وانه الموجود الاشرف في الكون، وما إلى ذلك .

إن كل تلكم الصور التي ذكرناها تدل على إرادة بناء امة واسعة الجناب كثيرة العدد يرص بعضها بعضا . وإرادة ضم الناس وجذبهم وحشدهم حول مفهوم الأمة الواحدة وليس دفعهم وإبعادهم وتنفيرهم، وإشعار الناس أنهم كل متكامل.

وهذه الإرادة إرادة تشريعية أمرنا الله بالانسجام مع تفاصيلها، وضمن لنا العزة والمنعة أن تمسكنا بها، ولكن لننظر ماذا فعل الطائفيون لتلك الأوامر التشريعية.

إن الطائفيين اليوم يبعدون الجماعة الفلانية بحجة الرواية الفلانية الموجودة في بطون بعض الكتب القديمة، ويخرجون جماعة أخرى من الملة على أساس رأي فرعي أو جزئي يقولون به، أو يخرجون جماعة أخرى بسبب موقف سلبي من احد المحسوبين عليها.

وهكذا يضيقون دائرة الانتماء للإسلام إلى الدرجة التي تنحصر بهم، ولا تشمل رحمة الله ولا تصل إلى غيرهم، حتى كأن الجنة التي خلقها الله والتي وسعها السماوات والأرض خلقت مخصوصة  لهم ولا احد دونهم، وكأن ميزان العدالة الإلهية والأحكام الواقعية موضوع تحت أيديهم، كل ذلك اعتمادا على مشهورات لا يقينيات وغيبيات لا واقعيات  ودعايات لا حقائق .

إن زعماء الأديان اليوم يعمدون إلى البحث عن أي مشتركات مهما كانت بسيطة بينها وبين مجموعات وطوائف أخرى مخالفة لها في الدين لضمها وادعاء الانتماء والاشتراك معها في التوجه والعمل والمصير المشترك وكل ذلك في سبيل تكثير العدد، وتقوية الجانب، والمساعدة في مواجهة الأخطار المحدقة، أو على الأقل كسب أصدقاء لا أعداء، وحلفاء لا أفرقاء.

أما الطائفيون فقد حولوا الأمة الواسعة العدد، الكبيرة الموارد، المترامية الأطراف إلى ما لا يصدق عليه اسم امة، بل طوائف يكره ويكفر بعضها بعضا .

الطائفيون حولوا الدين إلى منظومة معقدة من الأفكار، وتفاصيل كثيرة من الشرائط والواجبات والالتزامات، وكل واحدة من هذه الشرائط أو الواجبات طرحوه أو جعلوا منه مادة للتكفير والإخراج من الملة، وبالتالي فلم يعد هؤلاء بحاجة إلى كثير جهد لتكفير أي من الناس أو لإخراج أي طائفة عن الأمة خصوصا إن هؤلاء التكفيريون الطائفيون لا يكفرون الناس على أساس عدم إيمانهم فحسب بل لأجل ضعف الإيمان أيضا . ولا ننسى إن واحدة من اكبر أسباب التخلف الذي نعيشه اليوم هو راجع إلى خوف الناس الدائم من طرح ما هو جديد أو مناقشة ما هو موروث مخافة أن يتهموا بالكفر أو المروق من الدين.

إن حضارات العالم اليوم تعمل بجد لجمع وتوحيد كل من ينتمي إليها من قريب أو بعيد،والتكتلات الحضارية المعاصرة سواء كانت غربية أو ارثذوكسية أو صينية أو هندية تسعى بقوة لجمع شتاتها ولم  أطرافها للظهور للعالم كقوة بشرية كبيرة ذات ثقل عالمي ووزن في حركة الاقتصاد والسياسة والتأثير في المحافل العالمية بالشكل الذي يضمن كامل حقوقها بل بالتعدي أحيانا على حقوق غيرها.

وبالرغم من أن أي ناظر أو مدقق لأي من هذه الحضارات المعاصرة يجد فيها ألاف الطوائف والمذاهب والقبائل والميول والاتجاهات والأفكار المتضادة وألوان من الاختلافات التي تصلح أن تكون مادة للتفرق الطائفي، وكل واحدة منها هي اكبر وأوسع بكثير من المادة التي يستعملها الطائفيون لتمزيق أمتنا. إلا إننا نجد تلك الأمم تتكتل وتتحد وتترابط وتتجانس بفضل العقلانية التي تهيمن على عقول السياسيين والمثقفين في تلك الأمم وبفضل عدم وجود الطائفيين الذين هم كالطاعون الأسود يفتكون بوحدة أي شعب ويقتلون أي امة .

المعنى من كل ما سبق إن  الحق تعالى أراد لهذه الأمة أن تكون كبيرة وكثيرة ومباركة وقوية ولكن الطائفيين تداركوا كل ذلك، وحولوا تلك البركة والنعمة إلى تشرذم ونقمة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

عصام الحسيني الياسري

 

 

في المثقف اليوم