قضايا

السؤال العربي المسؤول!!

لم ينقطع العرب حضاريا وإنما تخبّطوا في غياهب تراثهم العظيم، وبعد إنطلاقهم بثورتهم الإسلامية الإنسانية قبل أمم الأرض، إنتقلوا إلى آفاقٍ إبداعية غير مسبوقة، إستنهضت الواقع البشري من قيعان الظلمات، وألقت به في فضاءات الأنوار المعرفية المتوهحة، التي حررت العقل من غياهب البهتان، وبعثته متفكّرا متدبّرا متسائلا مكتشفا مبدعا مخترعا، وساعيا للعلم والإستزادة الإدراكية من ينابع الكون الإشراقية.

ومضى العرب في مسيرتهم كالأنهار المتوثبة الجريان، بتياراتها وأمواجها ومنعطفاتها وخلجانها وترعها وإنبعاجاتها وتفرعاتها، وإنسيابيتها وإضطراباتها الدفّاقة المتأججة الفوران والطغيان والإنحسار أو الإنكماش.

وبعد مسيراتهم الخلاقة المُجددة الأصيلة الباعثة لطاقات النفوس والأروح والقلوب، والمنبعثة من كينونات الذات الإيمانية المتسامية الشماء بقيمها ومعانيها ومعاييرها، لم ينقطعوا أو يناموا ويغيبوا كما أريد لهم أن يتوهموا ويُصدّقوا، وإنما تفاعلوا بقدرات خافتة وإرادات مستترة ومختفية، بعيدا عن القيادة والريادة.

فالعرب يشاركون الدنيا وبلا توقف منذ إنطلاقتهم الأولى، بقيادة ثائرهم الأكبر، ونبيهم الأكرم الرسول العربي محمد بن عبد الله، ولا يزالون يساهمون في تنوير الأرض بجواهرهم الحضارية ولمساتهم الفكرية والثقافية.

لكن العرب إستكانوا للوهم والخداع والتضليل، وإنبهروا بغيرهم، والأوْلى بهم الإنبهار بأنفسهم وإستكشاف ما فيهم وعندهم، وإعادة تصنيعه وتجديده والتفاعل به مع عصرهم الإعصاري الطباع.

وقد خيّمت عليهم مشاعر إنكسارية خيباوية مشحونة بالألم والحزن والندم وتأنيب الضمير، والتحسّر والتكسر والتحجر والتخندق والتقوقع والإنكماش، المعزِّز لآليات الهجمات النفسية والروحية والعقائدية التدميرية الإمحاقية، ذات النوازع الإتلافية والتطلعات الإلغائية، والإستحواذية على ما يمت للعرب بصلة حضارية وإقتصادية وفكرية.

وتفاعل العرب مع الحضارة الغربية الناهضة منذ غزو نابليون لمصر (1798- 1801)، وربما قبل ذلك بكثير من خلال التواصل التجاري والعلاقات الأخرى، التي تربط بينهما منذ قرون بعيدة.

ويبدو أنهم أخذوا يتحدثون عن النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكما تنادى لذلك عدد من روادها والمبشرين بها، بنشاطاتهم الثقافية والفكرية، وترديدهم : لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟

حتى ليثير هذا التمسك بالسؤالين والتمترس فيهما أسئلة كبيرة، وما أوجدوا جوابا شافيا ومُنطلقا للقدرات والطاقات الكامنة في دنيا الأجيال.

ومنذ الأيام الأولى لإنطلاق الوعي بالتأخر كحالة متصوّرة أو متوهمة أو واقع مرئي، أمضى المفكرون والساسة والقادة والمثقفون، عقودا متواصلة ولا يزالون، وهم يدورون في دوامة الأسئلة العقيمة المدمرة لذاتهم وموضوعهم، وفي مقدمتها سؤال، لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون، ثم أعقبوه بسؤال آخر بعد أكثر من قرن عنوانه لماذا فشلنا نهضويا، أو لماذا لم ننهض ونتقدم؟

وهما سؤالان فتّاكان، لأنهما يحثان عن جواب لشيئ متصور أو متَوَهم، وكأنهما سؤالان مقصودان للإنقضاض على الوجود الحضاري العربي.

وهذان السؤالان هما اللذان قتلا العرب وأصاباهما بالضربة القاضية.

ذلك أنهما سؤالان خاطئان مئة بالمئة!!

*******

كيف ولماذا أدوات إستفهام، كيف جوابها ماهية الأسلوب أو الطريقة والوسيلة.

ولماذا يكون جوابها السبب المفترض أو المتصور أو الحقيقي، والمثال بسيط عن الفرق بينهما، فعندما تسأل كيف تصنع الكيك؟

يكون الجواب بالدخول في تفاصيل طريقة التحضير والإعداد، وعندما يكون السؤال لماذا تصنع الكيك، يصبح الجواب لتقديمه للضيوف أو لإعداد وليمة أو لأكله مع الشاي.

 

فكيف تبحث عن الطريقة والوسيلة أو العملية بمفرداتها وعناصرها التي أدت إلى الإنجاز، بينما لماذا تريد جواب الحاجة أو السبب.

كيف إنجازية، ولماذا إخبارية تعجيزية تبريرية تعقيدية توريطية تصفيدية، وتقدم ما هو سلبي ويبني الحواجز لمنع الإيجابي من التحقق والنماء.

كيف سؤال الطفولة والنداءات الواعدة المستكشفة .

كيف وكيف هو السؤال الطفولي الأزلي الذي يشير لإرادة النماء والرجاء والنضج والإقتدار.

كيف ذات تطلعات عملية مضارعية مستقبلية.

ولماذا ذات روح ماضوية إنحدارية تدميرية للذات والموضوع.

لماذا تبحث عن السبب الذي أدّى إلى ما هو حاصل وواقع، فهي تبحث عن الأسباب والعوامل التي أدّت إلى صيرورة ما، مهما كان نوعها وطبيعتها، إنها تبحث عمّا خلف الحالات لا ما فيها وبعدها.

لماذا أجوبتها إستكناهية تصورية إفتراضية، تقديرية، ذات نسبة عالية من الخطأ.

والفرق واضح بين، كيف جئت؟، ولماذا جئت؟

*******

لماذا العربية لا تبحث عن جوابٍ وافٍ، وعلاجٍ شافٍ، وإنما تريد الوصول إلى آلية تبريرية، لتعزيز القنوط والإستكانة والإندحار في قيعان اللاجدوى، إنها كالقفز إلى سعيرات الهلاك، وهذا ما أكدته مسيرات عقودٍ مشحونةٍ بالويلات، حتى وصلت الحال إلى ما هي عليه اليوم من إرادة داخلية تدميرية تبعثرية تكارهية، تقويضية لأسس البنى التحتية والقيمية والأخلاقية والإعتقادية.

وكانت إسهامات لماذا واضحة في مجالات الحياة ومدارات التواصلات القائمة في محيطات الوجود العربي بأنواعها ومفرداتها وتطوراتها.

لماذا سؤال مذعور منكور مأسور في زنزانة اللاجدوى والعبثية والقهر والإندثار، ولا يعرف جوابا بل يلد أسئلة ذات قدرات تخريبية، وتشعبات تباغضية بآلياتها التنافرية ومواطنها التناحرية.

والعجيب في لماذا أنها تأخذ العرب إلى حفر بائدة، وآبار غائرة، وترمي بهم في متاهات الصحارى الغابرة، حتى لتجدهم في محنة التوحش والإفتراس والإنقضاض الإنقراضي على ذاتهم وموضوعهم.

فلماذا لا يعرف العرب سؤالا غير "لماذا"؟!!

يبدو أنهم يجدون فيه منقذا لعجزهم وتسويغا لكسلهم، وتبريرا لسوء حاضرهم وإنعدام مستقبلهم.

إنه الشماعة التي يتم تعليق جميع أردية الضياع عليها.

لماذا قميصنا الذي لا يبلى بل يتجدد أبدا.

والعرب لديهم رعب من كيف، إنهم يخافونها أشد الخوف، ويرتجفون منها ولا يجرؤون على الإقتراب منها.

ذلك أنهم قد خضعوا لعمليات تفريغ مُحكمة ومتواصلة، جففت عروق وجودهم، وأحرقت أروع ما فيهم، وسكبته فوق رمال الخيبات والإنكسارات والتداعيات المتوالدة بسرعة فائقة، وغير مسبوقة في تأريخ الأمم والشعوب، التي لا بد لها أن تلد قادة قادرين على النهوض والتصدي، وإعادة مسيرة الحياة إلى مجاريها الصائبة الصالحة، أما العرب فكأن أرحام وجودهم عُقمت، وأوصال ذاتهم تقطّعت، ومسيرات نهوضهم تعثرت وإنحرفت وأجهِضت.

وكل ما فيهم وعندهم صار عدوهم، وسدّا منيعا لصدهم وحشرهم في زوايا حادة جدا.

ولن يتخلص العرب من آفات فنائهم وأوبئة إحتضارهم إلا بسحق رأس لماذا، وإحتضان كيف ومؤازرتها والعمل بموجب منطلقاتها وقوانينها، وآليات صيروراتها الكفيلة بصب القدرات وتحفيز الطاقات، لصناعة الحياة الحرة الكريمة الصالحة لإستيعاب الأجيال الوافدة.

فكيف أداة بناء، ولماذا معوَل هدم وخراب ودمار.

وما نفعت لماذا على مدى أكثر من قرن صاخب معبّأ بالنكسات والتداعيات الأليمة.

وعلى العرب أن يتناهضوا، ويرفعوا رايات كيف، بكل ما تحتويه من توجهات إنبعاثية إنبثاقية، ذات تطلعات تخليقية تصيرية فعّالة مؤثرة في بناء أسس العمارة الحضارية المتشامخة الباهية الأركان.

ويبدو أن المفكرين الأوائل أو رواد النهضة قد وضعوا خطى الأجيال على سبل منحدرة متعثرة، رغم أنهم قد عاشوا في الغرب وإطلعوا على حضارته كما إدّعوا، لكن الواقع وما أنتجوه من أفكار، يؤكد بأنهم كانوا في الغرب يعيشون بعزلةٍ عن فيض الحياة فيه، وفي صوامعهم يتخيلون ويتصورون ما يدور حولهم وفقا لمفردات ما فيهم.

وهذا يفسر تورطهم بسؤال لماذا وتجاهلهم لسؤال كيف؟ّ!

وكذلك يفسر أنهم قد إنبهروا وأصيبوا بصدمة أثارت فيهم الشعور بالخيبة والإنكسارفراحوا يتلاومون، ويجلدون أنفسهم بسياط لماذا القهرية الإسقاطية التخليصية من المسؤولية.

فماذا فعلوا سوى الندب والنحيب وتأنيب الذات والموضوع والتقريع، والمذهولية التي هيمنت على الأجيال من بعدهم.

وما قالت الصين لماذا تأخرنا وتقدم الغرب ونحن أصحاب حضارة عريقة، وما قالت ذلك الهند وغيرها من المجتمعات التي تغيرت وتقدمت.

وإنما جميعها وبلا إستثناء تنادت وتساءلت كيف نكون ونحقق ما نريد، فعملت وتمكنت وأبدعت وتقدمت.

ولا مناص أمام العرب إلا أن يقطعوا رأس لماذا لا رؤوس بعضهم البعض، وأن يتآزروا حول كيف لكي يكونوا، وسيكونون حتما بإرادة كيف.

*******

لكل سؤال جواب، لكن ليس كل جواب هو الأصلح للسؤال، وتساؤول المفكرين العرب والمثقفين والكتاب والأدباء والساسة بصيغة لماذا ينبع من تفاعلات قهرية إنحباسية إضطرابية، تريد التشبث بما يعينها على السكينة المؤقتة، فهي تتلقى أو تعثر على الجواب الذي يشبه المورفين ليغيّب الألم ولا يمنع تكراره وتناميه.

ولهذا فالأمة قد خدّرتها الأجوبة المورفينية أو الأفيونية، وحوّلتها إلى وجود مدمن على المهدئات والمسكنات، وما توصلت للدواء الشافي المُعافي القادر على بعث الحياة في عروقها، وإطلاق طاقاتها الكفيلة بصناعة وجودها الأفضل.

ولا تزال الأمة مخدَّرة بأنواع المورفينات، التي تنتجها شركات تصنيع الآراء وإمتلاك الشعوب وإستعبادها ومصادرة مصيرها، وتحويلها إلى بضائع بخسة في مزادات المراهنات الإستحواذية المتوحشة العاملة بموجب قوانين الغاب الشرسة.

ومن الواضح أن العقل العربي قد تجاهل آلة أكون، فإبتعد عن ربوع كيف ومروجها وينابيعها، ومساحات تفاعلاتها الخضراء وبساتينها المثمرة الفيحاء.

وهذا التباعد ما بين العرب وكيف، هو المتهم الأكبر بالتعثرات والإنحطاطات والتداعيات المتراكمة في دروب الأجيال، وهي التي أسهمت بتوفيرآلات وأدوات تهديم ما في واقع العرب على رؤوس العرب، وتحويلهم إلى موجودات متشظية ذات شرار متطاير في أرجاء المعمورة.

ولا يزال العرب يندبون أيامهم وينوحون على مسيرتهم وهم يرددون لماذا، وما جلبت لهم لماذا غير شر الدمار، وسقر الخراب والحرمان والهجران القاسي السليب.

فلتسقط لماذا وتندحر!!

ولتحيا كيف وتنتصر خفاقة فعالة متوقدة في رؤوسنا وقلوبنا ونفوسنا وأرواحنا، حتى نكون في ركب العالمين!!

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم