قضايا

المهمة التحضيرية الفرنسية في الجزائر.. عنوان مزيف لسياسات وممارسات استعمارية همجية ووحشية (4)

سياسة التمدين الفرنسية في الجزائر حرب على العربية وعلى الإسلام

 حقيقة لقد كانت المهمة التحضيرية الفرنسية في الجزائر حربا على اللغة العربية وهذا بهدف إبادة الهوية الوطنية للجزائر وللجزائريين وهذا الأمر أصبح من المسلمات اليوم والتي لا تحتاج إلى التوثيق . ولتحقيق هذا الهدف فقد عمل الاستعمار في الجزائر على: "خنق أنفاس اللغة العربية التي هي اللغة القومية لغة الأغلبية الساحقة من السكان ومحا تعليمها العالي محوا كليا منذ بدء الاحتلال بتشتيت الأساتذة والطلاب وباغتصاب الأوقاف كما انتهكت حرمة الديانة الإسلامية وشوه وجهها السمح بتسخير القائمين عليها واستئجارهم من طرف الإدارة الفرنسية " 129 . وفي مقابل هذا منع على الجزائريين التعليم الفرنسي خدمة للأهداف الاستعمارية المختلفة . 

ويمكن القول وبكل اطمئنان بأن الغزو الفرنسي للجزائر لم يكن له أي مشروع تمديني للجزائر وإنما كل ما عندهم هو الخلط الفج بين الحضارة والمسيحية . واعتبار التنصير هو التحضير وهذا ما نجده في قول شارل العشر في شهر مارس 1830 والذي جاء فيه: "إن التعويض الحاسم الذي أريد الحصول عليه هو وأنا أثأر لشرف فرنسا أن يتحول بمعونة الله لصالح المسيحية " ونفس الكلام نجده عند وزير حربيته والذي صرح في أكتوبر 1827: " لعله مع الوقت سيكون من حظنا أن نمدنهم وذلك بجعلهم مسيحيين " 130 . وهذه سخافة غير مقبولة بالمرة وإلا فمن الحق البوذيين والهندوس والمسلمين والسيخ أن يحصروا هم كذلك الحضارة في ديانتهم، وأن يستعمروا غيرهم تحت ذريعة نشر الحضارة التي تقابل ديانة كل واحد منهم . وهذا أمر مرفوض لأننا كلنا نعلم بأن الحضارة ليست بالمطلق هي الدين .

نعم إن التمدين عندهم لا يعنى سوى محاربة العربية أي الفرنسة والتنصير، أي محاربة الدين الإسلامي بهدف جعل من الجزائر الأرض الشرقية أرضا غربية 131 . أي مقاطعة فرنسية جميلة للفرنسيين وفقط، مع الإقصاء التام لنا نحن الجزائريون الرعايا والغرباء في وطننا وأرضنا . ولهذا فإنه وعندما تفتخر الو م أ وعلى لسان سفيرها بباريس دوغلاس ديلون  Douglas dionوالذي صرح بأن: " السياسة الفرنسية في شمال إفريقيا تحظى بالتأييد المطلق من الولايات المتحدة الأمريكية ... وأود أن أطلب من صحافتنا أن تتفهم ذلك وأن تدرك أنه يحق لفرنسا أن تفتخر بما أنجزته في الجزائر " 132 . وهو هنا يتحدث بلسان فرنسا وحكومته ليعبر عن موقفه الشخصي الموافق لهما في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص السياسة الفرنسية في الجزائر فهو يتحدث بلسان حاله ولكن بلسان حكومته وبلسان فرنسا . نعم إنه يحق لفرنسا أن تفتخر بمنجزاتها في الجزائر . وهي هنا تلك التي أنجزتها فرنسا للعنصر الأوروبي في الجزائر لأن الجزائريين لم يكونوا موجودين أصلا في عرفهم . فالجزائر خالية مما عدا العنصر الأوروبي وما عداه فهو العدم . ولهذا فالتمدين عندهم يعني فقط الفرنسة ومحاربة اللغة العربية والتي أصبحت لغة أجنبية في عقر دارها . ولذلك ولقد حدثنا ممن عاصرناهم من الجزائريين الذين تتلمذوا في المدرسة الفرنسية الاستعمارية من أنه كان ممنوعا عليهم الحديث حتى بالدارجة في فناء المدرسة أثناء فترة الاستراحة، ومن خالف هذا الأمر فإنه يتعرض للعقوبة، فما بالك الحديث باللغة العربية الفصحى . وللتعرف أكثر على الحرب التي شنها الاستعمار الفرنسي في الجزائر على اللغة العربية راجع كتاب أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية الجزائرية الجزء الثاني الصفحة 60 وما بعدها .

ومن حقنا أن نبقى دوما نتساءل هل فرنسا قد جاءت حقا لتمدين الجزائريين؟ وللإجابة على هذا السؤال علينا أولا أن نعرف الأهداف التي سطرتها فرنسا من وراء غزوها للجزائر . فها هو عباس في كتابه ليل الاستعمار يخبرنا صراحة وهو من عايش الاستعمار ليس عن قرب فقط وإنما كان ولفترة طويلة من حياته في مركز صناعة الأحداث التاريخية والسياسية في الجزائر، وهذا لفترة تزيد عن النصف قرن . وقلائل من هم مثله من وقفوا على حقيقة الاستعمار وعلى نواياه الحقيقية فهو يخبرنا صراحة بأننا كنا أمام حرب صليبية بكل معنى شنتها فرنسا على الشعب الجزائري 133 . وما يدعم ويشهد لكلامه هذا هو الكتاب الذي يحمل عنوان: " أرشيف الفاتيكان السري حول غزو الجزائر من قبل الجيش الفرنسي  " والذي ألفته المستشرقة الإيطالية لورا فيشيا فافلييري Laura Valérie Vichea، وهذا لمن يشكك في طبيعة الحملة الصليبية للغزو الفرنسي للجزائر . علما بأننا هنا لسنا أمام أقوال رجل دين أو ممن كان يعادي الاستعمار حتى نقول بأن طبيعة تكوينه هي من تدفعه في هذا الاتجاه . وإنما نحن مع عباس فرحات المنبهر بالحضارة الغربية عامة وبالثقافة الفرنسية بصورة خاصة والتي بقي وفيا لها وإلى نهاية حياته . وهو قد كان مندمجا وبشكل كلي فيها تقريبا . ولا أحد يمكنه المزايدة عليهما أي على عباس فرحات وعلى المستشرقة الإيطالية المذكورة أعلاه . وهذا ما يعطي لكلامهما مصداقية أكثر وهذا حينما يسقطون عن الاستعمار ورقة التوت التي يغطي بها عوراته . ويجردونه من المساحيق التي حاول بها إخفاء الأهداف الحقيقية والتي يحاول أن يغطي بها وجهه القبيح . وهذا عندما يدلس علينا ويقول بأنه قد جاء إلى الجزائر بهدف نشر المدنية على الشواطئ البربرية، هذا الشعار البراق الذي حاول عبثا أن يخفى وراءه أهدافه الحقيقية من وراء تواجده في الجزائر . ومما يدل على أنها حملة صليبية هو ذلك التحالف الذي يذكرنا بالعصور الوسطى أين أقيم تحالف مصلحي قذر بين الكنيسة والملوك لتبادل المصالح والمنافع ولا شيء غير هذا . ومرة أخرى ها نحن نراه يبعث من جديد على أرض الجزائر، وذلك حينما تحالفت الكنيسة مع نظام شارل العاشر ومن بعده مع مختلف الأنظمة الفرنسية المتعاقبة، وهذا بهدف إنجاح عملية غزوهم للجزائر . نعم لقد أقيم تحالف بين الكنيسة والأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم في فرنسا وهو أمر عجيب حقا أن يحدث هذا الأمر في فرنسا ما بعد الثورة الكبرى 1789 . وبقى هذا التحالف قائما كسكين يذبح الجزائريين إلى أن أشرفت الجزائر على استقلالها . وهنا فقط غيرت الكنيسة وتماشيا مع طبيعة المرحلة وحفاظا على مصالحها من إستراتيجيتها كالحرباء لما تقتضيه الظروف وهذا خدمة لما سطرته من أهداف تتماشى ومرحلة ما بعد الاستعمار . 

وإن فرنسا هنا لم تبتدع شيئا من العدم وإنما هي تكمل تلك المهمة التي بدأتها كل من إسبانيا والبرتغال من قبلها . وهذا منذ الحملات الاستكشافية الكبرى حيث كان هَـمُّ كل منها هو نشر المسيحية في طبعتها الكاثوليكية . وهذا ما يشهد له التاريخ وكل شبر وطأته الجيوش الإسبانية والبرتغالية الغازية وخاصة في العالم الجديد . ولما ضعفت هاتان الدولتان خلفتهما في إكمال المهمة فرنسا البنت الكبرى للكنيسة الكاثوليكية . علما بأن تاريخ فرنسا في الحروب الصليبية غير خاف على أحد ولذلك فهي لا زلت تداعبها خيالات ذلك الماضي البائد وحلم إكمال مهمة القديس لويس التاسع Saint Louis . ولا أدل على هذا ما قاله الجنرال جورو  Henri Gouraudأمام قبر صلاح الدين الأيوبي: " ها قد عدنا يا صلاح الدين " . 

كما يجب أن ننتبه إلى أنه وخلال الحقبة الاستعمارية للجزائر، لا يمكن الفصل فيها أبدا بين النظام الاستعماري والكنيسة . فلقد أقيم تحالف مصلحي بين الطرفين طالما هما يشتركان في نفس الهدف والمتمثل في ادعاء تحضير الجزائريين، وإن كان كل طرف حسب وجهة نظره . ولذلك فمن الصعب الفصل بينهما في الجزائر فها هو وزير الحربية كليمون تونير Clermont Tonnerre يأمل في 14 أكتوبر 1827: " عن آماله في تنصير الجزائريين بما يلي: يمكن لنا في المستقبل أن نكون سعداء ونحن نمدن الأهالي ونجعلهم مسيحيين " 134 . وعليه فهم لا يرون المدنية والتحضير إلا في إطار الفرنسة والتنصير . وهذه نظرة قاصرة وعرجاء للمدنية وللحضارة فليس كل فرنسي ولا كل مسيحي متحضر كما أنه ليس كل من هو غير مسيحي وغير فرنسي ليس بالرجل المتحضر . وإلا لكان الياباني البوذي غير متحضر ونفس الأمر مع الكوري الجنوبي ولكان في مقابل هذا المالي المسيحي والمتحدث بالفرنسية في نفس المستوى الحضاري مع الفرنسي في باريس . ذلك أن التحضر والتمدن لهما ظواهر اجتماعية ينتجها المجتمع بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه . ثم إن تلك الصلوات التي أقامها الفرنسيون وفي مختلف الكنائس الفرنسية قبيل غزو الجزائر تذكرنا بتلك الصلوات التي كانت تقام في مملكة قشتالة  Castilleأثناء حملاتها الصليبية على مسلمي إسبانيا وهذا قبيل أية معركة معهم، ولعل أشهرها تلك الصلوات ما أقيم قبيل معركة حصن العقاب . والتي تمزقت فيها الجيوش المسلمة . وها هو نفس المنظر يعاد تشكيله في العام 1830 ولكن مع تبدل في اللاعبين ففرنسا هي قشتالة اليوم والجزائر هي أندلس الأمس . 

ولأجل ما سبق يجانب الصواب كل من يعتقد بأن الحملة الفرنسية على الجزائر لم تكن لأغراض، صليبية فقتلاهم في الجزائر كانوا يعتبرونهم شهداء للمسيحية . وأن دماءهم قد وطدت دعائم الكنيسة المسيحية في الجزائر حتى أن أحد الكتاب المتحمسين للاستعمار ويدعى بوجولا pogolat يكاد ينفجر فرحا من انتصار الصليب على الهلال في الجزائر 135 . ثم هو أي بوجولا يقول بأن احتلال الجزائر كان استمرارا للحروب الصليبية وبعملهم هذا فهم قد اعتقدوا بأنهم قد أوصلوا حلقات السلسلة الذهبية التي صنعها سيبريان Thascius Cyprianus أوغسطين والتي كانت قد انقطعت منذ أربعة عشر قرننا من الوحشية 136 . ولنفهم السر الواقف الدافع لكل من فرنسا والكنيسة في عملية غزوهما للجزائر الأولى كان غزوها عسكريا والثانية كان غزوها دينيا تنصيريا، فعلينا أن نعرف كيف كان يُـنظر إلى الجزائر من قبل كل من فرنسا والكنيسة ومعهما بوجولا هذا . إن هذا ما يخبرنا به المؤرخ ناصر الدين سعيدوني والذي يقول: " الجزائر كان ينظر لها على أنها جزء من الغرب اغتصبت وافتك من طرف الشرق في مناسبتين الأولى عند الفتح الإسلامي القرن 7 م والثانية مع ظهور الأتراك وتأسيس إيالة الجزائر القرن 16 " 137 . ولذلك فلقد صدق: " ذلك السياسي الفرنسي والذي قال ليس حادث المروحة هو الذي ننفق من اجله مائة مليون فرنك ونضحي فيه بأربعين ألف رجل " 138 .

ونحن عندما نقول بأن المهمة التحضيرية ما هي إلا حرب على الإسلام فإننا هنا لا نتقول على الفرنسيين الغزاة أو نتهمهم بما هم بريئون منه فها هو الجنرال دوفيفيي Duvivier في العام 1843 ينشر رسالة جاء فيها: " وهناك مشروع آخر سوف يرضي المشاعر النبيلة لدى الفئة الصالحة من أمتنا إذا تواصل العمل فيه إلى أن يتم احتلال الجزائر نهائيا وهذا المشروع ديني وأخلاقي محض ويتعلق بإدخال الحضارة إلى الشعوب الإفريقية والحضارة المستهدفة هنا هي التي تنبثق من أخلاق المسيح وليست الحضارة المتهافتة على المادة القائمة أساسا على إرضاء الحاجات والمعتمدة في وسائلها على خلق المزيد من الحاجات الجديدة غير المنتهية ... فإذا شئنا أن نحضر الشعوب فما علينا إلا أن ننشر أفكار الإنجيل . " 139 . 

ولذلك فقد شاهدنا تلك الهجمة الشرسة على الدين الإسلامي بغية القضاء عليه وبصورة كلية في الجزائر وإحلال المسيحية في مكانه ويتجلى هذا في قولهم من أن أيام الإسلام الأخيرة قد حلت ومن أنه و في غضون عشرين عاما لن يكون للجزائر إله آخر إلاّ المسيح وحده كما أنه لن يصبح العرب فرنسيين إلا باعتناقهم المسيحية 140 . وهذه هي حضارتهم فهي تعنى حربا على العربية وعلى الإسلام بهدف إنهاء مهمة لويس التاسع  Louis IX والذي قاد حملة صليبية على المغرب العربي " تونس الحالية 1270 " وكانت فلسفتهم في هذا: " لنعمل من أجل انتصار الأفكار المسيحية ولنخض الحرب ضد المسلمين ولنكفر عن الذنوب باستعمال القوة وإراقة الدماء والسلب والنهب وليكن سلاحنا السيف والمحراث " 141 .

 

وخلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر نجد أن هناك ربطا مباشرا بين سياسة التنصير وبين سياسة التحضير كوجهي العملة الواحدة لا يمكن أن يتواجد واحد من دون الأخر وهذا ما نجده عن الكاردينال لافيجري والذي كان يقول عن منطقة شمال إفريقيا من أنه: " لا تمدن لشعوبها ما لم يتنصروا ولم يتفرنسوا " 142 . كما أننا نجده يقول بأنه يجب أن نلهم هذا الشعب عن طريق أبنائه أحاسيس أخرى و مبادئ أخرى غير الإسلام . و ينبغي أن نقدم له مبادئ الإنجيل  فإما أن يندمج في حياتنا أو نطرده إلى الصحاري . فأين هي الحضارة وأدواتها في كل ما سبق ذكره ؟ ومن قبله ها هو الجنرال دو بورمون Louis Auguste de Bourmont وعقب سقوط مدينة الجزائر يقول لجنوده بأنهم قد جددوا عهد الصليبيين.  ونفس الأمر نجده عند الجنرال بيجو والذي خاطب بوجولا السابق الذكر وهذا في العام 1844 من أن الحرب التي نقومون بها في إفريقيا إنما هي حلقة من حلقات الحروب الصليبية .

ومما سبق نستنتج بأن التحضير عندهم هو أن يصبح الشعب الجزائري لا يرى إلا بعيون فرنسية أي الذوبان في البوتقة الفرنسية والاندماج فيها . ولكن هذا الاندماج لم يحدث أبدا لكون فرنسا الاستعمارية قد وضعت شروطا تعجيزية لمن يريد الحصول على جنسيتها، ولعل أهمها هو التخلي عن الدين الإسلامي وعلى قانون الأحوال الشخصية،وهذا ما لم يقبل به الجزائريون مطلقا . وعليه فقد بقوا خارج الدائرة الفرنسية لكونهم غير قابلين للاندماج في دولة فرنسا الاستعمارية . وبالتالي فقد أفشلت فرنسا مهمتها التحضيرية بنفسها بما وضعته من عراقيل في وجه الجزائريين مما يحول دون نهلهم من مدنيتها . وهذا على عكس اليهود والذين اندمجوا ثقافيا بعد مرسوم كريميو Adolphe Crémieux أكتوبر 1870 . وبهذا فقد هاجروا ثقافيا من ثقافة الأهالي أي الجزائريين إلى الثقافة الفرنسية . لأنه عمليا لم تكن هناك عراقيل موضوعة في طريقهم كتلك التي وضعت أمام الجزائريين . بل على العكس فقد كان مرحب بهم وهذا لكون أصول الغرب هي جذور يهودية مسيحية كما يدعون ولكونهم ومن جهة يحتاجون للعنصر اليهودي لتكثير العنصر الأوروبي في الجزائر .  

ولكن الأمر مع الجزائريين فقد كان مغايرا تماما ذلك أن الكولون كانوا يعتبرون الإدماج خطرا عليهم ويتهمون الساسة الفرنسيين الذين يريدون دمج الجزائر في فرنسا بأنهم خونة لفرنسا 143 . ولهذا فالمهمة التمدينية التي ادعتها غالبا الدول الاستعمارية فلم تكن تؤلف في الواقع إلا مظهرا ثانويا من نشاطها 144 . ولهذا فلم يحدث أبدا أي نوع من التلاقح بين الطرفين وإنما كان الاستعمار طريق في اتجاه واحد يستنزف خيرات الشعوب المحتلة من دون أي مقابل تقني أو تكنولوجي أو صناعي أو زراعي بل هو قد زاد الأقطار المستعمرة تخلفا على تخلف .

ولهذا فقد فشلت المهمة الحضارية التي ادعاها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، هذا طبعا إن وجدت  تلك المهمة أصلا . وفشلها قد كان فشلا ذريعا ذلك أن الفرنسيين قد وجدوا أنه: " من الصعب أن يستوعبوا ملايين البدائيين في إفريقيا وآسيا في الثقافة الفرنسية ولذلك فإنهم في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر اعتنقوا مذهبا جديدا أسموه الاشتراك ومؤاده أن يعلموا طبقة ممتازة صغيرة من الأهلين الذين يتعاونون مع الموظفين الفرنسيين في إدخال الثقافة الغربية إلى الجماهير " وهذه السياسة بدورها قد فشلت: " إذ تحولت هذه الطبقة إلى جماعة صغيرة ذات تأثير ضعيف أو عديمة التأثير على الجماهير في المستعمرات " 145 . وهذا ما حدث تماما في الجزائر بحيث لم تستطيع الطبقات التي ذابت في الثقافة الفرنسية أن تكون هي من تعبر عن وجدان الجزائيين ولا أن تكون هي القاطرة التي تقودهم صوب المدنية والحضارة ولا وجدت جماعات جزائرية مستعدة لأن تموت في سبيل هويتها الجديدة تلك عن اعتقاد وهذا بعيدا عن المصالح المادية والتي يركب قطارها كل مصلحي وانتهازي . ولهذا فقد رأى فيها عموم الشعب الجزائري مجرد طبقة مستلبة انقلبت على هويتها مما عرضها للنبذ من قبلهم بل وصل الحد إلى اتهامها بالكفر والمروق عن الدين . وهنا تكون قد فقدت وبصورة مطلقة الشرعية في التحدث باسم الجزائريين وعليه فلا هي قد بقيت جزء من محيطها الطبيعي ولا هي قد أصبحت جزء أصيلا من المجتمع الذي تبنته، ورفض هو الآخر أن يتبناها لأن في عروقها لا تجرى الدماء الفرنسية . فبقي في الجزائر يتصارع الشرق والغرب إلى أن كانت الغلبة في النهاية لشّرق وعادت الجزائر إلى هويتها الأصلية كما كانت قبل العام 1830 وفشل الفرنسيون في أن يجعلوا منها قطعة من الغرب . 

كما يجب الإشارة هنا إلى أن التمدين ونقولها مرة أخرى لهو حرب على هوية الجزائريين . ومن جهة أخرى هو نشر لقشور الحضارة ولتوافه منتجاتها . وهذا ما تفطن له الجزائريون فقد جاء في جريدة ذو الفقار الصادرة في الجزائر في بداية القرن الماضي صورة لرجل متفرنج يدعو زوجته إلى ترك ثوبها القديم علها ترقص التانغو فتعد من المتمدنات فكان جواب المرأة أن لباسها العربي وعفتها الإسلامية لا يمنعانها من أن تكون متمدنة " 146 .

 

تهمة البربرية والهمجية أكذوبة استعمارية لتبرير الغزو الفرنسي للجزائر

بداية نقول إنه لتساءل وهذا حينما نقول هل كانت الجزائر قبل الغزو الفرنسي في نفس المرتبة من المدنية مع قبائل استراليا . وفي نفس مستوى أهالي غابات أواسط إفريقيا وغابات الأمازون والتي لم يتجاوز بعضها مرحلة الجمع والالتقاط والصيد وهذا حتى العام 1830 ؟ . هذا ما يتبادر إلى أذهاننا عن وضع الجزائريين وهذا عندما نقرأ عن المهمة الحضارية الفرنسية في الجزائر . ثم جاء الفرنسيون شعلة الحضارة وخلفاء اليونان القدماء ليقيموا فيها مدنية وحضارة . وهذه هي المغالطة الكبرى فنحن شعب متوسطي أي أنه لا يوجد شيء من منتجات المدنية لم نكن نعرفه باستثناء منتجات الثورة الصناعية في الجانب البخاري منها كقاطرة ستيفنسون George stephenson مثلا . أما الباقي فكان متداولا بين أيدي الجزائريين وخصوصا سكان السواحل منهم . كما أن كل ما كان موجودا في الأسواق الأوروبية كان معروفا في الجزائر، نحصل عليه إما كغنائم ناتجة عن الحروب البحرية التي كان يخوضها الأسطول الجزائري، أو عن طريق الإتاوات التي تفرضها الجزائر على الدول الأوروبية . فتحصل عليها على شكل معدات وأدوات مصنعة . ولهذا فقد صدق فليب دو طوكفيل وهذا عندما قال بأن المدنية الجزائرية كانت ناقصة فقط ولم تكن كاملة . وهذا لافتقارها للجانب التقني والمتمثل في تكنولوجيا الثورة الصناعية . أما ما عدا هذا فنحن كنا كأي دولة متوسطية أخرى . 

والآن لنلقي نظرة موجزة عن مختلف المنتجات الجزائرية في أواخر الحقبة العثمانية في الجزائر حيث كانت هذه الأخيرة تنتج كل خيرات البحر المتوسط . والفائض من إنتاجها كالحبوب كان يصدر إلى أوروبا ذاتها . وأزمة الديون الخاصة بصفقات الحبوب بين الجزائر وفرنسا لخير شهد على هذا الأمر وصدق مفدى زكريا عندما قال:

و جاعت فرنسا فكنا كراما            و كنا الألى يطعمون الطعاما

فأبطرهم قـمحنا الذهـــــبي            و كم تبطر الصدقات الـلئاما

فشكرا يا مفدى فقد أصبت كبد الحقيقة فاللئيم عندما تجود عليه يطمع في كل ما في يدك إن لم يأخذ لك يدك كلها كما يقول المثل الشعبي عندنا . وهذه هي الحقيقة ففرنسا لم تأت لتمديننا وإنما جاءت لنهب خيراتنا . أما المهمة الحضارية فلفرنسا أن تدعي ما تشاء ما دام واقع الحال هو الفيصل بيننا . وها هو الجنرال بيجو في العام 1844 يخبرنا بأنه هو وجنوده قد خربوا أكثر من خمسين قرية غناءة مبنية  بالحجر الصم ولها سطوح من القرميد 147 . وهذه القرى تذكرنا بقرى حوض البحر المتوسط في ضفته الشمالية،أو لنقل بالنموذج الأندلسي على وجه الخصوص حتى أنهم ولمدة 06 أشهر من التخريب ولم يستطيعوا قطع كل الأشجار . وعليه فهم المسئولون عن تخريب زراعتنا لصالح زراعة الكروم وهل الزراعة ليست إلا جزء من المدنية والحضارة ؟ . أما مجرم الحرب سانت ارنو فيخبرنا بأن: " نواحي بني شويد لمخزن خيرات ومرتع ثروات " 148 . حتى أن عباس فرحات وهو على حق في هذا يخبرنا بأن شعبنا كان على خلاف ما يدعيه الاستعمار فقد كان شعبا يضاهي من جميع النواحي كثيرا من الشعوب الأوروبية كما يضاهي فلاحي فرنسا في ذلك العهد " 149 .

أما الصناعة فقد كانت هي الأخرى مزدهرة في الجزائر وخصوصا النسيجية منها، صحيح هي لم تكن تستخدم المحلج الصناعي أي أنها حرفية ما قبل الصناعية وهذا ما يخبرنا به احميدة عميراوي في كتابه قضايا مختصرة في تاريخ الجزائر الحديث والذي جاء فيه: " فبرغم ما يعرف على مدينة الجزائر من أن سمة الحياة بها كانت تتميز بالتجارة والصناعات الحرفية " 150 . ولهذا فإننا لم نكن قوما متوحشين تائهين في البرية نلبس جلود الحيوانات ونعتاش على ما تجود به الطبيعة من مأكل ومشرب . كما أن عمارة مدينة الجزائر وقسنطينة وتلمسان كلها أدلة شاهدة على المستوى الحضاري الراقي والذوق الفني الرفيع الذي عرفته الجزائر قبل الغزو الفرنسي لها . ولكن خاننا الحظ نتيجة تفوق فرنسا علينا بسبب أخذها بالثورة الصناعية ولا شيء غير هذا . وإلا بماذا نفسر شهادة سانت أٍرنوا والذي يقول: " تركت ورائي حريقا هائلا تندلع لظاها فيما يقرب من مائتي قرية أصبحت طعما للهب، لعبت بالبساتين يد الخراب كما لبعبت المناشير بأشجار الزيتون " 151 . وقس على هذا مختلف أنحاء الجزائر الأخرى وهي تذكرنا بمنازل الأندلسيين في غرناطة وفي جنوب إسبانيا عموما نقولها مرة أخرى . نعم لقد كنا في نفس المستوى الحضاري مع بقية شعوب حوض البحر المتوسط كإيطاليا وغيرها ولكن الجانب المادي هو من خاننا ولا يوجد غير هذا فيما يخص مستوى التمدن والتحضر بيننا وبينهم . أما صناعتنا في المدن فصحيح أنها ليست صناعة حديثة لعدم أخذنا بأسباب الثورة الصناعية . ولكنها كانت صناعة زاهرة ومزدهرة مثل زرابي مدن سطيف وجبل عمور وتلمسان . أما الزراعة وإضافة إلى ما سبق ذكره أعلاه فيمكن الرجوع إلى كتاب مصطفى الأشرف الجزائر الأمة والمجتمع ففيه ما يكفي هو ومعه شهادات عباس فرحات عن مدي الازدهار الزراعي الذي كانت تعرفه الجزائر في تلك الفترة . ولكن الاستعمار الفرنسي هو من أوقف عجلة تطورنا وبالقوة أي أن كل شيء قد مات على يديه، ليس موتا طبيعيا وإنما كمن يتم قتله عن سبق إصرار وترصد . وبهذا فهو المسؤول عن خنق وإجهاض عملية مواكبة الجزائر للركب الحضاري فلا هو سمح لنا بامتطائه ولا هو قد سمح بالسير فيه .

ومن حقنا هنا أن نبحث عن جذور وجهة النظر القائلة بأننا كنا همجا وبرابرة وبأن فرنسا ما جاءت إلا لتمديننا . إن جذور هذه النظر ترجع إلى ذلك الصراع بين الشرق والغرب والذي ورثته الدولة العثمانية والجزائر جزء منها عن الحقب التاريخية السابقة . كما نجد جذوره في نظرة الغرب المسيحي إلى كل من هو ليس متماثلا معهم في العرق واللون والجنس والدين . فهم المتحضرون وكل من عاداهم فهم برابرة ومتوحشون . فها هو نابليون بونابرت يدعي بأنه سوف يلقن الجزائريين وكما يسميهم هو بلصوص البحر درسا، وهذا تحت ذريعة أنهم لا يحترمون القانون الدولي . وكأن بني جلدته وقومه ممن كانوا قبله أو ممن أتوا بعده كانوا حواريين وهم من سرقوا الأوطان وبما فيها  . إن الحضارة في عرفهم هي الهمجية والهمجية في عرفهم هي الحضارة وهذا هو منطق الاستعمار يقلب الحق باطلا والباطل حقا وهذا ما يخبرنا به رد أحد السفراء اليابانيين على الأديب والباحث الفرنسي لويس بيرتران Louis Bertrand: " والذي جاء فيه طوال الوقت الذي بقينا فيه أدباء وشعراء وأرباب أسر طيبين كانت أوروبا تتبرنا متوحشين وبرابرة وعندما تحولنا إلى ثلاثمائة ألف حربة أخذنا مكاننا بين الأمم المتحضرة " 152 .

ولهذا فنحن قد كنا ضحية لشيطنتنا الممنهجة ولذلك الصراع الحضاري بين الشرق والغرب . والذي كانت آخر حلقاته في القرن التاسع عشر وما قبله ما عرف بالمسألة الشرقية . إن كل الفرنسيين الذي غزوا الجزائر في ذلك القرن قد كانوا مبرمجين بما مفاده أن الجزائري رجل همجي حتى وإن كان في قمة النبالة والتحضر والمدنية . فمثلا ففي الوقت الذي كان  الفرنسيون يفاخرون فيه بكل ضروب أعمالهم الهمجية والبربرية ويكفي هنا القول بأن كل جندي يأتي بعربي أسير أي بجزائري كان يعاقب وإنما فقط يجب أن يأتي برأسه ليسد به الفرنسيون مجاري المياه وإلا فسوف يضرب ببطن السيف لأن عملية قطع الرؤوس رؤوس الأبرياء طبعا قد كانت مألوفة 153 . وهم هنا قد بعثوا كل شرور قدماء الرومان من مرقدها فلئن كان الرومان يسقون من تغلبوا عليهم وتحت حجة تمدينهم أيضا الرصاص الذائب فإن آباء الاستعمار في الجزائر قد استبدلوه بغازاتهم السامة في حرب كيمائية قذرة شنوها ضد الجزائريين كما هو الحال في عام " الشكاير " بمدينة الأغواط في العام 1852 . كما جعلوا منا فئران تجارب لتجاربهم النووية في صحرائنا والتي لا زالت شاهدة على همجيتهم وعلى بربريتهم وإلى غاية يوم الناس هذا ثم بعد هذا يتهموننا بالهمجية؟ .

وسياسة الجنرال بيجو والمعروفة بالاحتلال الشامل La conquête totale  تلك التي كانت تقوم على سياسة الاستيلاء على الأراضي والممتلكات وإحراقها، فهذه السياسة كان المراد منها قطع الطريق بين المقاومة والشعب الجزائري باعتبار هذا الأخير هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها أية مقاومة  154 . وهذه السياسة لهي منافية لأبسط أبجديات سياسة التمدين والتحضير . ومعها قمع الفرنسيين لهذه الانتفاضات بوحشية قلما يحدثنا التاريخ عن مثلها، فقد ارتكبت جيوش فرنسـا من أعمـال التقتيل والتخريب والحرق والنهب والسلب والتشريد وقطع الرؤوس ما لا يمـكن وصفه 155 . حتى أن الجنرال بيجو قد كان يعطي للمعمرين سيفا باليد اليمنى ومحراثا باليد ليسرى ليستقروا ويدافعوا عن أنفسهم ضد العرب المتوحشين 156 .

وهل التمدين هو قتل كل الرجال الجزائريين ما فوق سن الخامسة عشر سنة ألم تكن هذه هي الطريقة المثلي لمحاربة العرب وإخضاعهم لأنهم لا يخضعون إلا للقوة 157 . وفي هذا الصدد كتب مونتانياك لأحد أصدقائه:" تطلب مني ماذا كنا نفعل بالنساء، كنا نحتفظ ببعضهن كرهائن، بينما كنا نقايض أخريات بأحصنة وبيع ما تبقى منهن في المزاد العلني كقطيع غنم " 158 . ويقول في موضع آخر:" هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب يا صديقي ... قتل الرجال وأخذ النساء و الأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب".  159 . ويذكر في كتابه "رسائل جندي" واصفا القمع الوحشي في إحدى المعارك: " لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة: " 160 . وهنا من حقنا أن نعقد مقارنة مع معاملة الأمير عبد القادر والذي كان يعهد بهم لأمه لكي تشرف على شؤونهم وكأنهم أبناؤها . وبين معاملة الفرنسيين للأسري الجزائري والمتمثلة في قطع الرؤوس زمن دون محاكمة أو لمجرد التسلية والترفيه عن النفس وهذا ما يخبرنا به وظيفته العقيد ديمونتنياك: " قد اقطع الرؤوس لطرد الخواطر المحزنة التي تساورني احيانا " 161 . وبعدها يقولون عنا همج جاؤوا لتحضيرنا، صحيح إن شر البلية ما يضحك . وأي تمدين وهم ووفق مخطط مدروس وبصورة مسبقة قد طردونا إلى المناطق الحجرية الجبلية وإلى المناطق الصحراوية بعيدا عن مراكز العمران التي هي رحم كل عملية تمدين وتحضير . وعليه فلئن كانوا حقا يريدون تمدينه فلما يطردونه بعيدا عن مراكز المدنية ويحرمون علينا دخولها ؟ أهذه هي المدنية تشريدنا وإبادتنا كما هو حال قبيلة العوفية ومحو واحة الزعاطشة من الوجود . نعم إن هذه هي الحضارة والأنوار التي يفتخر بها فيكتور هيجو وفرنسا الاستعمارية .

ومما سبق يمكن القول وبكل اطمئنان بأنهم حقا قد أصبحوا وحسب شهادتهم هم أكثر وحشية من الذين جاؤوا لتمدينهم 162 . أو كما سجله التاريخ لبيلسيه Pellissier de Reymand  وهذا عندما يقول: " لا أخاف إذ أقول بأن مجد المنهزمين فاق وطغى على مجد المنتصرين" 163 . ولهذا فالمستعمر والمحتل والغازي عند عباس فرحات ما هو إلا قوة بلا فكر وجسم بلا روح جاء بالسيف في يده وبالمدفع والخنجر استقر وأصبحت البلاد له . هذا ما يخبرنا به كتابه الشباب الجزائري ولذلك فالرجل لا يريد أن يتماهى معه في هذا الجانب المظلم وعمل المستحيل من أجل تخليص شعبه من هذا الشر الذي قذفه فيه المستعمر ورغما عن إرادته .

وعلى النقيض من هذا فكل ما بدر من الجزائريين تجاه الفرنسيين في تلك الأيام الحالكة والسوداء والتي يسميها عباس فرحات قرن الأحزان قد كان هو عين المدنية والتحضر عكس ما كان يأتيه الفرنسيون البرابرة في بلادنا . فها هو الجنرال سانت أرنو يخبرنا بأن الأمير عبد القادر قد أعاد لنا أي للفرنسيين كل الأسرى دون شروط ودون مبادلة قال لهم ليس لدي ما أطعمكم به ولا أريد أن أقتلكم ولذلك أطلق سراحكم وعلق سانت أرنو على عمله هذا بأنها لفتة طيبة من رجل همجي 164 . وهنا من حقنا أن نتساءل من هو الهمجي ومن هو المتوحش أهو الجزائري أم ذلك الغازي الفرنسي ؟ ومن كان يحترم القانون أهم نحن أم هم ؟ ألم يبرروا غزوهم للجزائر بأن أتون للقضاء على القراصنة الجزائريين الذين لا يحترمون القانون الدولي ؟ . ولئن كنا برابرة حقا فكيف نكون كرماء حتى من أعدائنا الذين قتلوا ظلما وعدوانا إخواننا وأبناءنا وآباءنا . وهذا ما فعلته نسوة قسنطينة حينما أنقذنا جنود الحملة الفرنسية الثانية في العام 1937 وهذا لمّا قدمن لهم المأكل والمشرب لمّا أشرفوا على الهلاك جوعا . وبعد هذا يتحدثون عن الهمجية صحيح وصدقت العرب قديما فقد رمتني بذنبها وانسلت . كما أنه وفي الوقت الذي كان فيه جيش فرنسا حامل لواء المدنية والحضارة إلى ديارنا يعيث في الأرض فسادا من د يبرمون مرورا ببيجو وإلى غاية الجنرال ديغول Charles de Gaulle، يدمرون ويحرقون الجزائر وفق سياسة دولة ممنهجة ويفاخرون بهذه الوحشية والهمجية ويفرحون ويبتهجون لهذا العمل . ولما لا وقطع الرؤوس أصبحت عندهم للترفيه عن النفس في أوقات الفراغ . كما أن همهم الوحيد قد أصبح الإحراق والقتل والتدمير والتخريب وقطع الرؤوس وتعليقها على مدك البندقية لبعث السرور في قلب المجرم الجنرال باراكي Générale Baraki  165 .

وإننا لنجد هذه النظرة لنا على أننا برابرة ومتوحشون لهي وليدة واقع الحال المضلل الذي أوقع فيه الاستعمار الفرنسي الشعب الجزائري . فكانت النظرة مضللة وهذا من بعد أن أرجعنا المستعمر الغاصب وبقوة الحديد والنار إلى العصور البدائية . ولهذا فكل من يعرف حالنا قبل الاعتداء الفرنسي علينا في العام 1830 يضن ويعتقد بأن هذا هو حالنا وهذه هي طبيعتنا وحقيقتنا ولكن واقع الحال مخالف لهذا تماما . فها هو المؤرخ الفرنسي لوروا بوليو Leroy-Beaulieu يقول بأن: " جميع البلدان التي أسست مستعمرات أنشأتها في أقطار شاغرة فارغة أو قليلة السكان أو أقطار سهلة الغزو تكثر فيها الأراضي المهملة لا أرباب لها ولذا كانت غنيمة باردة سهلة الاغتصاب لا يسكنها إلا أناس قلائل بدائيون متخلفون " 166 . فأين هما التخلف والبدائية اللذان كانت تعيش فيهما الجزائر قبل الغزو الفرنسي لها ؟ . هذا محض ادعاء كاذب وعار عن كل صحة وإنما هو كلام لتبرير ما لا يبرر والمتمثل في اغتصاب أرضينا وتشريد شعبا ومحو كيان دولتنا لصالح مشروع استعماري توسعي أنتجته ظروف أوروبا ما بعد الثورة الفرنسية والصناعية . وكنا نحن أول ضحاياه وهذه هي الحقيقة ولا شيء غير هذا . وهنا من حقنا أن نتساءل على ماذا تريد بعض الأصوات أن نشكر الاستعمار على تفقيرنا، أو على تجويعنا أو على تجهيلنا، أو على تقتيلنا أو على تشريدنا، أو على دفعنا ورغما عن إرادتنا في هوة التخلف والهمجية . ولئن كان الأمر هكذا فشكرا لفرنسا الاستعمارية على فتوحها النبيلة هذه .

وهمجية المحتل الغاصب هذه استمرت حتى من بعد أن انتهت المقاومات الشعبية ووضع الشعب الجزائري السلاح . فهو لم يعد عدو النظام الاستعماري في الجزائر فيما بين سنتي 1870 – 1919 . بل قد أصبح العدو بعد نهاية ح ع 1 كل من رجل السياسة والثقافة ممن يريدون استرجاع حقوق شعبهم المهضومة كما هو الحال مع عباس فرحات والذي سجن عدة مرات ونعته الكولون بالكلب على الرغم من أنه رجل مسالم ولا يميل إلى العنف، ولم يكن يهدد قبل العام 1956 الوجود الفرنسي في الجزائر . وكل هذا فقط لأنه قد كان خانقا على السياسة الاستعمارية الظالمة لشعبه وهذا ما يكشف زيف المهمة التمدينية الفرنسية في الجزائر .

ثم كيف تكون الجزائر منغمسة في الجهل والجهالة وهي من أنجبت أمواجا متتابعة من الأعلام الكبار ولا يتسع المجال هنا لذكرهم . كالمفتي محمد بن الشاهد والشيخ احمد بن محمد المبارك ولمعرفة المزيد يمكن لنا الرجوع إلى كتاب الحفناوي تعرف الخلف برجال السلف . وكيف تكون البلاد مظلمة من الجهل وهي عامرة بالزوايا التي: " يسكنها الطلبة ويأخذون فيها مئونتهم الشهرية " 167 . وهذه الزوايا كانت: " تكاد تنافس الجامع الزيتوني بتونس أو جامع القرويين بفاس من حيث مقدرة الأساتذة ومستوى التلامذة " 168 . ولذلك كانت شهاداتها معترف بها خارجيا 169 . ولغة التدريس قد كانت العربية طبعا ولكننا أصبحنا نحتاج إلى مترجم عندما نزور أي بلد عربي غير الجزائر . وهذا كنتيجة حتمية لسياسة التجهيل التي مارستها فرنسا في الجزائر . وبعدها يتحدثون عن الجهل الذي كان بيننا قبل غزوهم لبلادنا وعن الأنوار الساطعة التي وطنتها فرنسا بها طوال عهدها البائد . أي حماقة ووقاحة أكبر من هذا ؟ صحيح إن لم تستحي فقل ما شئت .

وكيف نكون جهلة وبرابرة متوحشين وهمج وها هو الرحالة غي دو موباسان يعترف ويقر بعبقرية سكان وادي ميزاب، حيث توجد خمس مدن آهلة بالسكان ومحاطة بحدائق وافرة النباتات ولينتهي إلى القول بأنه من حوله أي واد ميزاب الصحراء الجرداء والموت وفي أسفله الحياة الدامغة بالبراهين على حضارة متقدمة 170 . وهل هذه الحضارة بناها الفرنسيون الذين اغتصبوا الجزائر وحولوها إلى رماد بفعل سياسة الأرض المحروقة من أمثال بيجو وسانت أرنو وغيرهما من مجرمي الحرب في الجزائر ؟ . وما يصدق على وادي ميزاب يصدق على كل شبر من أرض الجزائر فبلادنا كانت عامرة ويسكنها شعب متحضر شأنه شأن كل شعوب البحر المتوسط، وجاء الاستعمار وبقية القصة معروفة للجميع . علما أنه وفي مجتمع بني ميزاب لم يكن يوجد متسولون ولا فقراء كما أن الجميع يعرف القراءة والكتابة لأن المدارس والمؤسسات القروية المهمة تنتشر في كل مكان ومن ينتقل منهم خارج مدنهم بوادي ميزاب يعود وهو متعلم للفرنسية والإيطالية والإسبانية 171 . وسبب انتشار هذه الإيجابيات بين المزابيين هو كونهم ينفقون على تلك المجموعات من أموال الصدقة وهذا بشهادة غي موباسان في رحلته دوما وأين هم اليهود لما لا نحملهم أيضا مسئولية هذا الوضع الجيد لسكان بني ميزاب كما مر معنا في موضع آخر من هذا البحث ؟ . وهذا حين حملهم المستعمرون مسئولية حالتنا المزرية والتي كنا نحياها . وفي مقابل حالة بني ميزاب فإننا نجد بأن باقي الجزائريين قد تحولوا إلى جيوش جرارة من الفقراء ومن المتشردين ومن المتسولين ومن الجهلة، وهذا بفعل استيلاء فرنسا الاستعمارية على كل مصدر منتج للثروة يحول دون ظهور هذه المظاهر السلبية في المجتمع الجزائري وعلى رأسها مؤسسة الأوقاف .

 وعطفا على ما سبق نقول بأن الجزائر لم تكن قبل 1830 تماثل مجاهل إفريقيا أو أدغال الأمازون وإنما كانت أمة متحضرة ولها حضارتها الخاصة بها . وهذا بشهادة الفرنسيين أنفسهم، والتي يوردها أبو القاسم سعد في كتابه تاريخ الحركة الوطنية الجزء الثاني فها هو يخبرنا بأن ب ل بوليو قد كتب في كتابه الجزائر وتونس في العام 1894 من أنه قد كان للجزائر حضارة متقدمة ومجتمع منتظم . أما ألكسي دي توكفيل فقد صرح في العام 1847 أمام المجلس الوطني الفرنسي بأنه كان للجزائر حضارتها الخاصة رغم تخلفها واعترف بأن الفرنسيين قد جعلوا المجتمع الجزائري أكثر شقاء وأكثر بربرية مما كان عليه قبل وجودنا 172 .

ونبقى دوما مع ألكسي دو طوكفيل والذي يقول في العام 1847 بأن: " المجتمع الإسلامي في إفريقيا الشمالية لم يكن غير متمدن بل ما كانت مدنية إلا متأخرة وناقصة وكان يحتوى على عدد كبير من المؤسسات الدينية مهمتها البر والإحسان ونشر التعليم في جميع الوطن " 173 . وكيف نكون متخلفين غير متحضرين وها هو الجنرال كافيناك Louis Eugène Cavaigna يقول: " إن العربي متمسك بأرضه أكثر مما نتصوره إن ملكيته منظمة أحسن مما يقال عنها وفي هذا الباب إننا محتاجون إلى كثير من الدروس من طرف العرب " 174 . وها هو أبو القاسم سعد الله يخبرنا بأن نظافة المدن الجزائرية ومنازلها كانت تطغى على نظافة المدن الفرنسية ومنازلها وأن الفرنسيين تفاجئوا من وجود في مدينة الجزائر وتحت العمامة والبرنس أناسا يتحدثون الفرنسية مثل أهل باريس تقريبا ومن يعرف الأوبرا وقد استغرب بعضهم أن يلقى في الجزائر من أخبره أنه ذهب مع صديق له إلى فرنسا وإنجلترا وتجولا فيها 175 . ولكن كل هذه الأوضاع سوف تنقلب رأسا على عقب بعد الغزو الفرنسي للجزائر لتصبح مدينة الجزائر: " مضرب المثل في الأوساخ وذبول الحدائق وانتشار الأمراض المعدية والفساد الأخلاقي ... وحتى أنابيب المياه التي كانت تسقى المدينة قد خربت " 176 . وعليه فلولا الغزو الفرنسي والذي أوقف بالقوة الغاشمة سير تطورنا ولا نقول تمدننا كما أوقفوا عجلة تطورنا الصناعي والزراعي أي الاقتصادي ورموا بنا في جحيم التخلف . لاستطاعت الجزائر أن تنجب عقولا نيرة من أمثال أحمد بوضربة وحمدان خوجة وابن العنابي . وكنا سننهض بهم نهضة كنهضة محمد على بمصر ولكانوا في الجزائر كمثال الطهطاوي في مصر .

نعم إننا لم نكن جهلة وعليه فمن حقنا أن نتساءل من المسئول عن حالة البؤس وبجميع أبعاده والذي استشرى في الجزائر في الفترة ما بعد 1830 أي ما بعد الغزو الفرنسي لها وانتقلنا فجأة إلى العصور البدائية ؟ إن المسئول الأول والأخير عن كل هذا هو لا محالة الاستعمار الفرنسي وهذا بشهادة أبنائه ومنهم فليب دو طوكفيل والذي ينفي تهمة اللاتمدن عن الجزائريين قبل اعتداء 1830 وكما مرّ أعلاه وهذا عندما أخبرنا بأن المجتمع الإسلامي في إفريقيا الشمالية لم يكن غير متمدن بل ما كانت مدنيته إلا متأخرة وناقصة وكان يحتوي على عدد كبير من المؤسسات الدينية مهمتها البر والإحسان ونشر التعليم وقد استحوذنا على مداخيلها وحرفنا أهدافها 177 . نعم لقد حرفوا أهدافها – الأوقاف وما يتبعها من مؤسسات -  من أهداف نبيلة إلى أهداف وضيعة وحقيرة تتمثل في إغناء ما أكبته السفن القادمة من موانئ أوروبا الجنوبية من حثالات البشر ومن اللصوص والمجرمين وقطاع الطرق وإلى تحويل الغزاة إلى نبلاء . وإلى منحها إلى غير مستحقيها كصرفها على العملاء وعلى الخونة وعلى عشيقات الغزاة واستهتارهم . وعلى بناء مساكنهم وكنائسهم هنا في الجزائر . وعلى مجهودات الحرب لإبادة الشعب الجزائري كما حدث لقبيلة العوفية مثلا وغيرها من الأهداف التي لا علاقة للجزائريين بها . 

والنتيجة الحتمية والمنطقية لكل ما سبق هي أن: " انطفأت من حولنا مشاعل العلم فغدت هباء منثورا وأهملنا الفقهاء والعلماء فصاروا قوما بورا وقذفنا بالمسلمين في البؤس والجوع فأصبحوا ينادون ويلا وثبورا ثم قذفنا بهم في حالة أكثر همجية مما كانوا عليه " 178 . وبعد هذا يأتي من يتحذلق علينا من أحفاد المستعمرين ويحاول إيهامنا بإيجابية الاستعمار في الجزائر . نعم إن كل معمري الجزائر وباستثناء فئة قلية جدا قد أصبح الظلم لا التمدين والتحضير هو دينهم الأوحد والوحيد في الجزائر . وهذا بهدف الحفاظ على امتيازاتهم حتى أنه لم يعد بإمكان الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية التمييز بين المعمر الصالح والمعمر والطالح بتعبير فرحات عباس لأنهم في ظلم العربي أي الجزائري سواء . 179 .

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم