قضايا

التنافر الذهني التوافقي ومبعث الآهات!!

هذه نظرية جاء بها ليون فيستنجر عام 1957 تؤكد ميل البشر للتبرير وتسويغ ما يقوم به من أفعال تتناقض وما يؤمن به ويعتقده ويراه، فيستحضر ما يجعل الفعل المناهض لمعتقده متوائما ومنسجما معه!!

فالبشر يمتلك حساسية عالية أو ثيرموستات حساس جدا لأي عدم توافق ما بين أفعاله ومعتقداته، ويدرك وبمستويات مختلفة أي عمل لا يتوافق مع معتقده ورؤاه ومواقفه الفردية والجمعية، وعندما يحصل العمل المنافي لما فيه، يتسبب في إضطراب داخلي عليه أن يبتكر الوسائل والأساليب الكفيلة بتهدأته وتسكينه، والوصول إلى حالة الإستقرار الداخلي (الجوّاني) والإتفاق مع ما يحتويه.

 وهذا الإضطراب يسمى اللاتوافق، ويتطلب العمل الجاد للتخلص منه لما يتسبب به من عدم راحة نفسية وعقلية، وهذا اللاتوافق أو التنافر ما بين المعتقد والعمل أو الفعل، تتناسب شدته مع قباحة وفداحة العمل المتنافر مع الرأي والمعتقد، فالسلوك المتنافر يتسبب بعواقب نفسية سلوكية موجعة تتطلب التداخل السلوكي العاجل، لإعادة توازن معادلة التفاعل السلوكي .

ويسعى صاحب السلوك المتنافر إلى أن يغيّر ما يراه ويعتقده لكي يسوّغ َعمله القبيح،  لكن هذا السلوك صعب ولا يمكنه أن يكون الخيار الأول والأسهل، أو أنه يلجأ إلى تغيير سلوكه، وقد يتوب ويقرر أن لا يعود إلى فعلته مرة أخرى، لكنه ليس الأكثر شيوعا، أو أنه يبرر ما يقوم به ويدافع عنه ويستحضر ما يعزز ما قام به ويجعله متفقا مع ما يعتقده ويراه ويؤمن به، وهذا يسمى التبرير، وهو السائد دوما.

فأقبح الجرائم وأفظع المآثم يمكن تبريرها من قبل مرتكبيها، الذين يعتقدون بالمثل السامية والرحمة والعدل والإنسانية، إذ يتم النظر للسلوك بأساليب أخرى تساهم في شيوعه وتكراره وتمجيده.

وخلاصة النظرية أن السلوك عندما يتقاطع مع المعتقد، يضع الشخص في مأزق تنافري ما بين عمله ومعتقده، وعليه لكي يتخلص من وجع التنافر أن يغير معتقده أو رأية أو يتوب أو يبرر ويعزز ما قام إرتكبه من عمل شنيع.

وهذه النظرية تساعدنا على فهم وتفسير السلوكيات السائدة في مجتمعاتنا، والتي تتنافر مع الأعراف والتقاليد والمعتقدات المتوارثة عبر الأجيال، التي تآلفت وتواشجت وتمازجت بكل ما فيها.

فعندما ترى ذوي العقائد والمذاهب والمدارس تجمعهم مناسبة يبدون فيها بقلب واحد وروح تلهج بإسم خالقها ، وكأنهم حالة منسجمة متوافقة متناغمة معتصمة بحبل ربها المتين، وتجدهم بعد ذلك يتقاتلون ويكفّرون بعضهم، ويهتكون أعراضهم وحرماتهم ويفجرون أماكن عبادتهم، ويفعلون ببعضهم ما لا يستطيع عدوهم أن يفعله بهم، تتساءل بحيرة عن تفسير ما يجري ويدور؟!!

وعندما تتأمل أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والمعتقد الواحد يقتل بعضهم البعض، ويحسبون ذلك من طقوس العبادة وأركان الدين، تتساءل عن هذا السلوك المدهش الرهيب؟!!

ومن أسهل الأساليب وأكثرها رواجا للقيام بالفظائع ضد أخيك في الوطن والمعتقد وأكثر، أن تكفره أو تحسبه مرتدا، خصوصا وأنك تستحضر ما هو مقدس وديني لتعزيز ما ستقوم به من جريمة، فتقول أنني أقتل أخي المسلم لأنه كفر أو إرتد، أو أنه لم يتبع طريقي الذي يعبّر أصدق تعبير عن الدين والشريعة والرسالة، وأنك إمتلكت القدرة والنفوذ بتفويض من رب العالمين، الذي جعلك آلته للإقتصاص من الكافرين والمرتدين والخارجين عن طاعته، وبهذا فأنك تنفذ إرادة الله ولا شأن لك بما تقوم به سوى تنفيذ أوامره وحسب.

وقمصان الله والشرائع والأديان وغيرها معروفة ومكررة في مسيرات الصراعات والمصائب والخيبات البشرية، لأنها من أسهل ما يمكن إستحضاره لإبعاد حالة التنافر ما بين المعتقد والسلوك.

فقتل المسلم لأخيه المسلم بل لأي مخلوق حرام وجريمة شنيعة، لكن القاتل المسلم يبرر قتل المسلم وإستباحة عرضه وممتلكاته،  بما لا يُحصى من التسويغات والتبريرات والمعززة بالآيات والأحاديث والفتاوى والإقتداء بكذا وكذا، وبالتأويلات التي تحرره من أوجاع التنافر وتأثيراته الإضطرابية القاسية.

وخذ – على سبيل المثال – الصراعات الدامية ما بين المذاهب والفرق والجماعات الإسلامية، وما تتسبب به من خسائر ومظالم وقهر وترويع وجرائم بحق الإنسانية، وبمبادئ ومعايير الأرض والسماء، وكيف أنها تتواصل وتتأجج وتزداد قبحا وشراسة، ووراءها علماء دين وأدعياء دين وقادة ومروجون ومسوغون، ومساندون ومنادون بالمزيد من الفظائع والجرائم والمآثم، وكل يحمل راية الله ويشهد أن لا إله إلا الله، وتسانده سيول من الفتاوى والآراء التي تحبب إليه العمل القبيح وتحسبه الفضيلة الكبرى.

كما تجد الأقلام والمعممين والملتحين ومَن له منفعة في هذا العدوان، قد إندفع بجنون المتوحشين الساعين للإفتراس المشين، وبأفعالهم هذه يؤسسون لثقافات تدميرية وتفاعلات إنقراضية مروعة، ويصبح الناس المتورطين بهذه الآثام والمتصلين بها، لا يرغبون بسماع ما يفندها أو يكرههم بها، وإنما يصيخون السمع لما يعززها ويزيد من لهيبها وتأثيرها، فتراهم ينكرون ما لا يتفق ولا يحقق التوافق ما بين السلوك المتنافر ومعتقدهم.

وحالهم كالذي يشتري بضاعة ويشعر بأن من الأفضل له لو إشترى غيرها أو أنه وجدها بسعر أقل في مكان آخر، فيتوتر وينزعج، ولكي يقلل مما إعتراه، يستجمع ما ينفّره من البضاعة التي لم يشتريها، وما يحببه بالبضاعة التي إشتراها.

وتلعب العواطف دورا كبيرا في التأسيس للممانعة والإنغلاق في صناديق الغفلة والتغاضي عمّا لا ينسجم ويعزز فعل الرذيلة والتوهم بأنها أفضل من الفضيلة، وهذا الخلل الإدراكي والفهم المنحرف عبارة عن سلوك تغافلي عمهي، يسعى لخداع النفس وإيهام العقل وإحراف القلب ونزع جواهر الإنسانية من أعماق البشر، وتحويلهم إلى آلات وأدوات لتنفيذ البشائع وكأنهم سكارى منومون محقونون بأفيون البهتان والضلال المهين.

ولهذا فالإعلام يحتشد بما يبرر ويسوّغ ديمومة السلوك الرذيل المناهض لأسس ومبادئ الإسلام، وما جاءت به الرسالات السماوية، ويمضي في تسويق بضائع الرذيلة والدجل والتضليل والخداع والإيقاع ما بين الإنسان والإنسان، وتجد مقاطعة شبه تامة لكل ما يزعزع أركان البهتان ويُفحم الأكاذيب والإدعاءات التدميرية.

والذين لا يمتّون للمجتمع والدين بصلة ينظرون إلى ما يجري، ويفسرونه على أنه سلوك خارج عن العصر وأن المنطقة تعيش عصورا مظلمة كريهة، وعلى البشرية أن تطمرها بحفر ما فيها، ولهذا تتجيش الجيوش وتداهمها أساطين التدمير والترويع والتخريب والتهجير من كل حدب وصوب.

وعندما تسأل أي شخص مهما كانت ثقافته عما يجري، يأتيك بأقبح الأسباب ليسوّغ الذي يحصل ويأبى أن يسمع منك غير ذلك، وبهذا فهو يساهم عن قصد أو غيره في تقوية السلوك وتبريره وتعزيزه، ولهذا فأن السوء السائد سيزداد سيادة، لأن الناس لا تجد بُدا من إسناده وتصديق ما يساهم في تواصله من إدّعاءات وتبريرات مُخادعة مضللة وذات سُميّة ووبائية عالية.

ومن الواضح أن العديد من الذين أصبحوا رموزا ومتسلطين، يديرون دفة اللعبة التغريرية التحريفية التدميرية للوجود العربي الإسلامي، حتى أن بعضهم صار يتحدث عن الشك في صحة القرآن ويريد أن يأتي بقرآنه، ليبرر به ما يرتكبه من الجرائم والمظالم والمآثم التي تزعزع أركان السماء.

ومن الأمثلة على ما يجري في المجتمع أن الذين جاؤوا من غياهب المجهول وتسنموا السلطات بتأييد وتعضيد الآخرين، يحسبون ذلك نصرا من ربهم، وما نهبوه وسرقوه من أموال الشعب رزق من الله، فقد فتح الله لهم خزائن الأرض وعليهم أن يتنعموا بنعمته الفضيلة، ونعمة الله لا تحصى ولا تعد وقد خصهم بها، وبهذا يمعنون بالفساد ونهب الأموال، ولا يعنيهم الفقراء والجياع، لأنهم في تقديرهم، إنّ ما يعانونه غضب الله عليهم ولا قدرة عندهم لرد غضب الله على عباده.

وعندما سألوا أحد المسؤولين عن الخسائر في صفوف المدنيين وتدمير ممتلكاتهم، أجاب ببرود وعدم إكتراث، بأنها أضرار ثانوية لا يمكن تفاديها، وقد حصلت في جميع الحروب، فما الجديد في هذا .

ومؤخرا سألوا أحد الحكام العرب عما يصيب أبناء بلده من الويلات وأنهم يتقتلون ويتهجرون، فكان جوابه بأنهم ليسوا مواطنين من أبناء الوطن، إنهم إرهابيون، ونحن نقاتل الإرهابيين!!

والثقافة السائدة في أحد البلدان الذي دُمّرَ عن بكرة أبيه، أن كل ما جرى وتحقق بسبب النظام السابق لا غير، وأن الذين فيه لا ناقة لهم ولا جمل بما يحصل رغم أنهم (يحكمون) لعقد ونصف وما أنجزوا إلا الدمار والخراب وملاحم الفساد وتهجير العباد!!

وهكذا يمكن تفسير وفهم الظواهر العصية الدائرة في مجتمعاتنا، وقس على ذلك العديد من الحالات والظواهر والتفاعلات المتناقضة مع أبسط القيم والمبادئ والأعراف، والتي تتكرر وتتواصل بعنفوان ووحشية.

ولهذا ترى الأمة في مآزق تضليلية خداعية تمويهية تأخذها إلى متاهات سقرية ذات تداعيات فادحة وشنيعة النتائج والتفاعلات، ويساهم أبناؤها في توفير الديناميكية التواصلية الكفيلة بتحقيق أكبر الإنهيارات الفكرية والسلوكية، والإعتقادية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك لبراعاتهم التبريرية والتسويغية التي تحقق تعجيزا وشللا وإنحطاما أليما في أرجاء أعماق الأجيال، المبتلاة بقادة التنافرات والتوافقات التحريفية الخلاقة.

وفي أمة ذات تراكمات تراثية وحضارية هائلة، يصبح أي سلوكٍ فيها مُبرَّرا ومُسوَّغا، ما دامت تمتلك الكثير مما يساهم في التعضيد والإسناد، فمخزون الأمة المعرفي كفيل بحمل جميع وجهات النظر والتعليلات اللازمة لأي سلوك، وفقا لمهارت الإنتقاء المغرض،  وفي هذا مَكمَن الخطر والبلاء الوخيم!!

وعليه فمن واجب أبناء الأمة المتبصرين وعيّ هذه التفاعلات والسلوكيات، ورفضها ونكران تبريرها وترويجها، ومن المسؤولية تفنيدها، والأخذ بعقل الأمة إلى ما هو صالح ونافع، ومتفق مع جوهر رسالتها الإنسانية الحضارية، وقيمها الأخلاقية السلوكية، وتقاليدها الرحيمة الجامعة الضامة لللتنوعات الحية بمفرداتها وعناصرها المتعددة، لأن قوة جوهر الأمة في حيوية إرادة الإعتصام بالذات الوحدانية، والجريان الدفاق في نهر الإنسانية المطلق.

وهكذا فأن معرفة التراكمات السلبية وتحجيمها، والأخذ بعقول الأجيال إلى فضاءات التنوير والتبصير، ستساهم في إطفاء مواقد النيران المتأججة، وإنتشار النور الرحماني الفياض، الذي يرفد العقول والنفوس والأرواح، بأنسام المحبة والأخوة والألفة البشرية الصادقة الرائقة الباهية العطاء.

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم