قضايا

الطاقات النفسية الخفية والنهج المبيد؟!!

لغز الحياة الأزلي يكاد يصل إلى خاتمة مجهوليته، ونهاية إدراكه، فحالما تستيقظ الكائنات تجد نفسها في أتون الغياب الأبيد!!

فالموجودات المُصنّعة من التراب بقدرات كبرى يعجز عن تصورها عقل كائن مخلوق، لكن التطورات المعرفية الخطيرة أخذت تكشف عن بديهيات وحقائق صادعة!!

فواقع الوجود الأرضي عبارة عن كرة وعائية ذات دريئة غازية تغلفها وتحميها من المداهمات الخطيرة التي تستهدفها، وبدورانها تحاول أن تمنع سَدادة التهديف نحوها، من قبل العاديات المتناثرات من حولها، ويساهم في وقايتها أفلاك الدوران المرهونة بها، وقدرات الجذب والتنافر التي تحفّها، وهي تجري بحسبان دقيق، وأي خلل في معايير حركتها يؤدي لفنائها وتناثرها، وتحوّلها إلى غبار كوني يتسرب في أبدان الأجرام الأخرى.

وهذه الكرة الوعائية المتقلبة حول الشمس، أوجدت الحياة بكافة معانيها وإمتداداتها وتفرعاتها وتنوعاتها، ونشأت على ظهرها الأحياء وعلى رأسها البشر، الذي تكاثر وساد وتسلط على المخلوقات الأخرى وإستعبدها، وحاربها وأفنى العديد منها، لفقدانها قدرات التواصل مع عدوانيته وشراهته الوحشية.

ويبدو أن عدد البشر قد وصل لمستوى لا يمكن لهذه الكرة الوعائية أن تستوعبه، لأنه أخذ يتسبب بأضرار خطيرة في دريئتها ويمضي بلا هوادة لتمزيق أغلفتها، وإعطاب أرديتها الواقية والمتوافقة مع ديمومة الحياة والبقاء الكوني، اللازم لسرمدية حيويتها وإنسجام صيرورتها في نظام مجموعتها الشمسية.

فالبشر بطاقاته الدفينة ونوازعه المنفلتة وتطلعاته الخارقة، أخذ يتسبب بتوليد العوامل والعناصر الكفيلة بقتل الأرض، وإصابتها بعاهات وأمراض كونية خطيرة ستقعدها عن الدوران، وتفتك بذاتها وموضوعها، ذلك أن ما يجري على سطحها لا ينفع معه الدوران، لهول ما يتسرب إلى داخلها من الطاقات الفتاكة الغير قادرة على إستيعابها وتحويلها إلى حالات أخرى ذات فائدة.

فوعاء الأرض معمل بتروكيمياوي يمتص طاقة الشمس والطاقات الكونية الأخرى، ويدخلها في مراجل الإستحالة والتحويل إلى موجودات تترجمها، وهي ذات قدرات محدودة وكفاءة مرسومة، وعندما تزداد الطاقة الوافدة إليها، وتتجاوز قدراتها في تكريرها وتوظيفها وتخليقها، تصاب بالإضطراب والهزال والإحتراق، وتدخل في معركة مرعبة ما بين الماء والنار، وهذا ما يلوح في أفق الدوران الذي أخذ يتعثر بما يتسبب فيه المخلوق البشري الذي تجاوز حده وأطلق رؤاه.

فالأرض لا تتحمل وعيا بشريا بهذه الكثرة والفترة الزمنية، وقد إعتادت على أن يعيش على ظهرها بشر بوعي قصير مرهون بالعمر المفروض، والحرب التي تشنها الطبيعة بما تمتلكه من فايروسات ومايكروبات، ونوازع نفوس شريرة، تساهم في تحديد فترات الوعي وتحجيم الكثرة البشرية.

وما تواجهه الأرض اليوم، أن الوعي البشري المتواصل والمتراكم، وطول عمر البشر، سيلحق بها أفدح الأضرار، مما سيرديها جثة كونية متناثرة كالغبار، لكن المشكلة تكمن في أن الأرض كائن حي ويختزن طاقات هائلة متجددة، ولهذا فهي ستحارب مخلوقاتها الضارة بها، وستتخلص من مصادر الفتك بها، وهذا يعني أن الأرض ستتوقى من الهلاك بإهلاك حملها!!

إنها تريد النجاة بنفسها، فحملها يتجدد، أما كينونتها فأنها لا يمكنها أن تتجدد إذا تناثرت، لأنها ستحل في كواكب أخرى وتلتهما المفترسات الكونية، وتحرر طاقتها بأساليب أخرى وتفاعلات مغايرة.

وعليه فلابد للبشر من إدراك سلوك الوعاء الأرضي، والتقيّد بقوانينه وأخلاقه ومعاييره، لكي يحافظ على معادلة البقاء والنماء المحكوم بإرادة الدوران ومقتضيات سلامة الأرض.

فماذا ستفعل الأرض لإعادة معادلات التفاعلات على ظهرها إلى حالة التوازن البقائي المطلوبة؟!!

لقد مضت الأرض على ديدنها في المحافظة على توازن موجوداتها، وفقا لقوانين فتاكة بقيادة الجراثيم والميكروبات وغيرها من الآفات المحّاقة المرعبة، لكن البشر إنتصر على هذه الآلات الإفنائية بالأدوية واللقاحات وأساليب الوقاية والحماية، فقد كانت نسبة موت الأطفال تتجاوز الستين بالمئة، ومع ذلك فأن الناجين منهم لا يمكنهم إتمام الرحلة لما يواجهونه من عثرات ومخاطر وتهديدات، فيموتون مبكرا ويقتصر وعيهم المعرفي على بضعة سنين وحسب.

وبما أن الأرض مخلوق ذكي وفعّال وملتزم بقوانينه ومحكوم بإرادة الدوران، فأنها تبتكر أساليبها الجديرة بالحفاظ على وجودها، وهي تعرف أن السبب الأساسي في الإنتصار على أدواتها هو العقل البشري، الذي تحسبه من أخطر أعدائها، فهو القادر على إبتكار ما تعده وتخطط لها، ولهذا فأن الأرض ستستهدف العقل البشري، وستواجه الأجيال القادمة آفات عقل لا بدن، فالبشر سيحافظ على بدنه وبايولوجيته، لكنه يوظف عقله للقضاء على هذا البدن.

وقد نجحت الأرض، فقد سخر العقل البشري طاقاته لإختراع قدرات إفنائية إمحاقية ذات تدمير خلاّق، تعجز عنها أدوات الأرض الميكروبية المعهودة، فإخترع الأسلحة التي يمكنها أن تبيد الملايين في لحظات، وسيستخدم البشر إختراعاته لإتلاف نفسه، وذلك سلوك سيلوح في أفق التداعيات المتفاقمة في أرجاء الأرض الملتهبة، فما إمتلك البشر قوة إلا وإستخدمها، ولا توجد في مسيرة التأريخ قوة مطمورة أو معتقلة بإرادة البشر.

ويبدو أن الأرض لا تعرف سوى قلبها الحيوي، الذي عهدت فيه تفاعلات العقل وولادات الحضارة، مما سيحدوها لإفنائه، لتوهمها أو إدراكها بأنه هو الذي تسبب في توفير عوامل الإنتصار على قوانينها وتطلعاتها التوازنية.

وهكذا ففي وعي الأرض أن الآفة الضارة حسب تصور مخلوقاتها، إنما هي نافعة لديموتها ولموجودتها، وهذا يعني، أن الأرض ستتخذ قرارت قاسية وغير مسبوقة، وسينفذها البشر مرغما وطائعا، وهذا ما يلوح في مدارت السلوك الكوني، والخشية من تزعزع أبجديات الحفاظ على مناهج الدوران، وتآلف الأجرام وتماسكها حول عين النار، التي تشحنها بقدرات صناعة الحياة!!

ترى هل أن الأرض نفس؟!!

إذا أقررنا بأن الحياة طاقة، فأن كل ذي طاقة حي، والأرض وفقا لهذا المفهوم كائن حي، والحي  يستجمع أشكالا متنوعة من الطاقة، ومنها طاقة النفس، وهذا يعني أن الأرض ذات نفس، وهذه النفس تكنز ما في نفوس مخلوقاتها وموجوداتها، فالنفس واحدة في ذاتها وموضوعها، وعليه فأن ما في نفس الأرض يتجسد في نفوسنا، وإرادة الأرض تمدنا بإراداتنا، ومنها تتفرع أشجار نفوسنا وأغصان صيروراتنا المتآلفة في وعاء الدوران المزّاج، فجذور النفوس راسخة في أرض دوارة ذات مكنونات فوارة ملتهبة.

وهذا معناه أن نفوسنا تعكس أو تترجم نفس الأرض، وبما أن نفس الأرض في محنة مصيرية، فنفوس موجوداتها تعاني من ذات المصير والتحدي الذي يداهمها، مما يستوجب تفاعلات ذات إنتاجية بقائية مساهمة في الحفاظ على كينونة النفس الأرضية المتماسكة.

وهذه التفاعلات تلقي بظلالها على آفاق الوجود الأرضي في عصرنا المتزعزع المرتعش، الغير قادر على التطامن في  دورق الدوران، وإنما هناك فوران صاخب وأزيز دائب، يتسبب بتناثر محتويات النفس الأرضية في رحاب مرعبة، وفضاءات مقطّبة ذات نوايا إتلافية إفتراسية متوحشة.

"ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" 10:14

و"يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار" 14:48

وتلك سنة كونية أزلية العناصر أبدية التفاعلات، وحسبنا أن نسعد بأرضنا وتسعد بنا، ولا تتأزم وتغضب علينا وتنفعل وتنطلق عدوانيتها، وتتحقق ردود أفعالها من شدة الغيض النفسي، الذي يؤججه البشر في دنياها المستعرة بالطاقات المنغرزة في بدنها، والمنشوبة في قلبها الذي يسعى لإدامة نبض الحياة في وعائها المتقلب، وحمايتها من الضواري الكونية والسوابغ الأهوالية.

"ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا" 4:132

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم