قضايا

الإعمار في العراق وكيفية التأكد من أهلية المقاولين وتحليل العروض

hashem mosawiعندما يسقط سقف مدرسة في عاصمة دولةٍ كانت تُعتبر من أكثر البلدان العربية امتلاكاً للالتزام بقوانين البناء والأمان الهندسي، ويسمع الناس الخبر بشكلٍ اعتيادي كأنه خبر عن (زواج أو طلاق إحدى الممثلات الأمريكيات)، آنذاك يجب علينا أن نتوقف أمام هذه الظاهرة بشيءٍ من التأمل والحيرة.

إن سقوط سقفٍ في مدرسة الزهاوي في بغداد، والذي كان قد رُمّم مؤخراً من قبل شركة بيكتل الأمريكية، "والله كان هو الساتر" حيث لم يكن في وقتها التلاميذ موجودون في المبنى، يُثير كثير من الأسئلة عن الاقتصاد الوطني، والاستثمارات، وقيمة الإنسان، وكيفية التأكد من أهلية المقاولين.

ولنعد إلى فترة الثمانينات من القرن الماضي عندما انهارت ثلاث عمارات في بغداد، إحداها في بداية شارع الجمهورية بين ساحة السنك ونفق باب الشرقي، والثانية في منطقة 52، والثالثة في شارع أبي نواس ضمن المباني السكنية المزودة بالطاقة الشمسية، فقد هرع المهندسون العراقيون والمعروفون آنذاك بحرصهم على الالتزام بالقواعد الهندسية إلى الاجتماع من أجل دراسة هذه الظاهرة الجديدة على هندسة المباني العراقية بعدما كانت توصف أعمالهم وجهودهم بالمثالية تجاه ما يجري في بلدان عربية أخرى مثل مصر ولبنان وغيرها (حيث تعتبر ظاهرة سقوط المباني، شيئاً عادياً ومتوقعاً في كل حين)، وتأكد لنا جميعاً بأن الموضوع لم يكن هندسياً، وإنما الجشع الذي اتصف به بعض المُلاّك في تلك الفترة الحرجة من تأريخ العراق، حيث فُقِدَت المقاييس، وكانت الدولة مهتمةً بإنجاح حملتها الإعلامية بأننا منتصرين في الحرب، وأننا أفضل ثوريين في العالم، وعلى شعوب العالم أن تدرس تجربتنا وتتعلم منها، وقد ذهبت الدعاية للإدعاء بأننا اقتربنا من إطلاق صواريخ ومركبات فضائية، وأننا صنعنا طائرة أواكس جديدة تفوق كل طائرات العالم، في مثل هذه الغوغائية كان يصعب علينا أن نتفحص ونعلن عن الأسباب الاجتماعية التي أثرت بشكلٍ سلبي على كل الجهود العلمية في شتى المجالات ومنها قطاع البناء والتشييد.

ولكني سأعود لأكون منصفاً وأذكر بأن أحد كبار المهندسين الاستشاريين في بغداد، اضطر إلى مغادرة العراق على عجلٍ قبل عقدين من الزمان مرت على الحوادث الثلاثة آنفة الذكر، بعدما انهار سقف قاعة الرباط في بغداد والتي كان هو المهندس الاستشاري لها وذلك تلافياً للعقبات القانونية، وحفاظاً على ماء الوجه، والسمعة التي يمتلكها.

إن شركة بكتيل الأمريكية، حسب ادعاء المسؤولين بأنها هي المسؤولة عن الصيانة والترميم، يؤكد لنا خطورة الفساد الإداري، ومدى تأثيره العميق على مصير الناس والمجتمع، في شتى ضروب الحياة. وبالتأكيد فإن هذه الشركة ذات السمعة الواسعة عالمياً، والتي نفّذت مشاريع كبرى في مختلف بقاع الأرض من جسور وأنفاق وإنشاءات ضخمة لا يصعب عليها ترميم مدرسة صغيرة، وهذه المقاولة تنفذها بأحد أظافر أصابع يدها اليسرى. ولكن بيع المقاولات من الباطن لأربع أو خمس مراحل أو أكثر، لتصل أخيراً إلى أسطه محلي وليس مقاولاً ليقوم بالتنفيذ أو الصيانة، يمثل التقليد والعدوى التي دأب عليها الناس في ظل الفساد الإداري المستشري، والذي أصبح ينخر في جسد هذا الوطن، والذي قد يتركه رماداً تذروه الرياح.

يُعتبر اختيار المقاول الكفء لتنفيذ المشروع من أهم القرارات التي يتخذها المالك من خلال مجموعة قرارات تمر بها دورة حياة المشروع. هذا ويستند قرار اختيار المقاول المنفذ في أغلب الأحيان على أساس أقل العروض سعراً مع إهمال الأهداف الأساسية الأخرى لتنفيذ المشروع من جودة تنفيذ ومدة زمنية مقبولة ورضاء للمالك. إن كافة الدراسات السابقة تشير إلى ضرورة اختيار المقاول الكفء وفق مرحلتين أساسيتين.

أولاهما تقييم أهلية (Prequalification) مجموعة من المقاولين المتقدمين لتنفيذ المشروع ثم تليها مرحلة تقييم عروض (bid evaluation) المتقدمين منهم الذين اجتازوا المرحلة السابقة.

كل ذلك في إطار منهجية موضوعية ذات بناء هيكلي محدد تستند على تقييم كمي لكافة المعايير بكل عملية ومرحلة من مراحل التقييم. إن معايير التقييم يجب أن تأخذ في الاعتبار كافة العوامل المؤثرة في تنفيذ المشروع من موقع تنفيذ المشروع ونوع وحجم ودرجة تعقيد المشروع والمتطلبات الفنية والمواصفات العامة للمشروع.

وأخيراً تقييم تكلفة تنفيذ المشروع بما يتناسب مع قدرات وموارد كل مقاول وحدود متطلبات المشروع.

هذا الموضوع الأكاديمي والتطبيقي، سبق وأن ألقيت بعنوانه المذكور في أعلى المقالة، بحثاً في أحد المؤتمرات العلمية في الوطن العربي، ووضعت له منظومة بمخططات انسيابية، تؤدي بالتالي إلى القرار في اختيار المقاولين والمنفذين والحاصلين على شهادة الجودة الدولية (الأيزو)، والتي تؤكد وجود إدارة جودة بشركات المقاولات هذه،ولا يسعنا هنا المجال في الخوض في تفاصيل تصنيفات عوامل التقييم لعملية التأهيل، ونتمنى أن تسنح الفرصة لتوضيح الموضوع بشكلٍ أكثر إسهاباً، ليستفيد منه المتخصص وغير المتخصص من أبناء شعبنا.. وحذار من مغبة السكوت عن مثل هذه الظاهرة (ظاهرة انهيار سقوف المدارس أو مباني عامة أو خاصة) في بلدٍ غالٍ علينا.

 

د. هاشم عبود الموسوي

أستاذ جامعي ومهندس استشاري

................................................

* مقال كتبته في بداية عام 2007، (عندما كنا نتصور إننا يمكن أن نشارك في الإصلاح) . أما تناول مثل هذه المواضيع في يومنا هذا فقد يثير السخرية، فأن ما ألفناه الآن من تدهور وإنهيار في كل القطاعات، صار أبعد من التصور عن إمكانية الإصلاح  بكثير.

 

 

في المثقف اليوم