قضايا

في الحاجة إلى تدريس الفلسفة من المهد إلى اللحد

elmrazik almustafaمرت اليوم أزيد من 30 سنة على صدور العدد الأول من مجلة "الجدل" التي كان يديرها سليم رضوان، وهي المجلة التي كانت تبحث عن إعادة الحياة إلى جثة الفلسفة الباردة، في زمن بداية انهيار "محبة الحكمة" في بلادنا. حيث كانت المجلة تعرف بالفلاسفة وتنشر نصوصا ودراسات في مجالات وحقول معرفية مختلفة، وتولي اهتماما بالمشاكل التي تواجه تدريس الفلسفة بمؤسساتنا الثانوية وبميادين فكرية وثقافية واجتماعية أخرى.

و لعل ما كانت تنشده "الجدل" هو التربية على القراءة بعمق والتنقيب عن المعنى بين سطور الدراسات والأبحاث والكتب، ورفض البديهيات والتحليلات السطحية والتأويلات الباهتة، والتعرف على إشكالات وقضايا ومواقف مرتبطة بالمجتمع والأفكار السائدة فيه، والتعريف بتجارب المدرسين وبأفكارهم واقتراحاتهم، من أجل تطوير تدريس الفلسفة والرفع من مستواهم. كما كانت تهدف إلى خلق نقاش حي، حر وموضوعي حول مستقبل الفلسفة بمدارسنا الثانوية والجامعية.

إن استحضار ذاكرة "الجدل" اليوم، هو تكريم لجيل قاوم العتمة، وحارب اليأس والاندحار والفراغ الذي كان يستقطب لصفوفه الطوائف والمذاهب. جيل كان يؤمن بسمو الفكر الإنساني ( وليست الفلسفة سوى استعارته)، جيل كان لا يريد للناس أن يكونوا نسخة متكررة من بعضهم البعض، جيل كان يناهض الموت والجمود. في زمن كانت علاقة الدولة بالفلسفة علاقة حذر واحتياط  إن لم نقل عداء وحرب  علانية، وهو ما كرس غياب الفلسفة عن النسيج الثقافي لمجتمعنا عبر إغراق المنظومة التعليمية في الوحل والخطط الترقيعية. وهو من جهة أخرى هجوم ممنهج على الفلسفة كفضاء للسؤال، للشك وللنقد، وكفضاء للمغامرة والحرية وللهجرة والترحال.

وانه لمن المشروعية بمكان اليوم، استحضار" الحق في الفلسفة " كما طالب به الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، للتعبير عن الواقع الفلسفي ببلادنا وللتحرك العاجل والقوي من أجل إعادة الاعتبار للمؤسسة التعليمية ووقف تفكيكها وانهيارها. ذلك أن المسألة التعليمية هي مسألة فلسفية كلية، وأن كل برنامج أو نوع أو أسلوب من التدريس تخترقه فكرة فلسفية يستند عليها، وتوجه –ضمنيا- وباستمرار فلسفة بكاملها.

فإذا كان العلم يستهدف وصف الظواهر ويجيب عن كيف تحدث، فالفلسفة تحاول تفسير ما وصل إليه العلم وتحاول أن تجيب عن لماذا تحدث.  فما الذي دفع السيد رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران للحديث عن الفلسفة وكأنما يتحدث عن "سوق الغزل"؟

إن حرمان المغاربة من الحق في الفلسفة من المهد إلى اللحد بالنقص من عدد ساعات تدريسها وتشجيع خطاب وفكر شعبوي لإخضاع التعليم لغاية معينة، ولتكوين مهني معين، وجعل التعليم سلعة، هو ضرب للأسس ونظريات ومبادئ الفلسفة التي تقوم على الاختلاف باعتبارها صنو الحرية، بل هي الحرية ذاتها. والدليل هو أن الفلسفة ظهرت في اليونان، ولم تظهر في مصر رغم عراقة وعمق الحضارة الفرعونية.

إن سيادة الأمية اليوم في مجتمعنا، تضع كل مكونات المجتمع أمام مسؤولية تاريخية استثنائية، فإما إصلاح المنظومة التربوية والاعتناء بالفكر الإنساني ودمج الفلسفة في كل الأطوار التعليمية من الروض إلى الجامعة، وإما سنحول مجتمعنا إلى  قبلة للتطرف والإرهاب والعنف.

لقد أكد التاريخ عداء الفكر الديني للفلسفة والفلاسفة (من تمنطق كفر، الإسلام لا يحتاج إلى فلاسفة...)، ومنع تدريس الكندي والفرابي وابن سيتا وابن رشد وغيرهم. ونتذكر جميعا حين طالب راشد الغنوشي رئيس "حركة النهضة الاسلامية" التونسية بوقف تدريس الفلسفة في الثانويات واستبدالها بنصوص حسن البنا وسيد قطب وغيرهم من مؤسسي التارات الإسلامية المتطرفة.

لهذا لم يعد مسموحا للدولة التشجيع على سيادة معارف مضادة لدور المدرسة الحديثة، ولم يعد مسموحا لها بدخول أي إصلاح محمول على صهوة التبعية والتخلف والنكوصية.

 

المريزق المصطفى/المغرب

 

 

في المثقف اليوم