قضايا

الشباب والخروج من الواقع

يحمل الشباب آلاف الآمال في أذهانهم وكل واحد منهم يصور نفسه قد أصبح قريبا من تحقيق تلك الأماني والآمال العريضة , لكنه يصحو في يوم من الأيام فيجد إن البخار هو كل ما بقي له من تلك الأماني فلا توجد مخططات ولا توجد مشاريع مستقبلية وكأنه استيقظ في عالم من السراب المترامي الأطراف .

ونحن في الأغلب لا نشعر بهذا الشاب وهو يقاسي ضياع تلك الأمور واضمحلالها يوما بعد آخر , وربما نعجب من ذهاب بعض الشباب إلى عالم آخر ليس له ارتباط بالواقع وإنما هو مجرد أوهام صنعها لنفسه حتى يبث فيها همومه وآلامه , وصارت هذه الحالة واسعة الانتشار بل صارت محببة إلى بعض القلوب من غير الشباب لأنها خفيفة مثل الوجبة السريعة التي يتناولها الإنسان وهو واقف في باب محل لبيع الطعام والوجبات السريعة.

ويقول بعضنا أن هؤلاء الشباب فارغون ليس لهم هموم وليس عندهم مشاكل لأنهم يقضون وقتهم في كتابة هذه المشاركات التي تسمى بالمزاح المأساوي أو التهكم المرح وهي الصفة التي تحبب هذا العمل إلى نفوس هؤلاء الفتية المحبطين والمتعبين.

إن هذا العمل بحسب نظر الكبار يبدو غير مقبول لدينا لأنه مضيعة للوقت فما الذي يدعو الإنسان إلى الخروج عن هذا العالم والذهاب إلى عالم ليس فيه قيود أو ضوابط أو قيم ؟!!

أليس من الأفضل أن يجنب الإنسان نفسه أماكن الشبهة والتهمة ويقضي وقته متفائلا لا يكاد يكدر باله شيء من أمور الحياة أبدا ؟؟

ويزيد هذا العمل سوءاً في نظر البعض انه فرح مبتكر وهو في الحقيقة كدر مستقر يفقد الإنسان توازنه ووقته وجهده من دون فائدة ترجى...

إلا أن التمعن في طيات هذه الظاهرة يجعل المرء يقف مؤيدا أحيانا  أو محايدا على اقل تقدير من جنوح الشباب نحو تضييع وقتهم في مثل هذه الأمور ويعلل ذلك بان الشاب لم يكن يخطط يوما لتضييع هذا الجهد الكبير والوقت الطويل لكن الظروف التي وضع فيها جعلته يهرب من هذا الواقع المرير إلى عالم من خيال وفرح مصطنع حتى يعيش لحظته ليس مدينا للزمن بدمعة شوق أو صرخة حزن أو صيحة الم كما ينبغي له أن يصنع لولا هذا الخروج إلى المجهول .

والتعجب من فعله هذا يزداد يوما بعد آخر في طريق الزوال لان مبررات هذه الأعمال التي اختطها الشباب لنفسه بعيدا عن دنيا الكبار تدعوه إلى الانزواء والابتعاد والانطواء عن المجتمع القاسي في أحكامه والذي لا يراعي حرمة لآمال الشباب ولا يكاد يلتفت لهم أبدا .

وبعيدا عن الأحكام القاسية والبعيدة عن الواقع في كثير من الأحيان نجد أن عدد هؤلاء الهاربين يزداد يوما بعد آخر وعدم الشعور بهم سيزيد من الهوة بيننا وبينهم , وبينما هم يسيئون الظن بنا لأننا لا نشعر بآلامهم نجد البعض قد يقرع الهارب دون أن يسمع لحجته ,وكلما زاد البعد بين الطرفين فان إساءة الظن هي التي ستحكم العلاقة في السنوات القادمة,وهذا الوضع إذا بقي من دون علاج فان عملية إعادة الود والمحبة بين الطرفين ستتعذر مع الوقت وستصبح أمرا يصعب التكهن بنتائجها .

ومثل هذه الظواهر في مجتمعاتنا تعد نماذج بسيطة لما عليه الشباب في بقية الدول التي ابتلت بشتى أنواع المظاهر التي أخذت من ذهنية الشباب الحجم الأكبر واستولت على اهتماماتهم طوال هذه السنوات وتنوعت تلك الاهتمامات إلى شتى صروف الغرابة والخروج عن المألوف .

وكان الشاب في أوربا كالشاب عندنا قد أصيب بخيبة أمل جعلته يظن أن طريقه إلى الخلاص هو ابتكار طرق جديدة في التعامل الاجتماعي بعيدا عن الضوابط والقيم الأخلاقية واستنزف في سبيل ذلك كل ما أوتي من إمكانية على مستوى المال والسلطة حتى أصبحت المنافسة شديدة بين الشباب في المبادرة إلى الاختراع والابتكار لأشكال جديدة من صيغ الخروج عن المألوف والتباهي به بين الأقران .

فأصبحنا نرى أشكال الشباب تتغير يوما بعد آخر نتيجة التنافس بينهم على قيمة مصنوعة وهي قيمة المسارعة إلى الابتكار الخارج عن المتوقع وهذه الحالة جعلت الكثيرين في البلدان التي ابتلت بها ترضخ تحت وطأة الضغط الشعبي الشبابي الذي كان المحرك الدائم لمثل هذه الأمور حتى أصبح ذلك الأمر شيئا مألوفا حتى عند المشاهير والنجوم في المجتمع الغربي الذي أصبح يستورد تلك الصور التي تظهر بها بعض الشخصيات ليجعلها نموذجا للاقتداء على هذا المستوى من التصرف في اللباس وغيره من الأمور الخاصة .

ومادامت حالتنا ليست بهذا المستوى من السوء فمن المؤمل التفكير بصيغ بديلة يشعر الشاب معها انه داخل في اهتمامات الكبار ليس على مستوى الضبط السلوكي فقط وإنما على مستوى تحقيق الاندماج مع ثقافة المجتمع وهو الأمر الذي تطالب به كل الشعوب الغربية .

كما أن علينا السعي للخروج من حالة المتهم بعدم الاكتراث بهموم الشباب على أن يبقى الأمر هدفا أوليا ؛لنا لان هذا سيعيد لنا دورنا المحوري في التأثير على فكر الشاب قبل أن تأتي إليه الأفكار من منابع ليست سليمة ولا أمينة على مستقبل الشاب ومصلحته.

 

الشيخ جميل البزوني 

 

في المثقف اليوم