قضايا

لماذا نكره الاصطفاف في طوابيرالانتظار؟

hamid taoulostللسفر فوائد جمة، فمن الفوائد التي وفرتها لي سفريتي الأخيرة إلى فرنسا إلى جانب متعة مشاهدة الطبيعة النابضة بالحياة فقط، بمساحاتها الخضراء بلا حدود، وأنهارها المنسابة بين حقولها بلا انقطاع، وغاباتها الممتدة على كل جغرافيتها، أتاح لي أيضا الوقوف على أحد السلوكيات القيمة المنتشرة بصفة مهولة، والتي يعطيها الفرنسيون للانتظار في الطوابير والذي يمكن ملاحظته بصفة ملفتة لدى الشعب الفرنسي، بكل مكوناته، حيث قلما تصادف من يقفز متجاوزاً دور غيره في الصفوف المرصوصة أمام أي مصلحة رسمية أو غير رسمية -اللهم إذا كان واحد من المهاجرين من البلدان العربية أو من الإفريقية - في كل المحافل ووسائل النقل الخاصة والعمومية فوق الأرض أو تحتها، في أنفاق "الميترو" أو القطارات الجهوية، أومواقف السيارات، تجد الناس تقف في صفوف متراصة منتظمة، كل ينتظر دوره وفي يده كتاب أو جريدة أو مجلة، دون تزاحم أو تدافع أو احتكاك بمؤخرات النساء، ودون التحرش بهن أو التفوه بالتعبيرات النابية والكلام البديء، لأن ذلك ممنوع و محرم بالإجماع، ويعتبر درجة قصوى من الجنون لن يحمل صاحبه إلى مراكز الشرطة فقط، بل يذهب به إلى مراكز العلاج العقلي مباشرة، المقارنة حاضرة حيثما اتجهت، فالناس تقف دائما في الصفوف متأبطين الجرائد المقتناة أو المجانية التي توزع بسخاء حاتمي وصل مع بعضها إلى مليون ونصف المليون نسخة في اليوم، يقفون في المخابز لشراء خبز أو قطعة حلوى، يقفون عند صناديق الأداء بالمتاجر الكبرى، يقفون في صفوف قد تطول لمسافات من أجل اقتناء تذكرة مسرح، أو للحصول على كتاب من إحدى المكتبات العامة، أو للوصول إلى مقعد في مطعم، تقف الجموع وبأيديها الجرائد والمجلات أو كتب الجيب – الاختراع الفرنسي بامتياز-، يتصفحون فيها مواضيع خفيفة، وأخبارا و طرائف مرفقة بإعلانات بسيطة، لكنها أكثر قربا من اهتماماتهم، ونقف نحن الذين لم نتعود على نظام الصفوف واحترام الأسبقية حتى على الطرقات نقف مشدوهين متعجبين أمام مشهد صفوف الراغبين في اقتناء تذاكر الصعود لبرج "إفل" الذي ربما يقارب عدد الواقفين عند سلالمه كل أعداد السياح الذين يزورون المغرب في سنة كاملة، ونفس الصفوف نراها عند بوابات متحف اللوفر و باقي الأماكن العامة والخاصة الأخرى بباريس وبقية المدن الفرنسية..

هذا الأسلوب الراقي في التعامل اللائق اللبق مع النفس ومع الآخرين، والذي يعكس الرقي الفكري والثقافي لدى هذا الشعب؛ لاشك يبعث فينا الشفقة على حالنا وأحوالنا، ويثير مشاعر التألم والأسى في قلوبنا قبل أي شيء آخر، ويخلق لدينا إحساساً ممزوجا بالألم والإحباط والقلق والسخط والاحتقان، لا تزيله  كل تلك الطقوس الاحتفالية من الورع والتقوى والخشوع والمهرجانات المناسباتية الجماعية، والتي تخفي وراءها كل مظاهر الجهل والتخلف والهمجية، والعزوف عن القراءة المتجدر في أعماق وجداننا. خاصة إذا علمنا أن تعلقهم هذا بالنظام واحترام الآخر وتقديره، سلوك عام و تلقائي يحرص عليه الشعب الفرنسي قاطبة، في تطوعية وانشراح، مفشين معه الابتسامات العريضة، وإيماءات السلام الظريفة الموزعة بكل حاتمية، لكل من يصادفونه في طريقهم من معارف وجيران وحتى الأجانب، وكأنهم يطبقون وصية نبينا سيدنا محمد عليه الصلاة السلام في "مزايا إفشاء السلام". خلافا لنا نحن الذين نحارب السلوك الراقي بتصرفاتنا المشينة، ونروج للمنحط الذي يجعل النفوس عابسة منقبضة مكفهرة متحفزة ومتوثبة للخصام والمعاركة. لا يمكن للمرء أن ينتظر من الآخرين أن يعطوه حقه من الاحترام الطبيعي والمشروع الذي يعتقد أنه يستحقه، إنْ لم يسبقهم بنفسه في ممارسة كل الأدوار التي تظهر للناس احترامه لنفسه واعتزازه بها؛ إذ إنه كلما هانت على المرء نفسه وتعامل معها بقسوة وظلم فجرَّدها من قيمتها ولم يعطها حقها من الاحترام، كلما افتقد إلى تقدير الناس له بعدم وضعه في المكان الذي يستحقه.

الكثيرون منا لا يعرفون مكانتهم الحقيقية، فإنقسمنا إلى فريقين، واحد تنازل عن حقوقه الطبيعية والدستورية وحتى الإنسانية، والفريق الثاني يريد أن يأخذ ما ليس له به حق، ربما عن جهل، أو اعتقاد وتوهّم منهم بأن الرقيب غائب أو غير موجود عن تتبع تصرفاته، بينما هو يمارس تلويث أسمه وسمعة بلده بشيء من التصرفات أو الممارسات العبثية التي تعطي أسوأ انطباع عنه وعن بلده.

إننا لم نرقى بعد إلى فهم قيمة التعامل الحضاري التي يقدسها المجتمع الفرنسي بما فيهم السيدات والفتيات الفرنسيات عامة والباريسيات خاصة. فالحضارة والتحضر عندهم رجل وامرأة، و الثقافة لديهم لا تفرق بين البشر باختلاف النوع، فلا فرق بين ذكر أو أنثي إلا بالعمل والعطاء ومواصلة البذل من اجل مجتمع يسعد فيه الجميع بغير استثناء. والتنمية في هذا المجتمع وأمثاله تحدث التحولات الاقتصادية والاجتماعية عن طريق المشاركة الوطنية لغالبية المواطنين، لذا اعتبرت المرأة الفرنسية جزءا لا يتجزأ من مجتمع الحداثة تتجاوب مع مستجداته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية..

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم