قضايا

أقدامنا عقولنا!!

البشر مخلوق قائم، ولم يكن أفقيا ولا منكسر القامة، وهو يمشي على إثنين وليس على أربعة، ويخطو ولا يقفز.

وقامة البشر تنتهي في الأعلى برأس وفي الأسفل بقدمين، وإذا إنفرجت ساقاه شكّل مثلثا بزوايا حادة، ولا يمكن للبشر أن يشكّل مربعا بقامته، والبعض يحسب قامته قطرا لدائرة، ولكن البشر في مجمل قِوامه مخلوق مستقيم القامة ويمشي على قدمين، وله رأس وفم وأنف وعينان وأذنان ويدان، وقوامه منسجم ومتطابق في مظهره العام؟!

ولكي يمشي البشر يحتاج لرأسه، لأن فيه مقوَد وجوده وكنه حياته، وإذا فقد البشر رأسه يموت، لكنه لا يموت إذا فقد قدميه أو ساقيه، لأن رأسه سيتدبر الأمر ويبتكر ما يعينه على الحركة والإنتقال من مكان لمكان.

وفقدان الرأس لا يعني قطعه أو بتره بآلة حادة وفصله عن الجسم، فهذا معناه الموت، لكن الرأس قد ينفصل عن الجسم البشري بآلات أخرى غير السكين والسيف وغيرهما، فهناك خلع نفسي مبرمج لرؤوس الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.

وفي هذا الخلع النفسي، يتحقق الإنفصال الكامل ما بين الأقدام المتحركة والرأس، فتتيه الخطوات وتأخذ أصحابها إلى حيث إرادة المتاهات وما تتطلبه من مفاجآت وتحديات، لا قِبَل للأقدام المتخطية في دهاليزها أن تهتدي لمخرج آمن، لأن الرأس مخلوع وبوصلة بقائها معطلة، وبهذا تكون عرضة للهجمات الإفتراسية من أية قوة متربصة تبحث عن وجبة طعام جاهزة، وما أسهل صيد التائهين والإيقاع بهم في شِباك الصيادين، في متاهات الوعيد والمصير المهين.

والمجتمعات المخلوعة الرؤوس تلد مَن يتكلم بلسان أقدامها الحائرة، فتنتشر فيها الضلالات وخطب وأقوال ومنشورات البهتان، المعبرة عن التيهان وعدم القدرة على إدراك طبيعة المكان، وخصائص الزمان الذي تكون فيه، وما هي إلا في مكانٍ وزمانٍ غيره وينافيه.

وفي بعض المجتمعات المعاصرة ديسَت العقول ورُفِعَت الأقدام، فتمكن القهر والظلم والفساد وتراكم الظلام، وغاب العقل وتحوّل ما تنتجه النواهي لضرب من التخريف والسراب والأحلام، وكأن الروح لا تعود والأجيال عقيمة والرؤوس مثل أوعية دود، فلا فعل حميدٌ ولا رحمٌ ولود!!

والمجتمعات التي تعز أقدامها وتعلي من شأنها، وتهين رؤوسها وتذلها، ماذا يُرتجى منها، ألا تستحق أن تكون من ممتلكات الآخرين، الذين يقبضون على مصيرها ويحررون طاقاتها، ويستثمرونها لتقوية قدراتهم ومشاريعهم الإقتصادية التنافسية التصارعية المهيمنة على القوى الأرضية؟!!

فهل ستعود المجتمعات المنكوبة إلى رؤوسها، وتدرك أن أقدامها لا تخطو من غير الرؤوس المبصرة المدركة لخارطة المصير؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم