قضايا

وجوب إعادة النظر في المدونات التاريخية

saleh altaeiطالما أكدت في كتاباتي أننا يجب أن لا نأخذ بكل ما وصلنا عن الأوائل كمسلمات بديهية مقدسة لا يجوز محاكمتها، أو البت في صلاحيتها، فهي أولا وأخرا نتاج عقل بشري قابل للخطأ والنسيان والسهو، ولديه استعداد فطري للانسياق خلف مغريات الحياة، وتنضوي شخصيته على الكثير من دوافع الميل إلى الأهل والعشيرة والفرقة والجماعة والحزب، والإنسان، كل إنسان خطاء وفق الحديث المتفق عليه: "كل ابن أنثى خطاء وخير الخطاءين التوابون".

المشكلة أننا لمسنا وجود الخطأ، وشخصناه، وعرفنا تداعياته، ولكننا عجزنا عن إيجاد أحدا ما ممن أخطأوا، جازف واعترف بخطئه، وتاب منه، وندم عليه. والمشكلة الأكبر أن تاريخنا اللاحق، كتب من قِبَل من جاء بعد الأقدمين الخطاءين عن طريق الاقتباس والنقل دون التفات إلى الهنات الكبيرة التي وقعوا فيها، والإكراهات التي رافقت كتابتهم لتلك المؤلفات فأعطتها انطباعا مخالفا لأصلها، ربما لأن ذلك يضعهم تحت المسائلة، أو يجعل الناس تشكك بصدق نواياهم، أو حتى أن التصحيح قد يبدو ناصرا لفئة أخرى غير فئتهم، فيضعف روح المنافسة!

إن محاكمة وامتحان التاريخ الإسلامي الطويل، الممتد على أديم أربعة عشر قرنا من الزمان ليس بالأمر الهين، ولكن ـ ومن خلال الاعتماد على التاريخ نفسه ـ ممكن أن نقتنص جزئية لنتحدث عنها بصراحة، بعيدا عن المصلحية واللؤم، ولتكن كتابة السيرة النبوية أنموذجا! حيث يجد المتابع أن الأقدمين والمعاصرين، اختلفوا في تعريفها، فنلحظ مثلا أن العسقلاني في تعريفه لها، أشار إلى الغزوات دون غيرها، كما في قوله: "السِيرْ: جمع سيرة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد لأنها متلقاة من أحوال النبي(ص) في غزواته"(1)

وهناك آخرون أعطوا للسيرة معنى أوسع من معنى المغازي الضيق؛ مثل الشيخ الطناحي؛ الذي قال في تعريفها: "المقصود بمصطلح السيرة النبوية هو ما يتصل بسيدنا المصطفى (ص) من حيث الحديث عن نسبه الشريف، ومولده ونشأته، وبعثته، وصفاته، وتصرف أحواله إلى أن لقي ربه راضياً مرضياً بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وترك أمته على مثل المحجة البيضاء، فهذا هو الأصل في مصطلح "السيرة النبوية" لكنه قد استعمل أيضاً مضافاً إليه حديث المغازي والحروب التي خاضها الرسول (ص)، لإعلاء كلمة الله في الأرض، فصار هذان المصطلحان يتعاقبان على موضوع واحد، فكتاب ابن إسحاق يقال له : السيرة، ويقال له : المغازي، وقد جمع بعض المؤلفين المصطلحين في العنوان الذي اختاره لكتابه، كما ترى في كتب ابن عبد البر، وابن الجوزي، وابن سيد الناس، على أن هناك بعض الكتب التي تنصرف خالصة إلى السيرة النبوية بمعناها الأصلي الذي ذكرته، وذلك ما عرف بكتب دلائل النبوة، والشمائل، والخصائص"(2).

أما السندي فكان له رأيا آخر، فصل بموجبه بين السيرة والمغازي ظاهرا، ولكنه أبقى التواصل، وجعل لكل منهما معنى مختلفا، فقال: "تطلق السنة على أحواله المدنية(ص) والسيرة على أحواله في المغازي والجهاد"(3).

إن تنوع تعريف السيرة يكاد لا يفارق المنهج العام لكتابتها، ففضلا عن التعريفات السابقة هناك تعريف للدكتور المرصفي جاء فيه: "يراد بها التعرف على حياة الرسول(ص) منذ ظهور الإرهاصات التي مهدت لرسالته، وما سبق مولده من سمات تلقي أضواء رحمانية على طريقة الدعوة المحمدية، ومولد الرسول، ونشأته، حتى مبعثه، وما جاء بعد ذلك من دعوة الناس إلى الدين القيم.. وما جرى بينه وبين من عارضوه من صراع بالبيان والسنان"(4) وكأن كتابة السيرة موقوفة على هذه الجوانب بالذات، دون أن تكون لها علاقة تذكر بالجوانب الروحية والتربوية والتعليمة والأخلاقية، وربما يكون هذا الفهم قد جاء بدوره من كون كتب السيرة الأولى؛ التي كانت الأساس الذي اعتمدت عليه كل محاولات كتابتها تاريخيا، تشكلت من مجموعة روايات وقصص سطر بعضها السياسيون انفسهم أو أبناء السياسيين؛ مثل قصص عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان، واليهودي وهب بن منبه، ومولى آل الزبير.

أما الحديث عن تسلسل كتابتها الزمني فقد تعارض بعضه مع البعض الآخر بشكل كبير، فهناك من رأى أن كتاب الزهري كان الأساس: قال الكتاني: "وكتاب السيرة لأبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي الزهري المدني نزيل الشام أحد الأعلام التابعي الصغير، قال بعضهم: أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري"(5).

بينما ذهب الزركلي إلى أن أبان بن عثمان بن عفان هو: أول من كتب في السيرة النبوية، وسلمها إلى سليمان بن عبد الملك في حجه سنة 82، فأتلفها سليمان"(6)

وذهب الطناحي إلى أن عروة بن الزبير أول من كتب السيرة، كما في قوله: "في النصف الثاني من القرن الأول الهجري بدأ بعض التابعين في تدوين أخبار السيرة النبوية ومغازي رسول الله (ص)، ويجمع مؤرخو السير على أن أول من كتب في ذلك هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، المتوفى سنة 93هـ، وقد عاصره وتلاه نفر من التابعين الذين عرفوا بالعناية بالسيرة، وجمع أخبارها، منهم أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى سنة 110هـ، وعاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120هـ، ومحمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ، وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن حزم المتوفى سنة 135هـ "(7).

ومثل اختلافهم في الأولوية، اختلفوا بشأن صحة ما نسب من كتب إلى بعض من قيل إنه كتب في السيرة، حيث نفى مالك أن يكون ابن المسيب أو عروة أو الزهري قد كتبوا شيئا في السير، فقال: "لقد هلك ابن المسيب ولم يترك كتاباً، ولا القاسم بن محمد، ولا عروة بن الزبير، ولا ابن شهاب"(8) وهو الرأي الذي اعترض عليه الدكتور المطيري بقوله: "فهذا احتجاج فيه نظر من وجوه: الأول: أنه ثبت ثبوتا قطعيا أن لعروة وللزهري كتبا في المغازي والسير، ولا ينفي ذلك عدم علم مالك بها، على فرض صحة هذه العبارة عنه. الثاني: أن هذه العبارة مجتزأة من سياق، وهي صحيحة في حق ابن المسيب والقاسم، أما عروة والزهري فلا، فيحتمل أنه قصد ليس لهما كتب في الحديث، أو ليس لهما كتب في الفقه، أو ليس لهما كتب يحدثون منها، بل كانوا يحدثون من حفظهم، وهذا هو السياق الذي أوردها الذهبي فيه"(9)!

ودونا عن جميع الذين نسب إليهم أنهم كتبوا في السيرة نال عروة بن الزبير (23 – 93 هـ) قصب السبق نظرا لمكانته السياسية والاجتماعية، فهو ابن الصحابي الكبير الزبير بن العوام(رض). وبالرغم من نبوغه، عاش عروة مرحلة اضطراب فكري حتى أنه في أول أمره، أحرق بعض كتبه في الفقه، ثم عاد يكتب ويملي على الناس، وهذا ما جاء عن ابنه هشام بن عروة في أن أباه أحرق كتبا له فيها فقه، ثم ندم على ذلك ندما شديدا، وقال متحسرا: "لوددت أنى كنت فديتها بأهلي ومالي(10).

وقد روج أبناؤه ومولى لأبيه اسمه محمد بن عبد الرحمن الأسود القرشي لسيرته، وعنهم أخذ محمد بن شهاب الزهري (50 – 123 هـ) وعكرمة مولى ابن عباس ( 25 ـ 105 هـ) وعامر الشعبي (30 – 106هـ) وشرحبيل بن سعد المدني (30 ـ 123 هـ ) وعاصم بن عمر بن قتادة المدني (45 ـ 120 هـ) وسليمان بن طرخان التيمي البصري ( 46 ـ 143 هـ). وعن هؤلاء، أخذ محمد بن شهاب الزهري (50 – 123 هـ).

وهكذا استمر الدور والتسليم فاعلا إلى زمن محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (80 ـ 151 هـ) الذي اعتمد على رواية عروة بشكل كبير بعد أن وصلته بالنقل، وقد أخرج نحوا من 40 رواية مما جاء عن عروة، بعضها عن الزهري عن عروة، وبعضها عن هشام وعن أخيه يحيى ابني عروة عن أبيهما، وبعضها عن يزيد بن رومان، وبعضها عن صالح بن كيسان وهكذا، وأخرج عن الزهري نحوا من تسعين رواية(11)

تعتبر سيرة ابن إسحاق التي هذبها ابن هشام أصح كتب السيرة، مع أن هناك اعترافات ثابتة أن ابن إسحاق، حابى الحكام عند كتابته للسيرة، لسبب بسيط وهو أنه لم يكتب كتابه من تلقاء نفسه وإنما دونه بطلب من الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، إذ نقل الخطيب البغدادي "أن محمد بن إسحاق دخل على الخليفة المهدي؛ وبين يديه ابنه، فقال له: أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال: نعم هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى آدم(عليه السلام) إلى يومنا هذا"(12) وفي هذا القول دلالة على أن كتاب ابن إسحاق إن كان قد خلى من التحريف، وهذا أمر مشكوك فيه، فإنه لم يخل من محاباة الحكام، وكتابة ما يرضيهم، وغض الطرف عما يزعجهم .

وإن كانت سيرة ابن إسحاق قد اشتهرت أكثر من غيرها فإنها مع ذلك لم تنج من النقد وعليها الكثير من المآخذ، كما أن الدفاع عنه وعنها لا زال ساخنا إلى يومنا هذا حيث قال الدكتور أحمد شلبي الذي راجع وعلق على كتاب (وليم مونتجمري وات) الموسوم (محمد في مكة) والذي ترجمه الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ عما نقله الخطيب: "ليس معنى هذا أننا نقول إن ابن إسحاق حابى بني العباس، ونزع من تاريخ أسرتهم ما لا يرضيهم، ولكنه ربما يكون قد خفف الصياغة، كما أنه ليس من الضروري أن يكون زور تاريخ عبد شمس، لكنه ربما يكون ركز على نقاط دون سواها"(13)

فضلا عما تقدم هناك بادرة خطيرة طوينا دونها كشحا لأنها تزعزع بعض أكثر القناعات رسوخا، وهي محاولة للهروب من المشكلة إلى الأمام، لا يسهم في حلها، ولا ينجينا من تبعاتها، وتتمثل هذه البادرة بإشراف الحكام على كتابة بعض أخطر كتبنا الإسلامية وأكثرها أهمية وتأثيرا ولاسيما السيرة النبوية! حتى أن تأثيرها لا زال اليوم بنفس درجة شدته السابقة، وها هي أصح كتب السيرة يتبين لنا أنها كتبت بأمر الحاكم، وتحت إشرافه المباشر،  ولأجله، ثم يتبين من نقل آخر أن هناك سيرة أخرى، كتبت بأمر الحكام ولهم، إذ مر سليمان بن عبد الملك في زمان ولايته للعهد بالمدينة حاجاً، وأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (ص) ومغازيه، فقال أبان: هي عندي أخذتها مصححة ممن أثق به، فأمر عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في رق، فلما صارت إليه، نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال سليمان: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فأما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وأما أن يكونوا ليس هكذا!

فقال أبان بن عثمان: أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم يقصد الخليفة عثمان من خذلانه، أن نقول الحق. هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين عبد الملك لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فحرق، ولما رجع أخبر أباه بما كان، فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها"(14).

وفي حادثة ثالثة، نقل الأصفهاني عن المدائني قوله: "إن خالد بن عبد الله القسري أمر ابن شهاب الزهري أن يكتب له السيرة، واشترط عليه أن تخلوا من ذكر علي(عليه السلام) فقال له: فإن يمر بي شيء من سير علي بن أبي طالب فأذكره؟ قال لا, إلا أن تراه في الجحيم"(15).

ومن المؤكد أن هذا الأمر لم يكن موقوفا على كتابة السيرة وحدها بما يثبت أن تاريخنا تعرض إلى الاستباحة على يد الحكام والسياسيين كما يتعرض اليوم إلى تشويههم ومؤامراتهم، وهذا يوجب علينا أن نتعامل مع النقول التاريخية بكثير من الإنصاف والعلمية والحياد التام والتجرد من الأهواء لأنه لا يمكن معالجة الخطأ بخطأ مثله!

 

صالح الطائي

...........................

الهوامش

(1) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج6/ص4.

(2) محمود الطناحي، الموجز في مراجع التراجم، ص 34.

(3) السندي، استدراكات وملاحظات، ص10

(4) المرصفي، الجامع الصحيح للسيرة النبوية، م1،ج1/ص15 ـ 16.

(5) الرسالة المستطرفة، ص 106.

(6) الزركلي، الأعلام 1/27. وينظر: السامرائي، الدكتور عبد الرزاق أحمد وادي، أبان بن عثمان بن عفان وجهوده في تدوين السيرة النبوية، دراسة منشورة في مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية، المجلد 7، العدد 3، 2012.

(7) الطناحي، الموجز في مراجع التراجم لمحمود، ص 32.

(8) الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز (ت: 748هـ)، تذكرة الحفاظ وتبصرة الإيقاظ، ج1/ص84.

(9) المطيري، الدكتور حاكم، المغازي والسير علماؤها وطبقاتهم، بحث محكم بمجلة قطاع أصول الدين جامعة الأزهر ـ القاهرة.

(10) ابن معين: أبو زكريا يحيى بن معين بن عون المري (ت: 233هـ)، تاريخ ابن معين (رواية الدوري)، ج3/ص142.

(11) ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2/ص54 وما بعدها.

(12) الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، تاريخ بغداد، ج1/ص214ـ215.

(13) وات، وليم مونتجمري، محمد في مكة، ص19.

(14) ابن بكار، الزبير بن بكار بن عبدال (ت: 256هـ)، الأخبار الموفقيات، ص332-334.

(15) ينظر، الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، ج22/ص21.

 

في المثقف اليوم