قضايا

الدعوة إلى بناء المجتمع المفتوح في العالم العربي أهي ضرورة تاريخية أم ترف اجتماعي؟ (2)

والمرأة هي الأخرى قد عانت كذلك كثيرا ولا زالت تعاني وإلى غاية اليوم من ظلم المجتمعات المغلقة لها . لا لشيء سوى لكونها امرأة ظلمتها الحضارة اليونانية لكون الآلهة منحتها عقلا أصغر حجما من عقل الرجل . وعليه فهي وبصورة آلية مستبعدة من المشهد العام الرجالي تماما وأغلق المجتمع أبوابه في وجهها وبصورة لا مجال لها للإنعتاق منها أبدا ونتيجة لهذا الحكم القاسي تظهر لنا في التاريخ كراهية أو فوبيا النساء . ورغم بارقة الأمل التي منحها إياها الإسلام إلا أن القراءات المتعسفة والمبتورة والمشوهة للنص الديني القرآني قد أجهضت هذه المحاولة في مهدها . وعلى المرأة أن تنتظر القرنين التاسع عشر والعشرين حتى تستعيد ما أغتصب منها بغير وجه حق منذ أن قذفتها الطبيعة إلى حيز الوجود . ونموذج العالمة مارى كيرى Marie Curie البولندية هذه المرأة الرمز والتي هاجرت إلى فرنسا وهي لا تملك إلا أرادتها وعزيمتها الفولاذية ومشروعها وأحلامها وقد استطاعت بكل هذا أن تكسر القاعدة وتفتح هي وغيرها من النساء العظيمات الباب لبنات جنسها . فتحية أكبار لها ولهن جميعا لكسر أسوار غيتو ghetto المجتمع المغلق والذي أراد اختطاف حقوقهن تحت حجج ومزاعم بالية لصالح مجتمع مفتوح عماده الرجل والمرأة معا ولأجل صالحهما العام معا . ولكنها أي المرأة تبقى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ومع كل أسف شديد وإلى غاية يومنا هذا كائن محجور عليه، كائن تابع لا يمتلك الأهلية ليتصرف في ذاته لأن هذه هي إرادة الله حسب بعض أبناء جلدتنا . وحاشا الله العادل والذي حرم الظلم على نفسه من أن يظلم الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم وعلى صورته عاقلا وبصيرا وعالما والمرأة إنسان كما هو الرجل إنسان فكيف إذن تجرأ البعض منا على الله وقوله ما لم يقل ؟؟ .

كما أن عملية الإقصاء هذه لم يكن ضحيتها الأفراد فقط وإنما شعوب وأمم راحت ضحيتها أيضا لا لشيء سوى لأن ميزان القوة لم يكن بيدها . فبالأمس القريب فقط لم يكن من حق غير العربي القرشي تولي المهام القيادية في الحضارة العربية . ومن أراد ذلك فعليه أن يتخلى عن نسبه ويلحق نفسه بالعرب وبقريش وهذا عبر اصطناع نسب ملفق له ولعائلته . وكأن قريش أناس فوق الناس وهي الشعب المختار وغيرها الأوباش والأغيار . وهذه القاعدة أضرت كثيرا بالحضارة العربية لأنها قطعت الطريق أمام أصحاب الكفاءات ليضعوها في خدمة البشرية جمعاء . والنتيجة هي خسارة مبادراتهم والتي كان يمكن لها أن تغير مجرى الأحداث والتاريخ . وما نكبة البرامكة على يد الرشيد، تلك الأسرة الفارسية العريقة سوى كنتيجة لمثل تلك القواعد الظالمة .

ونفس الأمر تعرض له بربر شمال إفريقيا ولكنهم سوف يكسرون هذه القاعدة ويثورون عليها في مرحلة لاحقة من تاريخنا الإسلامي كما كان مع يغمراسن مؤسس الدولة الزيانية أي الجزائر الحالية والذي رد على خصومه بما معناه وهذا كما جاء في مقدمة ابن خلدون حيث قال: " أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب " . وهو نفس المنحى والذي نحاه المعز الفاطمي لمن أنكر عليه شرعية الحكم بأنه ليس قرشي . فما كان منه إلا أن استل سيفه وقال لهم هذا نسبي ثم أخرج الذهب وقال هذا حسبي . ولعل أكثر المجموعات البشرية والتي عانت وقاست كثيرا من المجتمع المغلق هم السود والذين طاردتهم لعنة أبيهم حام وإلى اليوم . وكلنا يعرف سوء حظهم فقط لأن بشرتهم سوداء . فقد تم إغلاق المجتمع في وجوههم تحت هذه الحجة العنصرية المفلسة ولكنها كانت مبررة دينيا من قبل الكنيسة في مرحلة سابقة من التاريخ البشري . وعانوا من همجية الإقصاء المنظم تحت حجة أنهم جنس لم يساهم في إنتاج وبناء الحضارة الإنسانية والتي هي بنت اليونان والرومان وأوربا وفقط حسب بعض المدعين . ولهذا فقد تم استبعادهم وبصورة فجة ولا إنسانية وأغلق المجتمع في وجههم .

وحتى الإسلام هذا الدين الذي سوى بين جميع أبناء العائلة الإنسانية قد فشل ولو بشكل جزئي في رفع هذا الظلم التاريخي الذي وقع على السود . وهذا على الرغم من مبادئه الإنسانية الداعية للأخوة بين جميع أبناء العائلة الإنسانية ككل . واحتال بعض الفقهاء وبقراءات فجة على النصوص التأسيسية له والتي تدعو للسمع والطاعة ولو كان عبدا حبشيا كما جاء في الحديث النبوي الشريف : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ , وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا " . ولكن هذا المبدأ النبيل لم نراه يطبق على أرض الواقع أبدا . وكان لزاما علينا أن ننتظر لنكولن Abraham Lincoln والذي نشكره على قراراته الجريئة والتي بموجبها تم تحرير العبيد على الرغم من الثمن الباهظ لهذا القرار والمتمثل في حرب أهلية مدمرة للو م أ .

وعلينا كذلك أن ننتظر إعادة كتابة التاريخ من جديد لكي تـُـرفع المظالم على العرق الأسود . ونحن هنا لا نوظف عبارة العرق الأسود بالمعنى العنصري وإنما فقط نستخدمها كمصلح وظيفي للدلالة فقط ولا أكثر ولا أقل من هذا الأمر ومن دون أي خلفية عنصرية كما نستخدم عبارة اليابانيين أو الأسيويين للتصنيف فقط . قلنا علينا أن ننتظر كتاب أثينا السوداء : الجذور الأفريقية والأسيوية للحضارات الكلاسيكية وبغض النظر عن مدى اتفاقنا مع آراء صاحبه أو اختلافنا معه ولكننا نتفق معه في أن الحضارة هي بنت شرعية للبشرية جمعاء ولا يمكن أن يحتكرها أي عرق أو جنس دون باقي الأجناس والأعراق البشرية الأخرى . وأيضا علينا أن ننتظر كتاب التراث المسروق : الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة وإن كنا هنا نرفض أي نزعة عنصرية ضد أي لون أو عرق . نعم لقد انتظرنا مثل هذه الدراسات حتى تهدم ولو بصورة جزئية بقايا المجتمع المغلق لصالح المجتمع المفتوح الذي نأمل أن نراه متحققا في مختلف زوايا العالم الأربع .

نعم إنه لا خيار لنا عن المجتمع المفتوح وإلا ستقلب الطاولة على من يبشرون بالمجتمع المغلق ويدعون إليه . وسوف يبني من أغلقنا الباب في وجوهم بالأمس القريب مجتمعا مغلقا يكون ضحاياه سادتهم السابقين أي الذين أغلقوا الباب في وجوههم فكانت الثورة هي السبيل الوحيد لقلب الأوضاع واسترداد المسلوب من الحقوق . كثورة العبيد بقيادة سبارتكوس Spartacus ضد روما أو ثورة الزنج ضد الخلافة العباسية والنتيجة خلق مجتمع مغلقا تتبدل فيه فقط الأدوار، فسادة الأمس هم ضحايا اليوم وضحايا الأمس هم سادة اليوم، ونبقي ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها . تبدد فيها قدرات المجتمع في معارك وهمية زائفة وتتبادل فيها الأدوار فقط ويتربص فيها هذا بذاك ومستعد لقتله ليحل محله والمبررات هنا كثيرة . ولقد صدق جون كنيدي عندما قال: " إن لم يستطع المجتمع الحر مساعدة الفقراء الكثيرين فلن يتمكن من إنقاذ الأغنياء القليلين " . وفي هذا الجو الشاذ تبقي البشرية ومع كل أسف وكما يقال تعيش في توقعات الملائكة والتي تنبأت فيها بسفك الدماء على سطح الأرض من قبل الإنسان وهذا ما نراه اليوم ويحزننا كثيرا . ولهذا توجب وضع حد للمجتمع المغلق وبناء مجتمعا مفتوحا للجميع وبالجميع وهذا لكي تتوقف عملية سفك الدماء والإفساد في الأرض تحت حجة شعب الله المختار أو حجة خير أمة أخرجت للناس أو تحت حجة الجنس الآري الأرقى والذي قدره يسود العالم وغير هذا كثير من الحجج الإقصائية الزائفة .

ولقد تأتي كل ما سبق ذكره، ذلك أن البعض منا وهي معضلة كبرى ومع كل أسف أيضا يرى في نفسه أنه هو وفقط الطريق الوحيد للنجاة وللخلاص في الدنيا وفي الآخرة، تماما كما هي نظرة الكنيسة للحياة في العصور الوسطى . ومن هنا فهو يفرض رأيه ولو كان خاطئا وبالقوة على الآخر لكونه هو الوحيد المستأمن على المقدس . وهو الوحيد الذي يعرف أسرار تفسيره له ويمتلك مفاتيح تأويله وهذا نظرا لعلاقته الخاصة مع المطلق . وهذا الأسلوب هو أسلوب هتلر وستالين وفرعون وكل من شايعهم من الطغاة والمستبدين كانوا من كانوا وأينما كانوا . والغرب وكما نراه اليوم وكما يقول القارءون لتجربته التاريخية لم ينجز هذا الصرح الحضاري المعجز والذي يقارب عمل الآلهة عبر إتباع هذا المنهج المذموم . وإنما كلنا نراه اليوم ومن دون أن يخبرنا بهذا أحد فهو يسير في طريق عقلاني يفسح الطريق لجميع أبنائه لكونه يدرك أن الحقيقة لا يمكن أن يحتكرها فريق دون آخر . وإنما الكل معرض للخطأ وللصواب . فالفشل نتعلم منه والصواب نستثمر فيه وهذا لفائدة الجميع . والطريق مفتوح وللجميع بهدف عرض مشاريعهم والبقاء للأصلح منها وللتي تثبت فائدتها ونجاعتها في حياة البشر .

والمشكلة أيضا هي أن كل واحد فينا تقريبا وحتى لا نقع في خطيئة التعميم يرى في نفسه السوبر مان Superman والرجل الخارق القادر على فعل كل شيء . أو على كأقل تقدير يرى في نفسه ماك كايفر Mac Gyver صاحب سلسلة الأكشن الشهيرة، والذي يمتلك الحلول السحرية لكل مشاكلنا اليومية . ولهذا فقد أصيب معظمنا بداء الغرور القاتل وكنتيجة حتمية لهذا فأنا على صواب ورأي لا يحتمل الخطأ ورأيك دوما خاطئ ولا يحتمل الصواب مطلقا . ولهذا فبعضنا يرفع شعار : " ما أريكم إلا ما أرى " وشعار لا تفكر فستالين يفكر في مكانك وكلها أدت إلى خراب تلك الأمم وتهدمها وانقراض بعضها . ولهذا فالأنظمة الشمولية المغلقة مرفوضة ومهما كانت المبررات التي تستند إليها، فلسفية كانت أو دينية خاصة وأن حكم الفيلسوف لهو من أسوأ أنواع الحكم كما يراه البعض وهذا ليس موضوعنا اليوم، ونفس الأمر مع رجل الدين المؤدلج وهذا لكونه متحجرا يعادى سنة التغيير ويعاندها . ونحن هنا لا نتصور كيف لرجل دين محدود القدرات الفكرية والذهنية أن يُـسَـيَّـرَ ويقود عقلا جبارا كابن رشد وابن سينا مثلا  . وهذا لكون رجل الدين في أغلب الأحيان لا تهمه العلوم التي بها تتقدم البشرية ونحن هنا لا نعمم أيضا . وإنما كل همه السيطرة على القطيع وضمان عدم خروجه من وراء الأسوار التي سجنه خلفها . ولهذا فهو يقدم نفسه على أنه حارس الفضيلة والأخلاق حسب طبعته هو ومفهومه هو لهما طبعا . وما بهذا تتقدم البشرية إلى الأمام وتمتلك الأمم والشعوب القوة المادية والمعنوية اللازمة لبقائها .

نعم إن بعض رجال الدين هم أول أعداء المجتمع المفتوح لأنهم يعتمدون في تبرير الحصول على مناصبهم لا على الكفاءة وإنما على ادعاء امتلاك الحقيقة والوصاية على العقول، وهذا خوفا من خروج كل القطيع أو بعضه عن الطريق الذي رسموه له مما سيدخله جهنم ويحول دون إقامة مدينة الله على الأرض . مما يجعلهم يتحولون إلى طغاة ومستبدين وتتحول العقيدة من وسيلة تحقيق كرامة الإنسان إلى عنصر هدم واستعباد له . وما يدعم كلامنا هذا هو ما جاء كتاب الهويّات القاتلة إذ يقول صاحبه : " لقد علّمنا القرن العشرون أنّ ليس هنالك بالضرورة عقيدة تحريريّة بذاتها فجميع العقائد قد تنحرف عن أهدافها ويشوبها الفساد، وتقوم بسفك الدماء، من الشيوعيّة والليبراليّة والقوميّة وكل ديانة من الديانات الكبرى، وحتى العلمانيّة . فلا أحد يحتكر التطرّف، وبالعكس، لا أحد يحتكر النزعة الإنسانية " . ولهذا فقد أصبحت الثورة الإيرانية مثلا وإرث الإمام الخميني ثورة مغدورة وهذا كما أخبرنا به أبو الحسن بني صدر الرئيس الإيراني السابق .

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم