قضايا

المعرفي والتكوينات اللغوية

saleh alrazukيمكن أن ننظر إلى كتلة النصوص بطريقتين:

أ ـ انطلاقا من النص: فالكتابة (بتعبير ديريك أتريدج) كتلة من النصوص، إنتاج وممارسة، تخدم في عقدة تاريخية معينة أغراضا استراتيجية، هي ليست نتاج سمات متعالية تتركب منها هذه النصوص، ولا هي الدرب الدائم إلى الحقيقة. إن للمؤسسة الأدبية مواصفات بذاتها تجعل منها شريكا غير عادي للبراكسيس اللفظي. وعلى الرغم من إمكانية تقدير أو برمجة الأصول التاريخية والمحددات الجغرافية لهذه المؤسسة على نحو تقريبي، من المستحيل احتواؤها وتدجين أفكارها ضمن البنيات والعلاقات البشرية المتكررة. وذلك بسبب التقابل والتضاد بين المعطى والمنتج، وبين الطبيعة وعكسها.

وأن لا يغيب عن البال أن الكتابة مؤسسة (وهذا يحيل إلى التكوين اللغوي للأدب باستمرار)، يعني أن لا ننسى علاقات القوة التي تتشكل فيها، ولا القوانين التي تحافظ على كينونتها. فالمنظومة اللغوية تتقاطع مع الذهن السائد لأن المعاني ليست سرمدية، وهي متحولة لفظا ومعنى.

وهذا ما يؤكد عليه دريدا في مقالتيه (في حضرة القانون) و(قانون الإبداع)، ثم في (منطق الأقوى) التي يتحدث فيها عن أبعاد تفجير برجي مركز التجارة العالمي. إنه يضع ثقته لا في التفرد فحسب، بل في الإلغاز وفي العلاقات المثمرة بين التفرد والتشابه، والتي لا تعني له مجرد تعايش إشكالي  بقدر ما تفترض إقامة بنية تكافلية. فالتفرد في هذا المقام هو لا ينفي التشابه، الذي اعتاد دريدا على تسميته حرفيا بالتعميم. على أية حال إن التلاعب الدلالي لا يمحو أثر المعنى الشامل (بالمنحى الذي يعرفه به دافيد سيبيل) لأنه يتألف من حدين، زماني ومكاني، يتبعهما دال آخر يحيل إلى سمات جنسانية من العمل اللغوي.

ب – حول النص بذاته، وليس لذاته: وهو ما يجوز لنا تسميته بـ "النفسه" (انظر دريدا، وبيرناردو أتياس). ففرادة الكلمة ـ أو العبارة ـ هي في إمكانية تفردها فحسب. وفي تفرد الأوامر غير القابلة للاستبدال ـ وندرتها ـ يكمن القضاء على القانون الذي تحمله، أو فعل تحويلها إلى قانون. إنها محكومة، إذا، بالزوال فورا. فالاستجابة تعني التبدل.  بتعبير آخر إن المرسل (صاحب التوقيع) سوف يجبر النص (الشيء) على أن يصبح دالا (إشارة).

وتتفق هذه الرؤية مع ما ذهبت كلير أو فاريل (2004) إلى تسميته بـ "أزمة التمثيل"، وهو يعني عندها أن العلامات بدأت تحيل إلى علامات مثلها، وذلك على حساب علاقتها الأساسية  بالأشياء. إذ لم يعد هنالك، منذ اليوم فصاعدا، والكلام للسيدة أوفاريل، أي ارتباط بين أنماط علاماتنا وحقيقة مركزية أو "معنى". ولقد أصبح من المسلّم به أن الصورة أو العلامة قد أصبحت أقرب إلى الحقيقي. وإن شئت بدأت تمتلئ بالمعاني، أكثر مما هي عليه الحال بالنسبة للشيء وما يمثله ظاهريا.

وهذا غير  بعيد عن طريقتنا في تفسير المعلومات. فالصورة (وهي لغة تخاطب بصرية ووسيلتنا إليها العين)، قد بدأت تنسحب من أمام الصورة التمثيلية والإشارات المتفق عليها التي ندرك معناها بالحهد العقلي. أي أن مركز اللغة انتقل من المحاكاة الطبيعية للأشياء، كما هي الحال في الصور السيلولودية، إلى تمثيل هذه الأشياء، مثلما هو الأمر في صور أشعة إكس أو الخيالات التي تنتجها الألياف البصرية والجسيمات الصغرية وسوى ذلك..(1).

وكذلك الأمر في الكتابة المؤتمتة (الحواسب الآلية)، حينما تم استبدال رموز الحقول (وهي جملة من الأوامر التي تنتجها محارف غير ذات معنى) بنواتج الحقول ذاتها، التي نعتبرها نصا قادرا على القيام بعملية التواصل. إن المسألة، إذا، لم تعد إسقاطا للأسماء على الأشياء التي ترمز إليها، بل إن العلاقة الأساسية تحولت من الطبيعة (وهذا نشاط يتم في الخارج، بمنأى عن الذات) إلى الرموز الوضعية (بعد أن أصبحت لها قيمة إنتاجية). فالمعاني الأخلاقية التي نتوقعها بالعادة من ترتيب العلاقات بين المفردات، أو استبدالها، كما هي الحال في المجاز، تحثنا على نفي الثوابت التي هي أساس العقد الاتفاقي بين الدال والمدلول. وإن هذا التعبير عن الروح، إذا جازت لنا العبارة، يخضع  لمعايير القوة. فما هو قانوني اليوم قد يكون خارج السياق في الغد. والصنو اللغوي لذلك الكتابة بالجسد، فالمفردات السيميائية الأصلية للأنوثة، قد لا تخضع لإعادة تعيين في المعنى. وهذا يؤكد أننا لا نعيد، بالفعل، صياغة المعنى الروحي للتجربة البشرية في الوجود، بل نحن نبدل الأساس النظري، أو معنى المفردات. لذلك أصبحت العلاقة بين أطراف العقد الاجتماعي ذهنية، ولا تمر بالضرورة  بالعين (2) .

وعلى فرض أن الفراسة قراءة في المعاني غير الظاهرة للأسماء، وهي خارج السياق، إن الدوال المتغيرة (والمتحولة صنعيا) سوف تحبط النبوءة. فالكتابة على الجسد، بواسطة الوشم مثلا، هو تغريب للطبيعي، وفوضى، وبمفردات جون ووكير سيطرة على نظام العلامات بما يمكن لنا أن نقرأه "هنا"، لنضيف إليه واقعا من فوقه وموجود "هناك" (3). إن القانون في اللغة هو غير الأداة. فنظام القول يفرق بين طبيعة العلاقة التي ترتبط بها المفردات، وهذا يتوافق مع تحويل الأسماء الساكنة إلى قضايا. لذلك بوسعنا أن نؤسس لحدود بين أحناس القول، نميز فيها بين ممارسات لغوية تنفي ببنيتها ماهية الرسالة المحمولة.

إن العلاقة الوهمية، في هذه الحال، بين العبارة كفعل للقول، والصياغة وهي نظام القول، لا يمكن أن تأخذ موقفا في الرسالة. فالذي ينهي الطور الوهمي في أية محاورة هو تحديد أطراف التحاور. ولكن الغموض الذي هو صفة لما تحت الشعور من الذات / في الوجود، هو أصل غموض الناتج الاجتماعي للوجدان في حالة نفيه، أو شروعنا بإلغائه. وهذا، من  ثمة، يقودنا إلى إلغاء الجزء المعلوم من الذات. إن أي نشاط لغوي، بعدئذ، سوف نعزو إليه قيمة غير ملموسة، فيتحقق للذات عناصر التقابل بين طرفي الرسالة، وهما :

أ – وهم التواصل .

ب – عناصر الموضوع الذي يجب أن نفهمه  أو أن نعيد تكوينه مع أن الرؤية بلا مادة ملموسة.

 وفي هذا المنطق التجريدي تتساوى كافة أجزاء الرسالة المكتوبة: كاتبها ولغتها ومعناها. ويتبادل الثلاثي المواقع وفق سلسلة غير متناهية، تجعل من تكرار الواقعة مهمة مستحيلة. من هنا تأتي القيمة الصنمية للامحدود الدلالي (أو التوقيع عند دريدا، السمة عند فوكو) لأنه يسترسل في كل اتجاه، ويتحلى بالميزة الخلافية، الجانب الذاتي من الموضوع الذي هو بدوره من ملحقات الآخر.

إن التوقيع، وهو اصطلاح لدريدا، يستوعب أطراف الرسالة السوسيرية التقليدية كلها في آن واحد ما عدا المرسل، لكنه لا يدل إلا على"متغير دال بخصوصية تغيره". زد على ذلك أن اللغة فيه هي نوعان من المفردات هما:

أ – المفردة  العلامة أو الدال. ويقابل في اللغة العربية صنف الأسماء بالمعنى الذي ورد في قوله تعالى (وعلمنا آدم الأسماء كلها)، حيث يتعاقب على الاسم ـ الكلمة كل من الانقطاع (الحد الدلالي وانزياحاته)، والتكرار (الحد الدال).  فنقاء العلامة لا يمكن التثبت منها إلا في نقطة من النص، حيث لا يحيل النص إلا إلى ذاته وحضوره. وهو ما يذكرنا بمفهوم الاختلاف المؤجل أو الديفيرانس عند دريدا.

ب – المفردة / الدالة  أو الكلمة في السياق. وهي النص المكتوب (التوقيع) والسلسلة المحايثة له (الآخر). وفي ذلك نوع من التعالي اللغوي على التاريخ. لكن إذا كان للكلمة في هذا المضمار سحر ميتافيزيقي فإنه ينكسر حينما نتعامل مع النص بجملته (الكل). فالبنية تحافظ على النص. والبنية هنا هي شبكة العلاقات اللغوية.

وإن اشتقاق المفهومات الاصطلاحية لتفسير ظاهرة النص، تصعب عملية الفصل بين الفلسفي والأدبي (كما هو الحال لدى دريدا، فرويد، أو جيل دولوز وغوتاري، أو حتى إدوارد سعيد)، ويصبح من المستحيل الفصل بين الهم اللغوي والهم الأسلوبي. فالأسلوب نفسره باللغة، واللغة هي ظاهرة المؤلف بالذات (الحلم والسيرورة عند فرويد)، والذي لنا أن نختزله إلى مجرد سمة أو مرسل افتراضي تتفرع عنه أطراف الرسالة كلها. وهؤلاء ينتمون إلى ثلاثة أنماط :

1 – الاسم الملفوظ في اللغة والمقروء في النص (وربما هذا هو أقربها إلى الأسلوب حسب مفهوم بوفون الكلاسيكي).

2 – العلامات التي ينص المرسل عليها بوعي أو من دونه.

3 – التوقيع الآخر. وهو البنية وقرينها. وهو أيضا ترهين الخطاب كواقعة كتابية، أو بمفردات دريدا: الآخر، والشيء على أنه الآخر. ونعرفه عادة بالتناص.

فالقضية، دائما، نوع من العلاقة اللغوية أو البنيوية بين الدال ومدلولاته، والكتابة دال لكن التأليف مدلول. وكل  عنصر كتابي وفونيم "عنصر هجائي" يرغب بقوة أن يعود إلى سيرورته الأولى، أو اسميته وشيئيته.

إنها مركزية مضادة للعقل "لا لوغوسنترية"، تحول النص بقوة الأشياء إلى عالم من الموجودات لا تحيل إلى غيرها، وكأننا على الطريق إلى  "موت اللغة".  وهكذا يصبح نص ـ الكتابة نوعا من أنواع التأليف، وتتحول الأفعال إلى حدث دال وحدوث مدلول، والأسماء إلى معان ومفاهيم، والحروف إلى غرافيمات صفرية. فيتقابل كل عنصر كتابي مع قرينه المتميز (التأليف) الذي يحقق به اختلافيته، وبذلك لم يعد بمقدور الكلمة الواحدة أن تكون صفرا في سجل المدخلات اللغوية، لأنها الأطروحة ونقيضها، أو الأنا والآخر، أو النفسه والغيره. ولعلها تؤكد بذلك مصداقية فرويد في تفسيره للواحدي المركب من أنا "إيغو" وهو "آي دي"  (شكل ب).

 1012-salih

شكل (ب)

ويلخص دريدا ذلك كله في (العنف والميتافيزيقا) (4)  بالعلاقة بين الأنا والآخر، التي تصبح عند ليفيناس علاقة بين الأنا والآخر في الذات  وعند هوسيرل علاقة بين الأنا وأنا غيري.

فالآخر من معطيات الوجه الذي يقدمه شخصيا على أنه آخر. لكن أن تكون خلف الإشارة التي تتحقق في العالم يعني بالتالي أن تكون غير مرئي من قبل هذا العالم.

إن المرء لا ينم أو يكشف عن نفسه، وليس بوسعه أن يتحقق موضوعيا (في موضوع). وكي لا يتلاشى الآخر عليه أن يحقق حضوره كغياب، وأن يبرز لا ظاهراتيا. إن الوجه لا ينتمي "إلى هذا العالم"، فهو دائما خلف شاراته وأفعاله، وهو على الدوام في حيز الأفعال والمتحققات، يقاطع ما هو كلي تاريخيا بحرية. هو أصل العالم، وأنا لا أتكلم عنه إلا بالكلام إليه، ولا أتواصل معه إلا من خلال انغلاقه (استحالة الاتصال به) وخفيته وعدم المساس به (5) . وقد توجب على الكلام أن لا يكتفي بترجمة الأفكار. وعلى الفكرة أن تكون هي الكلام ذاته، وأن يبقى الجسد بذاته لغة، كي يتمكن الظاهر من تقديم الآخر بلا استعارات. لقد أصبح الظاهر من اللغة (التراكيب والتكوينات التامة) هدفا للعنف في هذا العالم، لذلك لم يعد بمقدور النص أن يتحقق، وأصبحت المسألة من قبيل القضاء على كلمة دون التخلي عن معناها. ومثال ذلك الحذف والترادف والدلالات المتعددة التي تجتمع في دال واحد. إنه حراك لغوي من السهل علينا متابعته في انزياح المدلول (مثل تبدل معنى كلمة شبح من الباب العالي إلى المشاهدة غير الواضحة) (6)، أو انزياح الدال  استبدال thy  بـ  your) (7)، وهلم جرا...

الحذف، إذا، إخفاء لعناصر من التركيب اللغوي. إلا أن التكرار هو أول الكتابة، أو كتابة أولى للأصل الضائع، لكنه لا ينجز الأصل أبدا. فهو ليس غيابا مقابل حضور، بل أثر نستبدل به حضورا غير ممكن على الإطلاق.

إن كتابة الأصل، من غير شك، كينونة بشكل كتابة، وهي وجوده على  شاكلة ترهين رموز في نظام، أو فعل وظيفي وامتلاء حيز.

إن الحذف، باختصار، وجود مستتر لما هو قابل للتكرار (وهذه العبارة لدريدا)، وهو ليس اقتصادا في اللفظ أو في الدوال الكتابية فحسب (النظام الرمزي للكتابة) كما يعتقد شومسكي، بل تنظيم بلاغي لازدواجية الإشارة، التي تفترض العودة والتكرار لتصبح ما هي عليه، ولتحيل بانتظام إلى الـ (نفسه)، دون أن تكف عن الإحالة إلى إشارة مغايرة.

ويبدو أن القضية هي في جوهر التعارض بين الاختلافي والاختلافاني. القواعدي (الضرورة) مقابل البلاغي (الإمكان)، والمادي (الكتابة) مقابل السيكولوجي (التأليف). وقد أشار إمام علم المعاني في اللغة العربية الإمام الجرجاني إلى هذا التعارض الأساسي حينما اشتق للحذف من الضمير اسما فسماه إضمارا، وعزا إليه وظيفة إبلاغية وتجديدا بلاغيا، ونعته بـ (قلادة الجيد وقاعدة التجويد) (8). وأدخله في عداد الملفوظات الغائبة التي تتحقق في الضمير (تأويلا وتقديرا)، إما لإثبات المعنى نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة، أو لانكشاف القصد ولدليل الحال عليه، أو لذيوعه بدلالة ما يليه (وهذا أحسن للتصوير).

وبقدر ما هي الكتابة نظام هي حقيقة سيكلوجية ترتبط المعاني فيها بدوال تتعرض للمحي.  لذلك إن الأصول تتفرع وتتعدد، وتتكرر دون أن تتحقق. فالتكرار واقعة أسطورية غير ممكنة على الإطلاق، مثل الأصل تماما الذي أخذ في الميتافيزيقا الغربية أسماء عديدة منها: الجوهر، الصورة،  المفهوم، إلخ...

و قد عبر ف. س. نيبول عن هذه المعضلة بضرورة التركيز على الميثاق بين الذات (فهم الأشياء) والوعي (كيف تتفاعل الأشياء مع الذات). فالمفردات برأيه تنطوي على قلق الفروق بين المعاني، واختلاف طرائق تداول الكلمات ضمن اللغة (9) .

إن النص على أقل تقدير، وبعبارات دريدا وفوكو، تكوين مرئي للحدوثات (تقص اللغة أثرها وتهضمها الأفكار)، ومساحة للنفس المجزأة (التي تتبنى وهم الجوهر الواحدي) (10)  .

 

د. صالح الرزوق

...........................

هوامش :

1 – تفاصيل تقنية حول ذلك تجدها في مقدمة كتاب: المواصفات الفيزيائية لألياف النسيج لمورتون وهيرل، 1997، مانشستر، إنكلترا.

2 – تفصيلات ذلك تجدها في :

- The Skin We're In , by : Adam Kuper, Times Literary Supplement, 1 July 2004 .

- Never Marry A Woman With Big Feet, by :Carolyne Larrington, Times Literary Supplement, 20 May 2004 .

3 – تفصيل ذلك تجده في :

- Seizing Power, by : John V Walker, in : Postmodern culture, Volume 5 : 1, 1994 .

4 – من كتاب : Writing And Difference  .

5 – الكتاب السابق، ص 103 .

6 – قاموس مختار الصحاح للإمام محمد بن أبي بكر الرازي.

7 – انظر :

Fowler's Modern English Usage , by :H W Fowler , revised by :  Sir Ernest Gowers.

8 – دلائل الإعجاز في علم المعاني.

9 – نيبول : متابعات نيويوركية في الكتب، 1987.

10 – انظر ميشيل فوكو :  Nietzche, genealogy, History  .

 

في المثقف اليوم