قضايا

الدعوة إلى بناء المجتمع المفتوح في العالم العربي أهي ضرورة تاريخية أم ترف اجتماعي (4)

ومما سبق نستنتج بأنه ومن دون حرية الاختيار فإنه لا يمكن لنا أن نبني مجتمعا مفتوحا نضمن استمرار يته في الزمن . ولا يمكن أن نحقق التقدم للوطن والرفاه للمجتمع ، ذلك أنه وعندما تفرض على الآخر أن يسير وفق ما تخطط له أنت وكأنه بيدق تضعه أينما تريد ووقتما تشاء . فهو هنا لا يفعل ما يريده هو وإنما ما تريده أنت . ومحال هنا أن يتقن عمله ذلك أنه مفروض عليه ولا يتماهى معه أو يعانقه أصلا والإتقان يأتي من حب الشيء لا من فرضه علينا . والإتقان هنا لا يعني بالضرورة أن تنجر أعمالنا كلها ومن قبل كل الناس وبصورة نموذجية مثالية . وإنما يكون هذا في حدود الإمكان حسب مدى تحكمنا في أدوات أعمالنا ولكن مع الشغف بما نعمله حتما ستتطور أدواتنا ونرتقي في درجة إتقاننا لأعمالنا تلك وبهذا نصل إلى النجاح شبه المطلق . ولهذا توجب أن نرفع الحواجز أمام الناس ليكونوا ما يريدون هم وليس ما نريد نحن أن يكونوا عليه .

ذلك أنه ومتى فرضنا عليهم أسلوب حياة معين فسوف نخلق منهم أعداء لما وجهناهم نحن إليه ، ولن تكون هناك نية صادقة في العمل ، وسيكونون دوما على استعداد لهجره صوب ما هم شغوفون به . وحتى ولو عملوا معنا فلن نعمل بروح الفريق الواحد لأن كل واحد منا عينه على غير ما هو تحت يده . والنجاح وكما يقال يأتي من تكاثف مجهود الجميع وليس كنتيجة لجهد فرد واحد ومهما كان مكتفيا بذاته . وكيف سيكون النجاح إن كان هناك وفي فريق العمل يهوذا الاسخريوطي يعمل جاهدا لتخريبه ومن الداخل . ولكننا ومتى تركنا له الخيار فلئن لم ينجح في مشروعه فلن يعود له مجددا وسوف يغير هو بوصلة اتجاهه ولوحده ، ذلك أن الطريق الذي سلكه لم ولن يحقق له النجاح . ولئن نجح فيه فالخير سيرجع عليه هو وعلى كل من هم من حوله . ولهذا توجب علينا أن نترك المجال مفتوحا لأن يعمل كل فرد ووفق القوانين التي تحكمنا جميعا ما يريده هو . ذلك أن كل المهن متساوية من حيث النفع للمجتمع وإن كان هذا بحسب الأولويات والدرجات ويبقي دوما حكمنا هذا نسبيا .

ومما سبق توجب على البعض منا وخصوصا فئة المتدينين والذين هم يقدمون أنفسهم على أنهم أعداء للحرية وللمجتمع المفتوح بتصرفاتهم وبخرجاتهم اللامسئولة ، وربما هذا عن حسن نية منهم ونحن هنا ليست لدينا أية مشكلة معهم كأفراد ولكن المشكلة الكبيرة هي في أنهم يعتبرون مشاريعهم مقدسة وفوق النقد ، لكونها وهذا حسبهم طبعا تنبع من الواحد المطلق وعبر وحيه المقدس . وهذه هي المشكلة الكبيرة . وهنا نقول ربما تكون نيتهم صادقة ولكن النية الصادقة مع الجهل كارثة عليهم وعلينا جميعا . ونحن ذكرناهم هنا ولم نشر إلى أي اسم أو تحديد لأي فرقه أو حرب لأن القضية ليست مشكلة شخصية وتصفية حسابات . وإنما هي قضية مناقشة مشاريع مطروحة ومصير الدول والمجتمعات موضوعة فيها كلها على المحك وأي خطأ بسيط سيكلفنا جميعا غاليا . وذكرناهم أيضا لأن صوتهم هو الأعلى هذه الأيام والصوت العالي ليس دليلا أبدا على أن صاحبه على صواب فبإمكاننا جميعا أن نصرخ . كما أنهم يقدمون أنفسهم على أنهم نهاية التاريخ بتعبير فوكوياما Fukuyama والتجربة علمتنا أن لا نهاية للتاريخ وما فشل هذه الفكرة وكما دعا إليها كل من هيجل Hegel وماركس Marx ببعيد عنا .

وهنا نقول بأنه ومن أجل أن ننقض الإسلام من أنفسنا علينا أولا أن نتخلى عن كل ما سبق ذكره لأنه يعود بالضرر على الإسلام نفسه . فنتيجة لأخطائنا المتكررة تاريخيا ظهرت أصوات منددة بالإسلام ذاته ، ذلك أنها ترى بأن العيب ليس في من يحاولون تطبيقه وإنما العيب في الإسلام ذاته . هذا الدين الذي يحاول أصحابه تطبيقه منذ أن ظهر ولكنهم لم يفلحوا وعليه فالعيب فيه هو لا فيهم هم فقط ، ولذا فإنه يتوجب اجتثاثه ومن جذوره وهذا لكي ترتاح البشرية منه . هذا هو رأى بعض أخواننا ممن يشاركوننا العيش على ظهر الكرة الأرضية في الإسلام . ونحن هنا نعذرهم بعض الشيء لأنهم لم ينطلقوا من فراغ وإنما التطبيق السيئ الإسلام هو من أوحى لهم بمثل هذه النظرة السلبية والقاصرة للإسلام . ولهذا فإنه يتوجب على بعض المنتسبين له بأن يتخلوا عن خطيئة احتكاره واختطافه من قبلهم . ذلك أن الدين وكما يقول علماء الأديان له ثوابت ولكنه ليس ثابت وهذا لكون النص التأسيسي للإسلام ثابت لفظا ولكنه متغير من حيث المعنى وقد أصابوا في رأيهم كل الصواب . ولو كان الأمر غير هذا لفسر الرسول الكريم ص القرآن الكريم وانتهت المشكلة وبهذا نتفادى كل هذه الاختلافات والعداوات التي لا جدوى منها . إن عدم تركنا لهوامش نتحرك ضمنها داخل الدين نفسه هو الذي خلق التعصب والتزمت والتكفير والتخوين . فمن ليس يشاطرني نفس الرؤية الدينية فهو كافر بالدين خائن لله . وهنا نكون قد أوجدنا لأنفسنا الحجة المقدسة لقتله ماديا أو معنويا ولهذا توجب على رجال الفكر في مشاريعهم أن يتصدوا وبكل قواهم لمثل هذه الانحرافات . فالجاهل يمكن له في لحظة جهل أو طيش منه رمي رصاصة واحدة ولكن المفكر كلمة واحدة منه تقتل أمة بكاملها كما أنها تحييها أيضا ونحن هنا لا نتحدث عن المتعلم الجاهل وإنما عن الإنسان المفكر من طينة أرنولد توينبي وهابرماس ولذا يجب على أصحاب الفكر أن يتحملوا مسؤولياتهم لأن وجودهم في المجتمع وجود سيادي لا وجود ديكور وفقط .

كما أن المشكلة مع الإسلاميين اليوم هي في أن أغلبيتهم تعتقد بأنها قد اكتشفت قوانين التاريخ التي تمكنها من تحديد مسار الأحداث ونحن هنا نقتبس هذا الكلام من كارل بوبر مباشرة في معرض حديثه عن أصحاب الفلسفات الشمولية . وما يصدق على بعض الإسلاميين يصدق أيضا على من ينتهج نهجهم من أتباع أية عقيدة أو أيديولوجيا شمولية أخرى . ومهما كان مصدرها سماويا أو أرضيا حتى لا يساء فهمنا على أننا نتجنى على الإسلاميين دون غيرهم ومنهجهم وهذا الدرب سارت عليه الماركسية مثلا من قبلهم ولذلك فقد فشلت .

وعلى الرغم من كل ما سبق فإننا نقول بأن الإسلام لا يعادي المجتمع المفتوح أبدا . ونحن ذكرنا هنا الإسلام لأنه أصبح هو الدين الغالب في العالم العربي على وجه الخصوص . وهذا نتيجة لتفريغه  المتعمد من مختلف الطوائف الأخرى والتي كانت تـُـكَـوّن نسيجه الاجتماعي وتـُـثريه وإجبارها بالقوة على الهجرة فيما يشبه عملية تطهير عرقي ، نقولها بكل حسرة ومرارة . وهي جريمة في حق أوطاننا تدمي القلوب وتدمع العيون ولا يعرف مقدار ضررها إلا من يجهل الدور الريادي الذي لعبته تلك الطوائف وهذا منذ الدولة الأموية وإلى يوم الناس هذا وما يمكن أن تلعبه في المستقبل . وخصوصا دورها في حركة الترجمة أو في بعث اللغة العربية بالأمس القريب منا فقط . ومن بعد خروجها ماذا سيكون نخشى أن يكون مستقبل أوطاننا العربية وهذا من دون تلك الأقليات والتي كانت دافعا للتنافس الشريف وللتدافع الخلاق في بلداننا إلى الركود والخمول ويصبح حالنا كما كان حال إسبانيا من بعد طرد المسلمين منها بعد العام 1609 ، وهذا ما يوجزه شاعر الأندلس لوركا Federico Lorca عندما يقول : " إنها لحظة مشئومة ،  كانت نكبة ، على الرغم من أنّهم يلقنوننا العكس في المدارس • حضارة رائعةٌ ، وشعرٌ ، وفلكٌ ، وعمران ، ورقةُ شعور فريدةٌ في العالم ... ضاعت كلّها لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي جنّة البخلاء ، والتي يلعب بمقدراتها الآن أرذل البرجوازيين في إسبانيا " . وهذه هي الفجيعة الكبرى التي يخبأها لنا المستقبل ، فهل من رجل رشيد بيننا يوقف جنوننا هذا ؟؟ .

ولتجنب مثل تلك الكوارث التي عددها لوركا يجب علينا أن نبني مجتمعا مفتوحا نتعايش فيه جميعا ونعيش لأجله ، ولأجله فليتنافس المتنافسون كما يقال ، مجتمعا لكل أبنائه وبكل أبنائه . والأولى بنا أن نستقبل الآخر بالأحضان والمعانقة بدلا من الرصاص والخنجر . ذلك أن الكرة الأرضية اليوم باتت وطنا قوميا لكل أبناء العائلة البشرية وهذا مع احترامنا للخصوصيات ولتّـنوعات في مختلف أرجائها . 

نعم إن الإسلام لا يعادي المجتمع المفتوح وهو الذي يحث على المبادة الفردية ويدفع معتنقيه إليها دفعا . ولدينا من النصوص التأسيسية له الكثير منها مما يشهد لهذا الأمر . وكيف تكون المبادرة الفردية في مجتمع مغلق على ذاته يحجر على أفراده ويكسر لهم سواعدهم . والمسئولية في الإسلام فردية قبل أن تكون جماعية ولا مسؤولية بدون حرية ولا حرية من دون مجتمع مفتوح . ونكتفي بهذا القدر في هذه النقطة لأنها هي بحد ذاتها أي علاقة الإسلام بالمجتمع المفتوح لا بد من أن يخصص لها الواحد منا دراسة قائمة بذاتها .

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم