قضايا

الدعوة إلى بناء المجتمع المفتوح في العالم العربي أهي ضرورة تاريخية أم ترف اجتماعي (5)

ومن جهة أخرى نقول بأن المجتمع المفتوح لن يتحقق إلا إذا تخلينا عن نظرتنا العنصرية تجاه الآخر، من نظرتنا إليه كمنافس وعدو إلى نظرة شريك لا يمكن الاستغناء عنه أبدا . ومن نظرة الآخر إلى نظرة أخوة في الإنسانية أو في الدين. وعندها فقط سنهدم وبأنفسنا أسوار المجتمع المغلق لصالح المجتمع المفتوح . وهذا يبدأ منا جميعا ومن البيت، فأخينا في البيت شريك لنا لا عدو لنا نخطط لإقصائه . كما أقصت التوراة إسماعيل لصالح إسحاق، أو كما أقصت أيضا عيسو لصالح يعقوب، أو كما أقصت حام لصالح سام ونحن هنا نتحدث على المستوى الإنساني . ثم أن لا ترى عائلتي بأنها هي الأفضل والأشرف وباقي عائلات المجتمع مجرد رعاع وهمج تجرى في عروقهم الدماء الحمراء على عكس عائلتي ذات الدماء النبيلة الزرقاء . ثم أن ننفتح على باقي شعوب العالم وأن لا أرى في ذاتي شعب الله المختار دونها جميعا . كما فعلت التوراة عندما فضلت الساميين على سواهم من شعوب الأرض ثم فضلت اليهود على أنهم نخبة النخبة . ونفس الأمر عند بعض المسلمين والذين يرون في أنفسهم خير أمة أخرجت للناس وغيرهم حفدة للقردة وللخنازير ومغضوب عليهم وضالين . ولئن كانوا حقا كذلك فكيف يتزوج الرسول الكريم محمد ص من صفية بنت حُيى بن أخطب اليهودية أي أنه تزوج من بنت للقردة وللخنازير ؟؟ . فهل نحن أفضل منه لنتعالى عنصريا على من هم إخواننا في الإنسانية بتعبير على بن أبي طالب كرم الله وجهه . ولهذا لا يجب أن يسقطنا الصراع العربي الصهيوني في مثل هذه العنصرية المقيتة .

نعم علينا أن لا نخاف من الآخر كما كان يفعل المستعمر مع أبناء المستعمرات والذي أقصاهم وأغلق المجتمع في وجههم خوفا منهم، وخوفا على مصالحه ومن أن ينافسوه على منابع الثروة والسيادة . فقام ببناء مجتمعا مفتوحا لأبنائه وأغلقه على باقي سكان المستعمرات . ففي الجزائر مثلا كان الفرنسيون مواطنين من الدرجة الأولى ونحن كنا مجرد رعايا للدولة الفرنسية، وفي جنوب إفريقيا ابتدع البيض حيلة نظام الفصل العنصري المقيت . وماذا كانت النتيجة أنهار من الدماء وويلات بحجم الجبال لا زالت آثار جراحها لم تلتئم وإلى غاية يومنا هذا، ولا زالت تغذي الأحقاد بين مختلف شعوب العالم . وهو نفس المسلك والذي لا زلنا نراه يطبق هنا وهناك في بعض دول العالم والعالم الثالث منه على وجه الخصوص .

ولمَا كان كل هذا؟ إنه نتيجة لخوفنا من الآخر ذلك أننا لم ننل امتيازاتنا ومناصبنا بالطرق القانونية وإنما كل هذا جاء بطرق ملتوية . ولأننا هنا نعلم بأننا لسنا أهلا لكل هذا لعدم مقدرتنا على المنافسة الشريفة . ولذلك فخوفنا من ضياع كل مغانمنا يجعلنا من ألد أعداء المجتمع المفتوح والذي نعمل جاهدين لعدم قيامه لأننا نرى فيه خطرا علينا وطوفان سيجرف كل ما بنيناه . ولهذا يجب أن يبقي المجتمع مغلقا لنا ولأبنائنا من بعدنا وفقط حتى ولو كانوا ليسوا أهلا لذلك . هذا من جهة ومن جهة أخرى نحن لا زلنا عنصريين تحكما المصلحة الذاتية الأنانية والعصبية القبلية المقيتة . ولم نصل بعد إلى مرتبة تفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة هذا في عالمنا العربي خصوصا . ولا زالت ولاء آتنا للطائفة وللقبيلة وللعشيرة وللمذهب وللحزب السياسي على حساب الولاء لأوطاننا ولشعوبنا . ولهذا يجب أن يبقي وفقط أبناؤنا وأبناء طوائفنا ومذاهبنا هم فقط الأطباء والمهندسون ورؤساء الجامعات . ذلك أننا نخاف من ضياع امتيازاتنا . وعندما نضع أقاربنا في تلك المناصب فإننا وبهذا العمل نضمن استمرار وجاهتنا وتمتعنا بالامتيازات وبالحقوق حتى ولو كانت غير شرعية، لأننا شعوب تحكمها الأهواء لا القوانين .

وبعد الذي سبق علينا أن ننتبه إلى أن الكفاءة أولى من العرق ومن الإثنية والمذهب، الكفاءة تحررنا من التبعية لأي كان . وولاءنا يجب أن يكون لوطننا ولشعبنا وفقط ولمصلحة بلادنا ذلك أنه يجب أن لا نكون مسئولين إلا أمامهما حصرا . كما أن تقديم الولاء على الكفاءة يجعل ولاء الفرد للجهة التي عينته وليس للوطن ولا لشعبه . والنتيجة فرد فوق المحاسبة وفوق القانون وهذا هو الجو الذي تزدهر فيه الوصولية والانتهازية . والوصولي والانتهازي، هذا النوع من البشر لا خير فيه، لأنه يبدل الولاء حسب الفصول وحسب المتغلب فلا أمن ولا أمان فيه . وإنما ولاءه لمن يدفع أكثر ولو كان عدوا لوطنه وجل الخونة أثناء ليل الاستعمار الطويل للجزائر من هذه الفئة الرثة وهذا بشهادة الفرنسيين أنفسهم . وفي مقابل هذا نستحضر نموذج العالم الهندي المسلم أبو بكر زين العابدين عبد الكلام والذي قدم خدمات عسكرية تسليحية لبلاده ذات الغالبية الهندوسية فوق تصور حدود العقل وهو من يسمى بأبي القنبلة النووية الهندية فشتان بين هذا وذاك النوع من البشر .

إن الفرد الانتهازي والوصولي على شاكلة الوزير الغرناطي ابن كماشة لهو وفي سبيل المحافظة على امتيازاته ومصالحه الضيقة مستعد لكل شيء . فها هو ابن كماشة هذا يسلم وطنه غرناطة للملكين الكاثوليكيين إيزابيلا Isabelle وفرديناند Ferdinand، وهذا حينما لعب دورا مشبوها أثناء التفاوض حول تسليم المدينة . ولم يكتف بهذا فقط بل إنه تنصر ودخل الدير . ونحن هنا لا نلومه على تنصره فذلك أمر شخصي وحرية شخصية مكفولة للجميع . ولكننا ننتقده على الروح الانتهازية والتي طبعت شخصيته . فهو قد باع دينه ووطنه لأجل أن يعيش هو في حين فضل الفارس موسي بن أبي الغسان أن يموت لأجل أن يعيش وطنه والفرق شاسع هنا بين الرجلين . وهذا النمط من الشخصيات خطر على المجتمعات وعلى الأوطان على حد سواء . أما كانوا مع الأمير عبد القادر الجزائري لما كان هو المنتصر ثم انقلبوا عليه كالحيات لمّا مال ميزان القوة لصالح المستعمر الغاصب؟ . وبسببهم استطاع الاستعمار مدّ جذوره وإلى الأعماق ولفترة ليست بالقصيرة في أعماق الجزائر .

وهذا النوع من البشر يمارس النفاق بمعناه الدنيوي لا الديني، بحيث يقدمون أنفسهم على أنهم وطنيون من الدرجة الأولى ولكنهم في الحقيقة متخفون فقط بزي الوطنية . وهم الأخطر على الأوطان لأننا لا نعرف لا متى ولا أين سيضربون . ولقد أضروا مثلا كثيرا بالثورة الجزائرية لكونهم من أبناء البلد ويعرفون أدق التفاصيل عن الثوار الجزائريين . وضرباتهم كانت دوما موجعة وتحت الحزام، يزايدون فيها حتى على العدو نفسه ليحافظوا وبهذا المسلك على ما غنموه من مكاسب ولنيل المزيد منها، ولخوفهم من فقدانها في حالة ظهور منافس لهم من أمثالهم ولذلك فهم متطرفون إلى حد الجنون في أداء المهام التي تناط بهم فهم ومن بعدهم الطوفان كما يقال .

نعود ونقول بأنه ومما يدفعنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي عموما إلى تقديس المجتمع المغلق وإلى معادة المجتمع المفتوح هو ظاهرة غياب سيادة القانون . وبالتالي فلا بقاء لنا إلا عبر ولاء آتنا الضيقة والتي عبرها تحقق مصالحنا وفي غياب سيادة القانون فظهرت هي كبديل مثالي له . ومن جهة أخرى نحن شعوب فاقدة الثقة في ذاتها غير قادرة على أن تتحمل مسؤولية الإشراف على ذاتها وبنفسها . ولهذا فهي دوما بحاجة إلى الزعيم وإلى القائد وإلى القاطرة . وكل هذا يريحها من عبء تحمل تقرير مصيرها بنفسها ويجعلها ترتاح للعيش في الظل، ظل أولياء النعمة عليها . وبهذه الحيلة تضمن بقائها وتضمن حياتها حتى ولو كانت حياة تشبه حياة النبات . ونسينا بأن زمن ستالين الذي يفكر في مكان الشعب والذي أغناه عن عبء التفكير في مكانه قد ولى وإلى غير رجعة . وأن زمن الزعيم الأوحد والملهم قد ولى هو الآخر وإلى غير رجعة أيضا وهذا على المستوى المنظور على الأقل . وأنه يتوجب على كل فرد أن يقرر مصيره وبنفسه وإلا لجرفه التيار وإلى غير رجعة ولعاش طوال حياته على هامش مشهد الحياة . ولهذا نحن نفضل الحياة في الظل وفي هوامش المجتمع المغلق على المخاطرة وولوج عالم المجتمع المفتوح، والذي يمكن أن نضيع فيها ضياع الإبرة في كومة القش . ولكن التاريخ لا يرحم فمصيرنا شئنا أم أبينا هو المجتمع المفتوح ومن يعارضه فمصيره الانقراض فالتاريخ لن ينتظرنا ولن يكون حبيس أهوائنا وأمانينا . 

ومن جهة أخرى فنحن مجتمعات لا زالت متعطشة للتمتع بضروريات الحياة، فما بالك بالكماليات وهذا نتيجة للفترة الطويلة من الحرمان بسبب الاستعمار، أو لحالة الفقر التي كنا نعيش فيها . ولذلك فعندما يفقد عامل الأمن والأمان الاجتماعي والاقتصادي، فهنا تحل محله مشاعر الخوف من المستقبل المجهول، فيصبح كل واحد منا همه الوحيد هو خلاصه الشخصي وحيازة أكبر كم ممكن من المكاسب ومن المغانم احتياطا للمستقبل المفتوح على كل الاحتمالات . وهنا تتغلب المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية فينغلق المجتمع على ذاته ويتربص بعضه ببعض وهو لا يعلم أنه سوف يهلك جميعا عبر انتهاجه هذا المسلك الانتحاري .

ألا نعلم بأن وجودنا مرهون بوجود الآخر حتى ولو كان ذالك الآخر منافسا لنا . فما فائدة أن تكون الدولة غنية وجيرانها فقراء الشيء الأكيد أنها سوف تفلس وتتراجع إلى الخلف وهذا كنتيجة حتمية لتوقف حركة التبادل التجاري ومعها الركود الاقتصادي . ولهذا فقد تفطنت الو م أ إلى هذا الأمر بعد ح ع 2 وأرادته عالما مفتوحا . فعمدت إلى تقوية اقتصاديات الدول المتضررة من الحرب العالمية الثانية . ذلك أنه لا بقاء لها إلا ببقائهم على الساحة الدولية . وهذا ما يجب أن نتفطن له نحن كأفراد لا بقاء لنا إلا ببقاء الأخر، ولهذا يجب علينا فتح الطريق أمامه بخلق مجتمعا مفتوحا يقدس المبادرات الفردية لأن حل مشكلتي قد لا يكون في بيتي وإنما في بيت جاري وهو من يجب أن ننفتح عليه دوما وهذا الجار يمكن أن يكون فردا أو شعبا أو أمة أو دولة . وما اقتبسته الأمم والشعوب من بعضها البعض ومن فجر التاريخ وإلى يومنا هذا معروف للعام وللخاص ولا يمكنه حصره في هذه المقالة مطلقا، لكونه ولسبب بسيط هو عينه تاريخ البشرية وتراثها الذي أنتجته . والذي وصل إلينا نحن اليوم وسوف يصل لمن بعدنا وهذا ومن بعد أن سلمته يد بشرية إلى يد أخرى هي أخت لها في الإنسانية وكل هذا يدفعنا إلى أن نكون من الداعين ومن المتحمسين للمجتمع المفتوح لا إلى المجتمع المغلق . 

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

.......................

مراجع المقال:

القران الكريم 

ابن خلدون المقدمة الطبعة الثانية بيروت 1961

أمين معلوف الهويات القاتلة ترجمة نبيل محسن ط 1 ورد للطباعة والنشر والتوزيع دمشق 1999

أرسطو كتاب السياسة ترجمة أوغسطين بربارة البولسي بيروت 1957

كارل بوبر المجتمع المفتوح وأعدائه ترجمة السيد نقادي ط 1 دار التنوير للطباعة والنشر لبنان 1998

مذكرات مصالي 1898 - 1938 ترجمة محمد المعراجي منشورات anep الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007

 

في المثقف اليوم