قضايا

ما افسدته أحزاب الأسلام السياسي في الشخصية العراقية (2)

qassim salihyتوطئة: يقصد باحزاب الاسلام السياسي هنا، تلك التي استلمت السلطة او شاركت فيها بعد التغيير (2003)، ويقصد بالشخصية سلوك الفرد او تصرفاته، وحالته الوجدانية او انفعالاته، ونوعية ما يحمله من قيم أوافكار، وطرائق تعامله مع المواقف الحياتية والأجتماعية.ويقصد بـ(ما افسدته) .. التغيرات السلبية التي احدثتها احزاب الاسلام السياسي في الفرد العراقي من حيث سلوكه وحالته الوجدانية وما كان يحمله من قيم وافكار.

وبدءا نشير الى ان النظريات التقليدية في علم نفس الشخصية التي تؤكد على ثبات سلوك الفرد واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف، لا تنطبق على الشخصية العراقية، وان هذه النظريات التي ما تزال معتمدة بالمناهج الجامعية تجاهلت تأثير (السلطة) في الشخصية، وأن متابعتنا لتحولات الشخصية العراقية عبر ثلاثة عقود ونصف من الزمن يقدم اضافة معرفية نصوغها بما يشبه النظرية، هي:

(ان الشخصية تتغير عبر الزمن وعبر المواقف

وان النظام السياسي له الدور الرئيس في هذا التغيير).

كنا تناولنا في الحلقة الأولى ما فعلته احزاب الاسلام السياسي من اذكاء التعصب بانواعه، فيما نركز في هذه الحلقة على ما افسدته في القيم .. منوهين بدءا الى ان اختلاف الناس في القيم هي السبب الرئيس في الصراع لأنها هي التي تحدد اهداف وسلوك الانسان، ولأن اعمارها اصعب بكثير من اعمار وطن.

2.عدم الالتزام بالقيم الدينية.

كنّا اشرنا بمقالة سابقة في (المدى)، ان الشخصية العراقية تلتزم بالعبادات(صلاة، صوم ..) غير انها لا تلتزم بالقيم الدينية كالصدق وقول الحق مثلا. غير ان عدم الالتزام هذا كان يمارس على استحياء، فيما صار يمارس علنا في زمن حكم احزاب الاسلام السياسي، وهذه قضية خطيرة لأن المجتمع، خاصة الاسلامي، الذي لا تسوده القيم الدينية فانه يبيح لأفراده ارتكاب الافعال التي تؤذيه وتفككه.

ان السبب الرئيس لعدم الالتزام هذا هو ان الحكومة والبرلمان اشاعا فسادا فاحشا وصيروه من فعل كان يعد حراما في القيم الدينية الى شطارة وانتهاز فرصة.والأقبح على الصعيد الاعتباري للشخص:تبادل الاتهامات بالفساد بين رجال دين صاروا مسؤولين، وتورط رجال دين آخرين باعمال تحسب على الارهاب، وتناقض افعال مسؤولين (دينيين) في السلطة مع اقوالهم، وعدم امتثالهم لتوجيهات ونصائح المرجعيات الدينية .. نجم عنها انها اوصلت الفرد العراقي الى حوار داخلي مع النفس: (اذا كان اهل الدين ومن يفترض بهم ان يكونوا قدوة، غير ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني انا الانسان البسيط الى الالتزام بها .. وقد ضاقت بنا سبل الحياة؟).ما يعني نفسيا، ان الشخصية العراقية وجدت التبرير العملي لأن (تخدّر، تميت، تركن ) الوازع الديني وتبيح لنفسها عدم الالتزام بالقيم الدينية، الأمر الذي أدى الى شيوع الكذب، النفاق، التزلف، واللاحياء .. وعاد الطيبون من العراقيين يبكون على قيم نبيلة تراجعت، تفككت، انهارت .. وكان السبب هم قادة احزاب الاسلام السياسي.

 

3.الوصولية.

تعني الوصولية هنا ان الفرد يسعى للوصول الى هدف او غاية باستخدام اساليب غير لائقة او غير اخلاقية .. جسدتها تصرفات عدد كبير من المرشحين المحسوبين على احزاب الاسلام السياسي في استمالة الناخبين للتصويت لهم.والمؤذي هنا، اخلاقيا، ما احدثته هذه التصرفات في الناس .. وأوجعها بيع الضمير الوطني بثمن بخس، واحداث تخلخل في المنظومة القيمية للفرد والمجتمع، بخفض مرتبة قيمة المبدأية ورفع قيمة الوصولية في الهرم القيمي للشخصية العراقية .. وهذا يعني ان الشخصية العراقية ستصبح (ميكافيلية) تعتمد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة .. وهذا من اسوأ وأخطر ما حصل للقيم في المجتمع العراقي، ويتحمل السياسيون في السلطة مسوؤلية تاريخية عن تهرؤ اخلاق ستحتاج زمنا طويلا لأصلاح ما افسده وصوليون احتلوا المراكز التي يفترض فيهم ان يكونوا القدوة.

 

 

 

4. تهرؤ الضمير الأخلاقي

قد تصف (الضمير) بـ(القاضي) الذي يحاسبنا على اخطائنا، ويصفه غيرك بـ(الحارس) او (الرادع) الذي يردعنا حين نهمّ القيام بفعل غير اخلاقي، او (الرقيب) على السلوك قبل وعند وبعد الشروع بأي عمل، فيما يصفه آخرون بان الضمير هو الصدق والايمان. وفي كل الآحوال فاننا نحكم على الاشخاص بقولنا (عنده ضمير) ان كان ذا اخلاق، و(ما عنده ضمير، او ضميره ميت ) ان كان عديم الأخلاق .. ما يعني ان كل واحد منّا هو منظومة من القيم الأخلاقية، وأن الضمير هو (رئيس) هذه المنظومة .. وان هذا الرئيس هو الذي يحدد أهداف الفرد ونوعية تصرفاته مع الآخرين، فان كانت مطابقة لقيم واخلاق المجتمع الذي يعيش فيه .. قال عنه الناس (صاحب ضمير) وان خالفها قالوا عنه (ضمير سز).

وما لا يدركه كثيرون ان الضمير هو القوة الفاعلة والمؤثرة في السلوك والمواقف والانفعالات، وانه عندما يخفت او يغيب صوته يسود في المجتمع قانون الغابة وينقسم الى جماعتين:اقلية قوية تمتلك السلطة والثروة ووسائل الاستبداد تمارسها بضمير قاس متحجر ميت، واكثرية فقراء وضعفاء ومغلوب على امرهم تضطر الى الاذعان وممارسة السرقة والغش والحيلة .. بضمير يبرر ممارسة كل رذيلة تؤمن لصاحبه العيش.

ولقد تعرض ضمير الشخصية العراقية الى ضربات موجعة من ثلاثة:النظام السابق، والاحتلال، والحكومات "الديمقراطية" التي تهرأت في أزمنتها معظم الخيوط المتبقية من نسيج الضمير الاخلاقي العراقي .. بالرشا والفساد ونهب المال العام.

والمفارقة ان احزاب الاسلام السياسي التي تعتمد الاسلام عقيدة ومنهجا وسلوكا، فاقت جرائم الفساد في زمن توليها السلطة اضعاف ما كانت عليه زمن الانظمة الدكتاتورية .. حتى صار الناس يتداولون بسخرية مرّة:كان لدينا علي بابا واحد واربعون حرامي فيما الآن صاروا أربعين علي بابا وألاف الحرامية.ما يعني سلوكيا ان غياب القدوة الاخلاقية في السلطة (عبد الكريم قاسم مثلا .. الذين تعمدوا تغييبه اعلاميا!)، وعدم قيام قادة السلطة بمحاكمة فاسدين اتهمتهم جماهير التظاهرات علنا بسرقتهم ثروة تعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة .. يبرر لعدد كبير من العراقيين عدم الالتزام بما كان يمليه عليهم ضميرهم الاخلاقي.ولأن شعور اليأس من اصلاح الحال يوصل الناس الى الراحة الثانية (العجز) فان تعطيل او تخدير الضمير يجري تبريره (دينيا) ايضا من باب (الضرورات تبيح المحظورات!).

الكارثة الاخلاقية الاجتماعية التي اشغلتنا السياسة عنها هي ان الضمير العراقي مرّ في الستين سنة الماضية بثلاث مراحل، الأولى كان فيها يميز بين الحلال والحرام ويخاف الحرام، والثانية:اختلط عليه فيها الحلال والحرام ودفعه التشوش الى ان يتجاسر على ارتكاب الحرام، والثالثة:صار ارتكاب فعل الحرام عاديا بعد ان شاع الفساد ولم يعد خزيا .. اما الرابعة فسيطرق الضمير العراقي بابها ولكم ان تصفوه كيف سيكون! .. ان بقي قادة احزاب الاسلام السياسي هم الحاكمون.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم