قضايا

لاعذاب دون يوم القيامة !!

hamid taoulostلاشك أن فضح الخرافات أمر سهل وبسيط، لكن الشيئ الصعب والمعقد فيه هو كيفية إقناع المصدقين بها بأنك لست متآمرا عليهم، حيث يمكنك خداع أي كان بكذبة جديدة، لكنك لا تستطيع إقناعه بالتخلي عن الكذبة التي آمن بها لزمن طويلة، فخداع الناس أسهل بكثير من إقناعهم، لما يولده الإقناع لديهم من الصراع الداخلي بين الخوف من اكتشاف الحقيقة وبين التعرض للخداع، فيفضلون الإبقاء على معتقداتهم الفكرية رغم خطئها، على أن يعترافوا بالحقيقة، ويقبلون أن يكونوا مخدوعين على أن يقرووا بالحقيقة التي غالبا ما تكون أشد ألما من الكذبة نفسها، خاصة إذا كانت تلك الكذبة متوارثة عبر الزمن، ككذبة ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ، الفرية ﺍﻷﻛﺜﺮ ﺷﻴﻮﻋﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﻭﺳﺎﻁ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، والتي ﻳﻌﺮﻑ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﻪ ﻋﻠﻢ باﻟﻜﺘﺎﺏ، ويﺗدبر ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ،.ﺑﺄنها ﻣﻦ ﺻﻨﻊ ﺍﻟﺒﺸﺮ ونسج خيالهم، ﻭﻣﻦ الﺍﻓﺘﺮﺍءاﺗـ التي ﻻ ﺃﺻﻞ ﻟها ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺇﻃﻼﻗﺎ، إذ أنه رغم ورود ذكر ﻛﻠﻤﺔ "ﺍﻟﻘﺒﺮ" في الكثير من الآيات ﺍﻟﻘﺮﺁنية، ﻛما في ﻘﻮﻟﻪ سبحانه وتعالى ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻻﻧﻔﻄﺎﺭ: "ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ ﺑﻌﺜﺮﺕ"، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﺘﻜﺎﺛﺮ: "ﺃﻟﻬﺎﻛﻢ ﺍﻟﺘﻜﺎﺛﺮ ﺣﺘﻰ ﺯﺭﺗﻢ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﺮ"، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﻌﺎﺩﻳﺎﺕ:"ﺃﻓﻼ ﻳﻌﻠﻢ ﺇﺫﺍ ﺑﻌﺜﺮ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ"، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﻋﺒﺲ: "ﺛﻢ ﺃﻣﺎﺗﻪ ﻓﺄﻗﺒﺮﻩ "، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﻓﺎﻃﺮ: "ﻭﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺑﻤﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ"، ﻭﻗﻮﻟﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ " ﻭﻻ ﺗﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺎﺕ ﺃﺑﺪﺍ ﻭﻻ ﺗﻘﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﺮﻩ "، وغيرها من الآيات، التي لم تتناول ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﺘﺤﺬﻳﺮا من "ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺍﻟﻤﺰﻋﻮﻡ"، ﻭلو ﻣﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻲ كتاب الله ﻛﻠﻪ، كما هو الحال مع عذاب جهنم، الذي حذر الله منه عباده في ﻋﺪﺩ ﻻ يحصى من الآيات ﻛﻘﻮﻟﻪ تعالى: 'ﺇﻥ ﺟﻬﻨﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻠﻄﺎﻏﻴﻦ ﻣﺂﺑﺎ"، ﻭﻗﻮﻟﻪ: "ﺟﻬﻨﻢ ﻳﺼﻠﻮﻧﻬﺎ ﻭﺑﺌﺲ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ "، ﻭﻗﻮﻟﻪ : "ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﺧﺎﻟﺪﻳﻦ ﻓﻴﻬﺎ "، وﻗﻮﻟﻪ: " ﻟﻬﻢ ﻋﺬﺍﺏ ﺟﻬﻨﻢ "، ﻭﻗﻮﻟﻪ : "ﻫﺬﻩ ﺟﻬﻨﻢ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﻨﺘﻢ ﺗﻮﻋﺪﻭﻥ "، وغيرها كثير من الآيات ﺍﻟﺘﻲ ﺬﻛﺮ الله فيها ﻋﺬﺍﺏ ﺟﻬﻨﻢ ووﺻﻒ ﻛﻴﻒ ﻳﻌﺬﺏ فيها ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ وﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﺘﻲ يعذبون ﺑﻬﺎ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﻻ نﺠﺪ آية ﻭﺍﺣﺪﺓ يﺻﻒ فيها ﺍﻟﻠﻪ ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ، كما يدعي ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺧﺘﻠﻘﻮﺍ تلك الفرية التي يتم فيها العذاب–حسب زعمهم-باﻟﻤﻄﺎﺭﻕ ﻳﻀﺮﺏ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻤﻴﺖ ﻓﻴﻐﻮﺹ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﺛﻢ ﻳﻌﻮﺩ مرة أخرى لتتكرر الضربات إلى ما لا نهاية، العذاب الذي يفرض في عودة الحياة الميت في قبره ليحس به بالألم، وإلا انطبق عليه قول الشاعر: "وما لجرح بميت إيلام"، الأمر الذي ﻨﻔاه الله سبحانه وتعالى بقوله في الدخان: إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم، وبقوله ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨﻤﻞ عندما خاطب رسوله: " ﺇﻧﻚ ﻻ ﺗﺴﻤﻊ ﺍﻟﻤﻮﺗﻰ ﻭﻻ ﺗﺴﻤﻊ ﺍﻟﺼﻢ ﺍﻟﺪعاء ﺇﺫﺍ ﻭﻟﻮﺍ ﻣﺪﺑﺮﻳﻦ، ﻭﺃﻳﻀﺎ بقوله في ﺳﻮﺭﺓ ﻓﺎﻃﺮ: "ﻭﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﺑﻤﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ"، وذلك لأﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ ﻻ ﻳﺴﻤﻌﻮﻥ، ﻋﻠﻰ ﻋﻜﺲ ما يشيعه الجهلة من خرافة وسفاهة عقيدة وينسبونها ﻟﻠﻪ ﻭلﺭﺳﻮﻟﻪ ﺑﻬﺘﺎﻧﺎ وﺑﻐﻴﺮ ﻋﻠم، أو بعلم وترصد، قصد تخويف المجتمعات وارعابهم بأﻣﺭ ﻐﻴﺒي ما أنزل الله به من سلطان، ولم يذﻛﺮﻫ سبحانه ﻓﻲ كتابه العزيز ولم ﻭيﺣﺚ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻬ كما فعل مع غيره من الغيبيات، ﻛﺎﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﺮﺳﻞ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﻤﻨﺰﻟﺔ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻴﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ، التي عدد ﺫﻛﺮﻫﺎ كثيرا ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، بخلاف ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ نﺠﺪ له ذكرا ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻛﻞ تلك ﺍﻟﻐﻴﺒﻴﺎﺕ، ولا أثرا في أدعية ﺍﻟﻤﺴﺘﻐﻔﺮﻳﻦ، الذين ﻛﺎﻧﻮﺍ لا ﻳﺴﺄﻟﻮﻥ الله إلا ﺍﻟﻨﺠﺎﺓ ﻣﻦ ﻋﺬﺍﺏ ﺟﻬﻨﻢ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ تﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ أي اشارة للﺗﻌﻮﺫ ﻣﻦ ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ، كما جاء ﻓﻲ قوله عز وجل: " ﻟﻠﺬﻳﻦ ﺍﺗﻘﻮﺍ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻬﻢ ﺟﻨﺎﺕ ﺗﺠﺮﻱ ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻬﺎ ﺍﻷﻧﻬﺎﺭ ﺧﺎﻟﺪﻳﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﺃﺯﻭﺍﺝ ﻣﻄﻬﺮﺓ ﻭﺭﺿﻮﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺑﺼﻴﺮ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ ﺭﺑﻨﺎ ﺇﻧﻨﺎ ﺁﻣﻨﺎ ﻓﺎﻏﻔﺮ ﻟﻨﺎ ﺫﻧﻮﺑﻨﺎ ﻭﻗﻨﺎ ﻋﺬﺍﺏ ﺍﻟﻨﺎﺭ"، كما ينتفي ذكره "عذاب القبر" في دعاء الملائكة للمؤمنين الصالحين بأن يقيهم الله عذاب الجحيم، وذلك في قوله سبحانه في سورة غافر: " الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) ..

وضدا على كل هذه الأدلة فإن غالبية المسلمين يؤمنون بأن عذاب القبر حقيقة يسلطها الله على الكافرين والعصاة في قبورهم بعد وفاتهم إلى يوم القيامة، منكرين الحديث النبوي الشريف الذي يؤكد صراحة بأنه: "لاعذاب دون يوم القيامة" أي أن بداية النعيم أو العذاب يكون يوم القيامة، بعد أن توضع الموازين القسط، وبعد الحساب والشاهد والمشهود، بدليل قوله تعالى الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47).

ومع الأسف الشديد أن الكثيرين يتمسكون بخرافة لم تظهر إلا في القرن الثاني الهجري في حديثين عن مالك، ثم ظهرت واظحة عند البخاري ومسلم في القرن الثالث الهجري، ولم ينته القرن الخامس حتى انتشرت مع نشر البيهقي لكتابه "إثبات عذاب القبر" ..

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم