قضايا

الذات الدينية المنحرفة.. تضخم الانا والغاء الآخر وشرخ الانسنة

raed jabarkhadomليس لدي الرغبة لتعرية الذات الدينية، لعموم المتدينين أو رجال الدين واقامة شيء من التحليل النفسي تجاهها، بأختلاف الاديان وتنوعاتها، لأن اقامة مثل تلك المحاولة التعسفية قد تطيح ببعض أصحاب التدين الايجابي وأصحاب الخلق الحسن وطهارة الضمير وممن يوجههم الدين وجهة روحية عامرة وطاهرة نحو الحياة والآخرين، ولا نود أن ننشىء خصومة مع الآخرين لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكننا نريد تسليط الضوء على الذات الدينية المنحرفة، والتي تعاني من تشوهات نفسية وأجتماعية وتربوية وثقافية وفكرية، تلك الذات التي تتضخم فيها الأنا لتصل الى حد الانفجار من الشعور بالغرور والتكبر والافتخار، لتخرق الارض وتبلغ الجبال طولا. تلك الذات التي لا ترى الا نفسها ولا تنظر الى غيرها أبدا، وتلك الذات سواء بصورتها الفردية (الفرد) أو بصورتها الجماعية (الجماعة). ومن المؤكد أن ما يصدر من الفرد  المنحرف من أفكار ومعتقدات وسلوك وأقوال، هي التي تحرك الجماعة التي تنساق ورائه دون نقد أو تمحيص، وعندها تفقد تلك الجماعة عقلها وروحها وفكرها، لأنها ذابت في الفرد ذوباناً مطلقاً، وأنصهرت في تلك الذات الفردية وفنت فيها وأتحدت أتحاداً مطلقاً، حتى وكأنها هي هو، ولكن بحجم أكبر وأكثر تضخماً وتورماً وسرطاناً، وعندها تحل الكارثة العظمى بالحياة وبالانسان والمجتمع، لأن أفكار أحد الاشخاص المنحرفين هي التي تقود جماعة ما بعينها، وعنديذٍ تكون أفكار تلك الجماعة المنحرفة وتفردها هي االتي تريد تحريك العالم وتغييره وتسييره وفق ما تريد وبشكل أعمى وجنوني، وعندها تحل الكارثة بالبشر والعالم والحياة، ويتهدد الوجود الانساني والكوني برمته، حين تتفرد وتنفرد وتندفع جماعة منحرفة ما بعينها لقيادة مجتمع أو دولة أو أنسان، دون الايمان بقيمة ومقام وقيمومة الآخرين في هذه الحياة، وأن الله يأبى أن تنقاد جماعة لجماعة أو فرد لفرد، او فرد لجماعة أو جماعة لفرد، دون نقد أو تمحيص أو رؤية وتحليل، ولابد من اعمال وتحريك العقل في كل شيء. لأن التقليد الاعمى للاشخاص والجماعات انما يعد نوع من الغباء والحماقة والالغاء الكامل لوجود الانسان على هذه الارض.

أن ما تفعله الذات الدينية المنحرفة ـ على مستوى الفرد أو الجماعة ـ في كل زمان ومكان، هو ايمانها المفرط بذاتها فقط ايماناً مطلقاً ليس له مثيل، ولا تُعر أية أهمية أو أحترام وتقدير للآخرين، وكأنه لا وجود لأفراد وجماعات بشرية آخرى في هذه الحياة والعالم، وهم بذلك يعادون سنن الله والكون والطبيعة في الاختلاف والتنوع والتعددية، لتعلن حالة من الغطرسة المطلقة والتفرعن والجبروت نحو "ما أريكم الا ما أرى" و "أنا ربكم الاعلى" وبذلك تعلن البشرية موتها وفنائها، لأكتفائها بنوع بشري محدد وبنمط فكري موجه دون غيره، وبجماعة معينة دون غيرها لتكون "شعب الله المختار" او "الفرقة الناجية" أو "الامة المنصورة"، وتهميش وأقصاء النوع البشري بشتى أختلافاته وتنوعاته في اللون والطبع والفكر واللسان، والتي هي سنة الله منذ خلق الانسان على هذه الارض الى ما شاء الله.

أن ما نشهده اليوم من أصولية مفرطة، وتطرف أعمى، وعنف ودموية، في العالم أجمع، انما هو بفضل تلك الافكار الجوفاء الحمقاء الرعناء، التي أحالت حياتنا الجميلة الى قبح مدقع والى جحيم لا يطاق، وأصبحت أرواحنا خراب بلقع، ووهم وسراب يقود الناس الى نهايات مجهولة ومستقبل عقيم.

أن محاولة فرض الارادات، وتجنيد الافكار المنحرفة، وفرض المركزية أو التمركز حول الذات، بشتى صورها السياسية او الدينية او الثقافية او الفكرية، دون منطق وحوار وانسانية لهو أمر سيء ومكروه لا يحتمل، ونذير سوء بضحالة تلك الافكار والمعتقدات وتفاهتها، ويباعد بين الافراد والجماعات البشرية، التي ترغب بتحقيق نوع من الهدوء والاستقرار والاطمئنان والامان فيما بينها، لديمومة التواصل وبقاء الوجود الانساني وادامة الحياة الانسانية في هذا العالم المحتقن، والذي تقوده جماعات ومؤسسات وأفراد نحو الهلاك والهاوية.

ان الذات الدينية المنحرفة انما هي ذات مرضية جنونية، ينبغي التعامل معها وفق هذا الاساس، وبالتالي ينبغي الحذر منها ومعالجتها ومواجهتها بشتى الطرق والاساليب، وهي بحالها هذا تهدد الوجود الانساني والحياة برمتها، وهذا ما نلمسه في أفكار وسلوك ومعتقدات الحركات والتجمعات الارهابية المتطرفة في العالم أجمع، لأنها تتغذى على أفكار عنفية وأصولية منحرفة، وبالتالي سيكون وجه العالم نتيجة تلك الافكار، نهاية مأسوية تهدد الوجود الانساني على هذه الارض.

وان ما ينطبق على الذات الدينية المنحرفة، ( بصورة الفرد او الجماعة او المؤسسة او الطائفة او الحزب او القومية) ينطبق على جميع الذوات الاخرى، من ثقافية وفكرية وسياسية، لأن محاولة أشاعة نمط فكري أو ثقافي أو سياسي محدد بعينه على جماعة ما، وبالقسر والاكراه، أنما يعد نوع من التطرف والغطرسة والتفرد في أشاعة العنف والكراهية بشتى صورها، وهو أمر عدواني لا يحتمل، ومنطق دكتاتوري لا يطاق، وهذا ما يغزوا العالم اليوم، وما نراه من أحداث ومحن وحروب، أنما هو نتيجة ذلك المنطق المنحرف والمعتقدات الجائرة التي تفرض على الافراد والمجتمعات من قبل جماعات متغرطسة تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها بما أوتيت من قوة ومال وسلاح، دون الايمان بالانسان والآخر بشتى صوره وأختلافاته. وهذا ما يؤدي الى شرخ الانسنة ومسخ انسانية الانسان، والاطاحة بالوجود البشري في هذا العالم، الذي لا يحتمل التشويه الى هذا الحد المقيت والمزري، في حياتنا المعاصرة، والتي تحول كل شيء فيها الى عدوانية ووحشية بهيمية ليس لها مثيل.                 

وان ما نحتاج اليه اليوم هو تخليص الافراد والمجتمعات من تلك الذات المريضة التي تريد فرض سيطرتها على أكبر قدر ممكن من المجتمعات البشرية، والتي على أيديها تشوهت صورة العالم والاديان والانسان، ولابد من عودة صحيحة وصالحة للتدين الايجابي وللذات الدينية الصالحة التي قدمت من الخير والصلاح والنجاح للشعوب والمجتمعات من قبل اناس طاهرين وجهوا الناس وجهة صحيحة، وكانوا في زمنهم ثورة صادقة وعادلة ضد الظلم والفساد والانحراف.

 

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم