قضايا

حميد طولست: أول مراحل المعرفة الخروج من الشرنقة!!

hamid taoulostحين يستجمع الإنسان قواه لينطلق خارج شرنقة الضعف التي ألقى بنفسه داخل إطارها، وقيد ذاته في فرضياتها البليدة التي لا تتماشى وما في دواخله من رغبات التحرر والإنعتاق،  ولا تعكس طموحاته المليئة بالأحلام، ولا تنبئ عما تحويه بواطنه من تطلعات زاخر بالآمال، فإنه لا يفعل ذلك إرضاء لغيره من الناس، وإنما يفتعله كي يقنع نفسه أولا  وقبل إي أحد غيره، بأن له حياة غير التي يفرضها عليه الآخرون، الذين هم الجحيم – كما قال سارتر- الجحيم التي جُز به فيها، أو وضع ذاته بنفسه بها، لا يهم من وضع الآخر، فالأهم هو أن المرء عندما يخرج من سجن الشرنقة، أي شرنقة، إلى خارجها، سيعتريه، لا محالة، الندم على كل لحظة قضاها بين جدران الشرنقة الذي غالبا ما يكون للناس فيها أكثر من وجه واحد، وأكثر من قناع واحد، بل ويكون لهم فيها، خلف كل وجه وقناع، أقنعة متعددة بتعدد وجوه الناس الذين يظهرونها حسب المواقف والمناسبات، ويتمسكون بها على أنها حقائق ذات وجه أو وجهين أو وجوه، حسب تفسيرات الإطار الموضوعة فيه، وجه أو حقيقة بينة معروف، ووجوه لحقائق أخرى كثيرة متوارية خلف أقنعة معرفتنا بها محدودة، أو غير معروفة البتة، مع أنها هي الأخرى حقائق -وليست خيالات- يخادع الطثيرون ويهربون من مواجهتها  ولا يجرؤون على تقبلها، كالحقيقة القائلة: "أننا نخشى ونحترس من الغرباء، مع أن كل مشاكلنا وأوجاعنا تأتي من القُرباء الذين ﻧﺤﻤﻞ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻛﻞ ﺍﻟﺤﺐ ﻭﺍﻻ‌ﺣﺘﺮﺍﻡ"، أو "كحقيقة أن المجتمعات الأكثر تدينا أو التي تدعي التدين، والتي تقول بأنّ سبب فساد الأخلاق هو نقص الدين ، هي الأكثر فسادا في الإدارة، والأكثر إرتشاء في القضاء، والأكثر كذبا في السياسة، والأكثر هدرا للحقوق، والأكثر تحرّشا بالنساء، والأكثر اعتداء على الأطفال، أو كحقيقة أن من يكتب عن الدين أو ينتقده خطابه، ولو لتجديده، ليس شرطاً أن يكون غير متدين او يتصنع التدين، فالكثير منهم مسلمون وأرواحهم متعطشة لرحمة خالقها ..

ورغم أن تلك الحقائق هي حقائق بينة وواضحة حتى لمن به غشاوة، فإن هناك من يدخلها متون الإطارات المكذبة التي تفوح منها روائح زغب اللحى والمسواك، والتي لا يفتقد أصحابها منطق الحوار الموضوعي فحسب، بل ويفتقدون معه كل المقومات الأخلاقية وأسس السلوك الإجتماعي الرصين، يحاولون مواجهة مخالفي طروحاتهم بكلمات بكل الوسائل حتى البذيئة منها والشتائم الساقطة التي يعززون بها آراءهم المخالفة للآخر، والتي لا تؤمن إلا بالعنف كحقيقة وحيدة متوارثة عن السلف، وكأن أحكامهم على الأمور لا يوجد فيها إحتكار للصواب ولا تأميم للحقيقة، التي لا يمتزج فيها الخطأ مع الصواب، مع علمهم إنه ليس هناك حقيقة مطلقة أو خطأ مطلق، وأختم بالمقولة التالية: أن اشرس اعداء الحقيقة هو جاهل يجهل الحقيقة ويتعصب لجهله، حتى يظن غيره أن ما يتعصب له  هو الحقيقة والصواب، فيتعصب بدوره للفهم المغلوط للحقيقة، وللرؤيا المقلوبة لمفاهيمها .

وبهذا تتأصل ضرورة تدبر كل الحقائق والانفتاح على كل ما تطرحه من أفكار، التي جب أن تخضع للمراجعة  بالشك والتشكيك، الذي  هو أول  مراحل المعرفة، ومنطلق الكثير من الأسئلة، بل كل الأسئلة على كل أصعدة العلم والمعرفة، وهو الخطوة الأولى نحو الظن، الموصول للحقيقة  الساطعة التي لا لبس فيها بين الخير والشر.. كما هو حال الفكر الغربي المعاصر الذي يتكئ على مذهب الشك الذي دعا إليه الفيلسوف رينيه ديكارت بمقولته الشهيرة: أنا أشك إذن أنا موجود. والذي هو عنده خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية، والسبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، والوسيلة الحقة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة أكثر وضوحاً..

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم